السبت، 7 سبتمبر 2013

الرد على سلسة موضوع غياب الدليل

بسم الله الرحمن الرحيم

لفت انتباهي في حوار مع شخص مقال تم نشره في مجلة الملحدين العرب في العددين الرابع والخامس، مقال يُعرف بـغِياب الدليل. هذا المقال يتناول مختلف الأدلة التي ساقها المتكلمون (أي الفلاسفة المتألهين) في إثبات وجود الله، ثم تعرّض لها بشيء من التفصيل (بلا توضيح للأسس ولا للتعريفات المعتمدة) وأقام عليها "الحجة" كما يظن، فأسقطها وأنهى أمرها حسبما يرى صاحبنا.





لقد تأملت في مقالاته واطلعت عليها، وفي الحقيقة وجدت مغالطات مخفية بين أسطرها، وأطاريح ومصادرات غريبة، ولكن المثير للإعجاب هو وقوف صاحبنا على أغلب الأدلة الكلامية، وتناولها بشكل عام، واللطيف أنه تكلم بمصطلحات المتكلمين مما يشير إلى دراسة شبه متعمقة في الأدلة الكلامية المختلفة. ولهذا فسأحاول أن يكون ردي لا رداً عليه، بل تبيان للأخطاء التي وقع فيها، وإزالة اللبس، وتوضيح الصورة قدر الإمكان، ونسأل الله التوفيق في مسعانا. بسم الله نبدأ.

أولاً وقبل أن أناقش المسألة أحب أن أنوه إلى أمر هام: المنهج اللاأدري والذي لا يقيم للاستدلالات العقلية ويقف موقف المحايد من الوجود بأنه لا يدري له أصلاً، هو موقف لا يستطيع أن يتقدم في النقاش ولا يتأخر، وبالتالي فهو لا يقدم أي تصورات توضح إشكاليات عميقة، ولهذا فأنا أعتبر أن النقاش مع اللاأدريين هو نقاش عبثي يقودنا إلى دوران في حلقة مفرغة. وعِلمياً اللاأدري لا يستطيع تقديم وصف بديل لمشكلة الوجود، وبالتالي فالنظرية الأصلية مادية كانت أم دينية ستبقى صامدة وتستمر في كونها أصل النقاش والفِكر.

ثانياً: سأتعرض بسلسة مقالات منفصلة ومتصلة بنفس الوقت لتوضيح الإشكاليات التي وقع فيها صاحبنا. فالردود ستكون لكل ما نشر، وبنفس الوقت ستعالج كل قضية بما هي، أي كل حجة استند عليها بشكل منفصل.

أول حجة نقلها صاحبنا هي أن الكون ممكن الوجود، وكل ما هو ممكن يحتاج لمرجّح كي يوجده، وبالتالي فالكون يحتاج لمرجّح كي يوجد وبالتالي فالكون حادث. ثم يعترض على ما الذي يجعل الكون "ممكن الوجود"، ثم يقفز إلى ما الذي يجعل الله واجب وجود. وبعدها يطالب بتوضيح ما المقصود بممكن الوجود، وفي خضم النقاش يقدم نظرته للممكن والواجب فيقول:

