الأحد، 22 سبتمبر 2013

هل للوجود قيمة؟

بسم الله الرحمن الرحيم


اليوم سأتطرق لمفهوم القيمة الذاتية للوجود، وسأطرح الموضوع على شكل فقرات تسبقها عناوين تؤطّر للفكرة بكل وضوح. إن هذا الموضوع بنظري واحد من أكثر المواضيع التي لا يستطيع الملحد أن يخرج منه سوى بافتراض واحد: نحن نصنع قيمنا. ولكن هل تلك القيمة المصنوعة حقيقية وفق المفاهيم المادية؟ الجانب الديني الإسلامي لا ينكر أبداً التأثير المادي للإنسان وأنه سيُفِسد ويسفك الدماء (بلفظ القرآن)، فالتشريع الحكيم تعامل مع الخِلقة الطبيعية ووضح للإنسان أن له أن يمارس جميع جوانب حياته بحدود وضوابط شرعية واضحة. لن أخوض في النظرية الإسلامية، ولكني سأرتدي قبعة الملحد وحذاءه، وأتكلم بأسلوبه، فاصبروا على كلامي قليلاً وتحملوه. 





Sartre quotes

  • Life has no meaning a priori … It is up to you to give it a meaning, and value is nothing but the meaning that you choose.
  • It is certain that we cannot escape anguish, for we are anguish.
  • The For-itself, in fact, is nothing but the pure nihilation of the In-itself; it is like a hole of being at the heart of Being.


حجر بلا إرادة ولا غاية!

تخيّل معي منحدراً على سفح جبلٍ فيه حجارة متشعبة، وإحدى تلك الحجارة لها بروز، وذلك البروز يتعرض للظروف الجوية المختلفة فتعرض للحت والتعرية وبدأت نقطة اتصاله مع باقي الصخرة بالتخصّر، ومع مرور الأيام ازداد التخصّر حتى انقطع البروز وسقط على سفح الجبل فبدأ بالتدحرج والسقوط. السؤال المطروح: هل هناك قيمة أو غاية لسقوط هذا الحجر؟ لربما الغاية الوحيدة (وهي ليست غاية بما نعنيه من الغاية) تحويل الطاقة الكامنة المختزنة إلى طاقة حركية للوصول إلى الاستقرار. 

المقصد من كلامي أن سقوط الحجر تم بعوامل طبيعية بحتة لا تخضع لأي قوى خارقة أو عِلوية، بل أن عمليتي الحت والتعرية هي عملية عفوية، قادتها الطبيعة العمياء التي تدور قوانينها حول التحرك والسعي إلى نقاط الاتزان والاستقرار (خاصية من خواص النظم الديناميكية) وبالتالي فإن حركة الحجر من بدء تقطيعه إلى نهاية سقوطه هي نتيجة لتلك القوانين العفوية، ولا يمكن أن يأتي أحدٌ ما فيقول: هناك غاية من سقوط الحجر. سقوط الحجر عملية خالية من أي غاية، فهي استجابة للضغوط الخارجية المحيطة بنا. 

لنقم بمد مفهوم التأثيرات الطبيعية، ولنربطها بالإنسان. حسب المفهوم المادي فالإنسان عبارة عن تفاعلات حيوية وفيزيائية وتركيبات معقدة جداً من الخلايا العصبية، فمهما نظرنا للإنسان كنظام ديناميكي معقد، لا يعدو عِبارة عن آلة طبيعية تستجيب للظروف المحيطة وتتفاعل معها، ومن هذا المنطلق هل يختلف هذا الإنسان عن ذلك الحجَر الساقط في الاستجابة والتفاعل مع الظروف الطبيعية؟ 




أنا واعي، والحجر ليس بواعي فكيف تقارن يا هذا؟

لربما يعترض أحدهم فيقول: الحجر من الجمادات والإنسان من الكائنات الحية. بمعنى آخر فالإنسان لديه اتصال ووعي بالذات، أي أن الإنسان يشعر ويتفاعل ويتبادل مع المحيط المادة والطاقة. والسؤال الذي أطرحه: هل هذه التفاعلات تعطي الإنسان أي امتياز فوق باقي الكائنات؟ بل هل تعطي لوجوده قيمة؟ لقد قال الماركسيون أن الوعي ليس إلا خاصية للمادة "عالية التنظيم" أو "رفيعة التنظيم"، وأقول إن هذه نظرة عِلمية جريئة جداً، وتتفق مع الأسس المادية، مع أن كلمة "رفيعة التنظيم" ليست سوى "سفسطة كلامية" لا توضح ما المقصود بالرفعة والعلو مطلقاً، بل فيها افتراض مبطّن بأننا أعلى تنظيماً دائماً. وحتى لو نظرنا للإنسان كنظام ديناميكي معقد، فما هو إلا مجموعة عالية من التفاعلات العفوية المتأثرة بالواقع والبيئة المحيطة وقابل للتعلم، وكل هذا لا يضيف أي قيمة ذاتية على الوجود، بل يعدّل، إن صحَّ القول، من طبيعة الوجود، فوجودنا بالتأكيد يختلف عن وجود الحجر، ولكننا نشترك مع الحجر الساقط في الخضوع للقوانين الطبيعية بشكل مطلق. 





نحن تطورنا وتقدمنا، وهذا بحد ذاته ينتج قيمة!

حسب النظريات العلمية الأنثروبولجية والمرتبطة بنظرية التطور (الداروينية) فإن الإنسان قد تطوّر من أسلاف بشرية أقل تطوراً، وخلال تلك المدة الممتدة حسب آخر الدراسات إلى 600 ألف عام (راجع موضوع الساعة الجزيئية في نفس المدونة)، تمكن الإنسان من التحول من كائن يعيش على طريقة القردة مثل الشمبانزي والغوريلا، إلى النظام الاجتماعي المعقد جداً الذي نعيشه الآن. ومن نتائج هذه التفاعلات تطوّرت الأمور التالية: النظام الأخلاقي، النظام الديني، الفِكر البشري الفلسفي، المعرفة البشرية، وبالتأكيد كل تلك المفاهيم قادت المجتمعات إلى ما نراه اليوم. وبالتالي، فما نراه الآن، وما نعيشه وما نفكره ليس إلا نتيجة لتلك التفاعلات التي قادها كلّ من التاريخ والبيئة والضغوط الاجتماعية وصعود جماعات الإنسان من الصيد على شكل جماعة صغيرة إلى المجتمعات المتحضرة. بل إن كل ما نراه حالياً من علوم وأدب وتجريدات علمية وفلسفية ليس سوى نتيجة لتلك الصيرورة (التغيرات) التاريخية المادية وضرورات العصر والنمو البشري. الأدوية مثلاً، هي من أكثر النتاجات البشرية أنانيةً لدعم الوجود الإنسان تحت مسمى: تحسين الوجود وحمايتنا من الفناء! لربما تأثير الأدوية تطورياَ هو إنشاء بشر أقل قدرة على التكيّف مع الأمراض وبالتالي جنس أضعف! هذا اعتراض مشروع ومنطقي جداً وفق النظريات المادية. نعم، ربما العلم يخدم البشر فيجعل هذا العِلم قيّماً للبشر لأنه وببساطة دعم الوجود الإنساني وحسّنه، ولكن بنفس الوقت فالعلم كما يخبرنا ما هو جيد للبشر، فهو يخبرنا ما هو جيد للبكتريا، وعِلمياً لا يوجد سوى الحاجز الأخلاقي الذي يجعل المجتمعات البشرية أعلى من مستعمرة نمل ندرسها، القيمة الذاتية عبارة عن اتفاق بشري. الجنين بحد ذاته، قبل أن ينشئ جهازه العصبي ليس سوى قطعة لحم لا تشعر وفأر المختبر أهم وأكثر نفعاً منه.



المشاعر حقيقية وهي ما تميزنا!