"نقول عن حدث ما أنه ممكن إذ لم يكُ هناك مبرر كاف لحدوثه، و لا مبرر كاف لعدم حدوثه، بمعنى أن الممكن هو كل ما لا نملك معرفة بسبب وجوده، و بالتالي فإننا نعجز عن تفسير حدوثه، كما إننا نعجز عن تبرير حالات عدم حدوثه، بالمقابل نقول عن حدث ما أنه واجب الوجود إذا كنا نمتلك معرفة واضحة بالأسباب الموضوعية القاطعة التي أدت إلى حدوثه، و بالتالي نستطيع تبرير حالات عدم حدوثه بالإشارة إلى غياب واحد أو أكثر من الأسباب اللازمة لحدوثه. إذا الممكن هو الاحتمالي الذي لا يمكن التنبؤ به على وجه اليقين، و من ثم فالممكن هو اللاحتمي و الغير قابل للتعيين"
ثم ينتقل لمفهوم السبب الكافي، وينتقد ضرورة اكتمال التفسير، وهذا منهج لا أدري والذي أوضحت في بداية نقاشي أن النقاش معه لا يفيد باختصار لأنه سيقود لمشاكل أعمق وأكبر، هذه المشاكل هي كالآتي: هل وجودنا نتيجة عبثية؟ أي أن لا غاية لوجودنا. وجواب أننا نصنع غاياتنا لا يعني أن لنا غاية، فالإنسان إن وُجِد فطبيعيا أقصى غاياته أن يحافظ على وجوده وينشئ ذرية وينتج أثراً ما بغض النظر عن نوعه، وهذا النوع من الغايات لا يختلف عن الغاية من وجود بكتريا تنقسم فقط لأنها يجب أن تبقى. لربما يحاول الإنسان أن يتمسك بالعلم، ويقول أن غايتنا ازدهار الحياة، فالجواب على هذه المسألة: ازدهار الحياة مرتبط أيضاً بضرورة بقاءك البيولوجي، وبالتالي فأنت غايتك الوحيدة هي البقاء، ومع هذا فلا تستطيع أن تقدم تفسيراً لماذا يجب أن نبقى ولماذا أصلاً نحن موجودين. فإن تمسك باللاأدرية فقد انهارت حجته، وإن انطلق للمادية وقال لا غاية لنا فقد حصل المراد واعترف بغياب الغاية.

ونعود لتعريف الممكن والواجب. ليس الممكن والواجب ما يقول، بل هما أمران يختلفان كليّاً. فالممكن ليس كل ما " لم يكُ هناك مبرر كاف لحدوثه، ولا مبرر كاف لعدم حدوثه" والواجب ليس ما "نمتلك معرفة واضحة بالأسباب الموضوعية القاطعة التي أدت إلى حدوثه، وبالتالي نستطيع تبرير حالات عدم حدوثه بالإشارة إلى غياب واحد أو أكثر من الأسباب اللازمة لحدوثه".



إن الواجب والممكن والممتنع هنّ أقسام الوجود، بغض النظر عن معرفتنا كيف وجِد أم لم نعرِف.

فالإنسان في أصله ممكن، وفي حال وجوده هو "واجب" ولهذا فهناك تقسيم دقيق يقسم الواجبات إلى واجب وجود بالذات وواجب وجود بالغير.
ولأن صديقنا تكلم بالإمكان، فلأنقل لكم دليل الإمكان:

--------------------------------------------------
دليل الإمكان‏

من الأدلة المعروفة لإثبات واجب الوجود دليل "الإمكان" أو دليل "الإمكان والوجوب" وهذا الدليل يثبت وجود الله بعنوان أنّه "واجب الوجود" أي أنّ وجوده ثابت بالضرورة العقلية التي يستحيل معها فرض عدمه، وإذا كان كذلك فلا يكون محتاجا إلى علّة توجده، وهذا بخلاف "الممكن الوجود" وهو الذي يكون محتاجا في وجوده إلى العلّة التي توجده.


أولاً: الصياغة المنطقية

الصياغة المنطقية لدليل الإمكان هي كالتالي:
- الموجود إمّا بذاته، أو بغيره (ممكن الوجود).
- وكل ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات.
- إذن: واجب الوجود بالذات موجود.

ثانياً: مفهوم الإمكان‏

يمكن أن يتّضح معنى الوجوب والإمكان من خلال المثال التالي، وهو أن العدد "إثنان" مثلاً يجب أن يكون زوج (وهو الوجوب)، ويستحيل أن يكون فرداً (وهو الامتناع). أما "مطلق العدد" فيمكن أن يكون زوجاً كما لو فرضناه أربعة، ويمكن أن يكون فرداً كما لو فرضناه ثلاثة، (وهو الإمكان).

والسرّ في ذلك هو أنه عندما تكون العلاقة بين شيئين هي علاقة الإمكان فيمكن أن نفترض أحد الشيئين بدون الاخر، كما في "مطلق العدد" و"الزوجية" فإن العدد ثلاثة مثلاً هو عدد ولكنه ليس بزوج. أما عندما تكون العلاقة بين الشيئين هي علاقة الوجوب فلا يمكن أن نفترض أحد الشيئين بدون الاخر، فلا يمكن أن نفترض العدد إثنين بدون أن يكون زوجا. وما ذكرناه هو من باب التقريب وإلاّ ففي الوجوب لا يوجد شيئان في الحقيقة بل شي‏ء واحد، فعندما نقول "الطعام مالح" هنا يوجد شيئان: الطعام والملوحة. ولكن عندما نقول "الملح مالح" فهنا لا يوجد شيئان بل شي‏ء واحد، إذ الملوحة هي عين الملح.

وإذا التفتنا إلى قضية أن المثال يضرب ولا يقاس، فيمكن تشبيه القضية "الله واجب الوجود" بالقضية "الملح مالح" إذ لا يوجد هنا شيئان أحدهما منسوب إلى الاخر، بل إن وجوب الوجود هو عين الذات المقدسة، بخلاف قولنا "الإنسان ممكن الوجود" الذي يشبه قولنا "الطعام مالح" فهنا يوجد شيئان وأحدهما منسوب إلى الآخر.
وحيث إن الطعام لا يكون مالحاً بذاته بل إن الملوحة طارئة عليه يحق لنا أن نتساءل عن السبب والعلّة التي أوجبت الملوحة للطعام، كما يحق لنا أن نتساءل عن السبب والعلة التي أوجبت الوجود للإنسان.

السبب والعلة التي أوجبت الوجود للإنسان.
وحيث إن الملح مالح بذاته وليست الملوحة طارئة عليه، فلا يحق لنا التساؤل عن السبب والعلة التي أوجبت الملوحة للملح، كما لا يحق لنا التساؤل عن السبب والعلة التي أوجبت الوجود للذات المقدسة الواجبة. بل يتضح أن مثل هذا السؤال لا معنى له حينئذ. (تعقيباً على هذه النقطة، فمنع التساؤل هنا ليس الغاية منه التحريم، بل توضيح أن هذا السؤال مستحيل، لأننا وصلنا إلى أن وجود الله هو وجود قائم بذاته لم يسبقه عدم، فكيف نطرح تساؤلاً عن علة أوجدته؟ هذا عين التناقض).

ومن هنا نعرف أن الممكن الوجود (كالإنسان) هو الذي تتساوى النسبة في ذاته إلى الوجود والعدم، وبالتالي لا يترجّح جانب وجوده على عدمه إلا بسبب تدخّل عامل خارجي، وما لم يتدخل عامل خارجي فلا يتحقّق وجود الإنسان. فالإنسان لا يملك"ضرورة الوجود" بدون تدخّل من الغير، وهذا هو معنى أنه موجود بالغير وليس بالذات.



--------------------------------------------

وقد أوضحنا سابقاً لماذا اكتمال التفسير مهم. لم تزل الأَسئلة الثلاثة التالية عالقة بذهن الإِنسان منذ أَنْ عرف يمينه من يساره، و هي:

1ـ إِنَّه من أَين؟
2ـ و إلى أَين؟
3ـ و لماذا خُلِق؟

و هذه الأسئلة الثلاثة يجيب عنها الفيلسوف الإِلهي بأجوبة رصينة تتضح من خلال هذه الرسالة، و إجمالها أنَّ البداية من الله، و أنَّ نهاية المطاف هي الله سبحانه (إِنَّا لله وإنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ)([1])، و أَنَّ الغاية هي التخلّق بالقيم و المثل الأخلاقية و الإِتصاف بأسمائه و صفاته سبحانه، غير أنَّ المادي يَكِلُّ عند الإِجابة عن هذه الأسئلة و لا يأتي بشيء مقنع.

وصاحبنا هنا، لا يميّز بين الإجابة على سؤال "كيف" وسؤال "لماذا" بل هو يعتبر أن الكيف ولماذا وجهان لعملة واحدة! وهذا عين الخلط.

ثم ينتقل صديقنا إلى الدليل المادي، فهو يقول بأن الوجود اللامادي هو " ما لا يمكن إدراكه بالحواس وامتداداتها (أي أجهزة القياس)، وبالتالي لا يمكن إثبات وجوده تجريبيا." وهذا الأمر مرتبط بنظرته لله وباعتباره غير مادي (وقد أصاب قليلاً) ولكن ما الذي يسبب اعتراضه على الرجوع إلى الله؟ يقول: " من الواضح أن من الأسهل أن نتوقف عند السؤال عن سبب وجود الكون، بدلا من الافتراض بأن هناك سببا لا ماديا لا نعرف عنه شيئا! لأن الفرض الأخير زائد عن الحاجة، عبارة عن إضافة مجهول جديد لا يضيف شيئا إلى محتوى معارفنا." إذاً فصديقنا وببساطة يريد أن يكون لله دور معرفي في الوجود، وكما أسلفنا فأن هذا الأمر يقع فيه الملحد حيث يخلط بين كيف ولماذا. ولتقريب الصورة سأقوم بكتابة المحادثة التالية:

-         لماذا تدرس؟
-         حتى أعمل بشهادتي.
-         لماذا تعمل بشهادتك؟
-         حتى احصل على المال وأعيش.
-         ولماذا يجب ان تحصل على المال وتعيش؟
هذا هو سؤال لماذا، ولاحظوا جميعاً أن كيف التي ينادي بها الملحد لا تقوم هنا بمقام العمل، فكيف تدخل كنقطة ضمنية في نظام غائي يقوم على "لماذا".



ثم يقفز صديقنا للوعي، وهذه قفزة تقليدية لن أخوض فيها، نظراً لأن الوعي هنا لا يدخل فقط في الكائنات الحية، لأن حسب ميكانيك الكم هناك وعي كوانتي يربط جميع الوجودات! فوعينا يؤثر ويتأثر:


وبالتالي فإن ترابط الكون هذا تصفه ميكانيكا الكم ولا تعلله، ولا يمكن للملحد إلا أن يقف أمام الكيف وليس أمام اللماذا. فاللماذا لا مادية، ولكن الكيف مادية بشكل عام!


والآن ننتقل إلى كلاسيكية فِكرة العدَم. فكاتب المقال أظهر إشكالية فلسفية كشفت عدم تعمقه في الموضوع عندما ناقش العدم. لأن سؤال الخلق من عدَم هو سؤال محمول على وجود عملية الخلق. أي أن صحة السؤال ستكون مربوطة بإيمان مسبق بأن هناك عملية خلق. وهذا السؤال طرحه المتكلمون وناقشوه باستفاضة، ولا محل لطرحه هنا، لأن هذه المسألة لا تدخل في الإيمان والاعتقاد. ولكن كتنويه بسيط للقضية: صاحبنا يستفهم كيف يكون الخلق من عدم؟



فالعدم نوعان، مطلق ومضاف، والمطلق هو عين نقيض الوجود، أي غياب لكل الوجود، وهل يخلو الوجود من الله؟ فهذا النوع من العدم له وجود عقلي فقط، مجرد افتراض. وبالتالي فإننا خلقنا من عدم مضاف. وهذه نظرة فلسفية أعمق، وفيها نقاش طويل، وبعض من خاض فيها دخل في وحدة الوجود، وجعل الله مزاحماً، ولكننا كمسلمين نعلم أن الله ليس كمثله شيء وبالتالي فهو ليس مزاحم وبنفس الوقت هو أصل الوجود ونحن موجودات بالتبعية له!

وبهذا فقد سقط اعتراضه حول العدم، وتبيّن أنه لا يدرك مفهوم الإمكان والوجوب! أتمنى منه في المرات القادمة أن يتوخى الحذر أكثر في نقض الأطاريح الفلسفية، حيث توقف اغلب الفلاسفة.

ساق صديقنا البرهان التالي: بأن كل متغير حادث، وبما أن الكون متغير فالكون حادث. ثم انتقل لنقض الحدوث (ولا أعلم إن هو يشير بشكل غير مباشر إلى أزلية الكون) عن طريق إعادة تعريف "التغير". فالتغير حسب قوله:
" إذا المتغير أو التغير بشكل عام يتسم بالنقص، بسبب ارتباط التغير بالحدوث و الحدوث نقص"

وهذا قصر بلا دليل أو بتدليس (ولا نتهمه)، ولكن يجب أن نلزمه الحجة ونقول إن قصره التغيير على النقص هو أسلوب انتقائي، لأن التغير لا يشمل النقص فقط، بل حتى الحركة.



لاحظوا معي على ماذا يشتمل التغير: التغير يشتمل على حركة والحركة دليل الحدوث لأنها (أي الحركة) ان كانت في الجوهر تسمى صيرورة كصيرورة المعدوم موجودا بفعل الموجد وان كانت في المكان تسمى نقلة او انتقال كحركة الاجسام من نقطة الى اخرى في المكان وان كانت في الكم تسمى نمو او ذبول او زيادة او نقصان... وان كانت في الكيف تسمى استحالة كاستحالة اللون الاحمر الى اصفر بانضياف الابيض او كاستحالة الماء البارد حارا وبالعكس. فكل هذه التغييرات تصحبها حوادث ومعنى الحادث انه لم يكن ثم كان فالمعدوم صار موجودا(في الجوهر) والصغير صار كبيرا(في الكم) والبعيد صار قريبا(في المكان) والحار صار باردا(في الكيف) ومعلوم ان هذه الحوادث لم تكن قبل الحدوث.

وهكذا سقط نقضه، فإن قلنا بوجود لا ينقص، ولكنه متحرك، وأثبتنا أن هذا الوجود ليس بواجب، بل أن وجوده مستند إلى سلسلة من الأسباب الطولية والعرضية (سيتم تبيانها لاحقاً في الرد على ديفيد هيوم في مقال آخر) فوجوده ليس قائم بنفسه، وتفاعلاته دليل حدوث، وبالتالي فتغيره دليل حدوث.

ثم يتدارك صديقنا نفسه في المقال، ويقول:

"أصل الإشكال يكمن في سوء فهم المدافعين عن دليل الكلام لماهية التغير، وسوء الفهم هذا يصاحبه بالضرورة سوء فهم لمبدأ السببية. بالنسبة لهم يكفي أن يكون هناك سبب لحدوث أمر ما، ومن ثم يغفلون عن تفسير مصدر المادة التي يتكون منها ذلك الحادث، سوء الفهم هذا تحديدا، هو ما يبرر لهم اعتقادهم بأن السبب يمكن أن يكون ثابتا لا يتغير (يمكن أن يحدث السبب أثرا بدون أن يتغير!)."

صاحبنا هنا وقع في مشكلة، فبرهان الحدوث يختص بتأكيد حدوث الكون عن طريق الاستدلال العقلي المسلح بالحس، ومن برهان الحدوث يمكننا أن نستنتج صفة مهمة من صفات الله عزّ وجل:

أن الله ليس محلاً للحوادث، فإن كان محلاً للحوادث لزم أن يكون حادثاً وهذا محال.
فالمسألة وإن وصفها بسوء الفهم (وهو سوء فهم من جنابه لا من السادة المتكلمين!)، فهي منيعة لأنها تمنع الوصول للتناقض بإدراك لزوم صفة عدم وقوع الحوادث في علّة العلل. وبالتالي فإن برهان الحدوث لا يقودني إلى صفة واجب الوجود، بل إلى صفة من صفاته عن طريق إثبات حدوث الموجودات.

ويعود صاحبنا للكلام عن العدم، وقد أوضحنا أن العدم المطلق محال، لأن هذا يستلزم أن يكون العدم له وجود خارجي (أي وجود ملموس وصريح) وهذا صريح التناقض، فلا أفهم كيف يرى صاحبنا هذه الأمور.

وبسقوط مفهوم التغير مع مفهوم العدم لديه، يسقط استدلاله ولا حاجة لنا بالشرح أكثر.
من برهان الإمكان نصل إلى: واجب الوجود.
من برهان الحدوث نصل إلى: واجب الوجود ثابت.

فخلاصة برهان الحدوث كما يقرّها أسياد الكلام ليس كما قال صاحبنا، بل كالآتي:

1: كل شيء في العالم متغير. 
2: وكل متغير حادث.
3: والحادث لا يكون أولاً.

صديقنا هذا يستكثر علينا أن نستخدم السببية لأنها مادية، ثم يقصر السببية على المادية باعتبارها خاصية استقرائية وليست قانوناً (وهذا مبحث آخر)، فهل صاحبنا هنا يريد أن يسند وجوده إلى شيء كان يتفاعل منذ الأزل؟ أي أنه متغير وليس ثابت؟ هذه صفة خطيرة. فالتغير كما أسلفنا:

" التغير يشتمل على حركة والحركة دليل الحدوث لأنها (أي الحركة) ان كانت في الجوهر تسمى صيرورة كصيرورة المعدوم موجودا بفعل الموجد وان كانت في المكان تسمى نقلة او انتقال كحركة الاجسام من نقطة الى اخرى في المكان وان كانت في الكم تسمى نمو او ذبول او زيادة او نقصان... وان كانت في الكيف تسمى استحالة كاستحالة اللون الاحمر الى اصفر بانضياف الابيض او كاستحالة الماء البارد حارا وبالعكس."
ولهذا حصل الخلط عنده.




ننتقل للنقطة الثالثة التي أوردها صديقنا:

ينتقد فيها مرة أخرى برهان الإمكان، حيث يتكلم حول إذا ما وجد عدد لا نهائي من الأسباب "المادية" (وضعتها بين قوسين لأنها تمثل فكرة محورية في كلامه)، ثم يحاول الربط بين التغير في الأسباب وحدوث الكون من عدم (مرة أخرى). وقد أوردنا كيف يكون التغير، ولهذا سيصطدم صديقنا بأمرين:

الأول: واجب الوجود.
الثاني: موجود لا يتغير ثم (كونه مادياً) تغيّر.

خلاصة الموقف العلمي:

الملحد لا يدرك مفاهيم العدم والوجود والتغير فلسفياً بل يسقط عليها المعنى اللغوي أو يستورد الأفكار دون التمحيص فيها.


يبدأ صديقنا في مقاله الثاني بنقض برهان الفيلسوف المسيحي الدكتور وليام لين كريج. يعتمد دكتور وليام لين كريج على الحجة الكلامية التي أوضحناها في مقالتنا السابقة وهي برهان الحدوث. طبعاً مشكلة وليام لين كريج تكمن في قفزه (ولا يعد خطئاً ولكنها تبقى مشكلة في نقاش صديقنا صاحب المقال) إلى إثبات وجود الفاعل خارج الكون.
القوّة في برهان وليام لين كريج تكمن في التالي:

الحقيقة العلمية أن الزمكان (الزمان + المكان) قد بدءا مع الانفجار الكبير. ولهذا فإن امتداد سهم الزمن إلى ما قبل الانفجار الكبير عبارة عن فرضية مــيـــتـــافــيزيقية! هل تعلمون لما هي ميتافيزيقية؟ لأنها مستنبطة بالمنهج العقلي المحض وتم اعتبارها كضرورة، وهذا ما صرّح به صديقنا في قوله:

"لا شك بان العلة هي أننا دائما نفترض أن هناك ˝قبل ˝ حتى لو قيل لنا بأن الزمن محدود) متناهي (، قد نتساءل بسذاجة ماذا كان هناك قبل الزمن؟ ˝! ، وكأننا لا نتقبل فكرة محدودية الزمن، فنحن نعتقد بأن الزمن لانهائي، وذلك الاعتقاد راسخ لا يمكن التخلي عنه. ذلك الاعتقاد قائم على افتراض وجود ملاحظ’ مراقب، لتخيل كيف كان الحال، فإذا كان هناك صورة أولى للوجود فان المراقب سيلاحظ فجأة تغير الوجود) الذي كان ثابتا فيما سبق (، وبالتالي سيفترض أن ذلك التغير الملحوظ ناتج عن تراكم تغيرات أبسط) تغيرات في الأجزاء (غير ملحوظة."

فخلاصة كلامه: الزمن ضرورة افتراضاً، وبصراحة لا يملك دليلاً سوى الضرورة وهذه هي حقيقة المنهج المادي المطالب بالدليل، فهو يعجز عن تقديم الدليل لأساس ادعاءاته مما يجعله في مصاف المؤمن في ناحية الإيمان بما لا يمكن إثباته، مع فارق إن إيماننا بالله يعطي اتساقاً وغاية!



وفي معرض هربه للتتابع الزمني في قوله:
" ما يريد كريج أثباته هو أن الإله موجود كعلة حدوث الكون، لكن في نفس الوقت يفترض أن الإله) علة الحدوث (لا زمنية، وهذا تناقض، فالرابط بين الحادث وعلته هو ˝الحدوث ˝، وهذا المفهوم) أي الحدوث (يشير إلى الاختلاف بين حالتين، حالة عدم وجود النتيجة) الحادث (، وحالة وجود النتيجة) الحادث (، والعلاقة بين الحالة الأولى والثانية هي بالضرورة علاقة تعاقب زمني، بينما التسبيب اللازمني يقتضي تلازم السبب والنتيجة،) التعليل هنا هو كون النتيجة معتمدة في وجودها على السبب (. وبناء على ما سبق، القول بأن الكون حادث) في هذه الحالة (يعتبر قول متناقض ، فلو كان الكون حادثا فإن هناك بالضرورة علة لحدوثه ، وبالتالي ستكون هناك لحظة زمنية سابقة على وجود الكون ، وهذا مستحيل وفقا لمقدمات ويليام كريج ".
وفي كلامه مصادرة على المطلوب بقوله: " يعتبر قول متناقض". طبعاً هذا الاعتراض ليس جديداً وقد قام وليام لين كريج بالرد عليه على هذا الرابط:

فقد أوضح أن هذا الاعتراض قد تم طرحه عليه وأنه رد عليه بأن السبب والنتيجة (الله والوجود) قد تزامنا. وهذا كلامه:

Now in response to this defeater, I offered three different accounts of how God could be causally related to the universe’s origin,14 including the hypothesis that cause and effect are in this case simultaneous. 


وترجمة الكلام بما معناه أنه قد قدم ثلاثة تفسيرات كيف يمكن أن نربط الله كسبب للكون، ومن ضمنها فرضية أن السبب والنتيجة في هذه الحالة متزامنان.

وسأعطيكم مثالاً بسيطاً:
لو ارتديت ساعة على معصم يدك، ثم رفعت يدك، فإن الساعة سترتفع مع يدك بالضبط، بلا تأخر أو تقدم. فهل هناك تراتب زمني بين العلة (يدك) والمعلول (الساعة)؟ وبهذا يُسقط اعتراض صديقنا الملحد وكذلك اعتراض المعترض على وليام لين كريج. وهذا الرد نفسه يسقط اعتراض الملحد ديفيد هيوم في أن السببية مجرد ظاهرة تعاقبية! فلا تعاقب هنا بل تزامن! ثم إن هيوم فيلسوف مادي حاول كل جهده نقض الميتافيزيقا ولك أن تدخل على منتدى التوحيد للاستزادة:




ولم تقدم الفلسفة الإسلامية ذلك الجواب فحسب، بل قدمت جواباً رائعاً عميقاً أكثر: أن الزمن هو من مميزات وجودنا نحن الكائنات المادية، وبالتالي فإن الله متعالي عن الزمان والمكان، وهذا يقودنا إلى أن الزمن هو خاصية لنا فقط، ونقيس عليها، ولا تصلح خارج وجودنا عندما نريد تطبيقها على الوجودات المتعالية.

الآن صديقنا ينتصر لأزلية المادة ليكشف قناعه بقوله:

" لدينا أولا، التشديد على إمكانية أن يكون الوجود الأول وجودا ماديا، مما يجعل إضافة الإله إلى السلسلة فائض عن الحاجة) بتوضيح أن ذلك لا يضيف شيئا إلى معارفنا، مجرد زيادة في التعقيد بلا مبرر (، ويمكن أيضا الاستناد إلى مشرط اوكام لتعزيز أفضلية أن يكون الوجود الأول ماديا. ثانيا ، يمكننا بسهولة رفض التفسير الميتافيزيقي, وهذا سيفرض ضرورة أن تتلاءم فرضية وجود إله )كعلة حدوث للكون( مع قانون حفظ الطاقة"

وفي الحقيقة لو كانت المادة أزلية لما سار الكون إلى عملية موت حراري، فإن ازلية المادة تفترض ضمنياً بقاء تفاعلاتها الذاتية سائرة وأنها قادرة على تزويد نفسها بنفسها بالطاقة وهذا محال. وقد تعرضنا لهذا المفهوم في مقالنا: نقد المادية الماركسية بالاعتماد على الفلسفة الإلهية على هذا الرابط:


ثم ينتقل صديقنا إلى شبهة قديمة، وهي قدرة الله على المستحيلات من مثل هل يستطيع ان يخلق الله صخرة ولا يقدر على حملها وما شابهها من أمثلة التي لا يسوقها سوى شخص قرأ للتو في الفلسفة ولم ينظر لرأي المتكلمين!

ولكن أثارت انتباهي مسألة، حيث قال:

" لخيار الآخر المتاح هو القول بأن الله خلق الكون من ذاته, ولكن ذلك يعني أن الكون جزء من الإله, أي أن الإله هو الوجود الكلي ، وسيصبح النقاش حول إذا كان الوجود أكثر من مجرد مادة."

وهذه قالها "الوحدويون" أو من يؤمنون بوحدة الوجود، حيث أن الله متحد مع مخلوقاته (والعياذ بالله)، والملاحظ أن وحدة الوجود هو منهج يجمع بين الإيمان بخالق والإيمان بالمادة، ولا يبطل وجود خالق، مع فارق أن الخالق متحد، وكما قال سيصبح النقاش ما إذا كان الوجود أكثر من مجرد مادة، فهي قضية لا تشفع له أبداً في نقض الإله.

ويختم كلامه بهذه الفرضية:
"أخيرا يمكننا أن نعترض بأن استحالة اللانهاية الفعلية لا يقتضي بالضرورة أن هناك وجود أول"
اذاً يقتضي ماذا برأيه؟ لا مفر إلا لأزلية الكون وكوننا أتينا من فراغ كمومي مهتز بالضرورة. وهي أزلية المادة بوجه آخر.

في الحقيقة لقد فندنا أكثر ادعاءاته في الملفين السابقين، ولا حاجة لنا لتكرار الكلام هنا، ولمن أراد فليرجع إلى الموضوع الثاني ليجد في أعلاه رابط الموضوع الأول حتى يقرأ كل الكلام. الملاحظ أن صديقنا استند إلى كانط في نفي السببية مع ان كانط لا ينفيها ولكن يعطيها اعتبار آخر. فقط ديفيد هيوم هو الذي رفضها رفضاً قاطعاً مخالفاً العقل والفطرة والتجربة!

وبهذا ختمنا الرد على ما وصلنا من كلامه، ونسأل الله القبول وحسن الثواب.
والله ولي التوفيق.
والحمد لله رب العالمــيـن
*للاستزادة في موضوع العلة والمعلول يرجى الذهاب لهذا الرابط:


[1] .سورة البقرة الآية 156.