المشاعر الإنسانية أيضاً تخضع للتفاعلات الطبيعية، فأنت يا عزيزي تخدع نفسك عِندما تظن أنك أحببت، الدراسات تشير إلى إنك قد انجذبت إلى صفات جسدية معينة في المرأة، فهي جذّابة بعينك أنت*، بل أن عقلك يشعر بالسعادة والرضا حسب تركيز بعض النواقل العصبية فيه، مثل الدوبامين والإندورفين ومواد أخرى، وهذه النواقل تفرزها سلوكيات معينة وأمور نفسية أخرى، ومن محفزاتها: المخدرات والحشيشة. وبالتالي فإن سعادتك، حبّك، غضبك، ألمك، وكل تلك المشاعر المختلطة ليست سوى تفاعلات مادية تخضع للقوانين الطبيعية، فهل أنت مختلف عن ذلك الحجر الساقط؟ ولو كان للحجر مشاعر، هل يستطيع اختيار عدم سقوطه؟ ربما يستطيع إلى حد ما، ولكن عاجلاً أم آجلاً سيخضع للقوى الطبيعية. ولو عدنا لموضوع الأدوية، وسألتك ما فائدة الأدوية: ستجيبني لتخفيف المعاناة والألم ونشر السعادة، ولكن هذا يعيدك للمربع الأول، فأنت خضعت لتفاعلات مادية قادتك للآتي: دفاع عن وجودك وهي صفة للأنظمة الحيوية، لا دخل لها بكون لك قيمة أم لا، لأن البكتريا أيضاً تدافع عن وجودها، وأيضاً نسيت أن سعادتك وراحتك النفسية ليست سوى إشارات كهروكيميائية ومركبات تتحكم بالأمزجة. لا توجد قيمة ذاتية على حد عِلمي، والمسألة مثل قيمة الذهب: اتفاق عام لا أكثر. 



لدينا قيمة ذاتية، ولا تحاول دحضها!

لربما ستقول لي: أنا أصنع قيمتي، وأن قيمتي هي وجودي، فأقول: وما فضل وجودك على الحجر؟ وهل أنت أفضل من التفاحة التي تقتات عليها مثلاً كل صباح؟ أم إن استهلاكك لقطعان من الماشية سنوياً هو بحد ذاته أفضلية للوجود؟ لا أظن أنك تختلف عن أي ذئب أو نمر أو حتى ضبع جائع يبحث عن طريدة بطريقة أكثر حضارية، فبدلاً من أن تحمل رمحاً وسيفاً قمت بتدجين الكائنات وذبحها بشكل ممنهج وممكنن تحت مختلف المسميات والغايات: حفلات، مناسبات، الخ. حتى نتاجك العِلمي لا يعطيك أي امتياز في الوجود، لأنه نتيجة للتفاعلات الطبيعية واستجابة للضغوط المختلفة، فلا تخدع نفسك وتقول أنا مميز، لأنك أولاً ورثت جيناتك من أسلافك، وتأثر تكوينك وأنت جنين بكمية الهرمونات والتفاعلات الكيميائية المختلفة في رحم الأم، راجع مفهوم الوراثة فوق الجينية أو اللاجينية، وقامت تلك الأمور بتفعيل جينات معينة مما أعطتك صفاتاً جديدة غير متوقعة. أنت نتاج وضربة حظ للتفاعلات الطبيعية. حتى عقلك، حسب المفهوم السابق، ليس سوى "ضربة حظ" في يانصيب الحياة. 



الخلاصة

إذاً فقيمة الوجود في الحقيقة هي قيمة وهمية، ولا يمكن الوصول لها، وكل ما يمكنك قوله يا صديقي الملحد هو الآتي:

أنا إنسان شجاع وتقبلت العدمية، ولهذا أعيش حياتي كما أريد. 




هل رأيت إلى أين أوصلك الإلحاد؟ فالمسألة افتراض قمت بفرضه بعد نفيك لوجود الإله أو على الأقل اتخاذك موقف مثل الإلحاد ولكن ميّال للاأدرية، وتلك نتيجة حتمية أن تجد أن الوجود لا قيمة ذاتية له. لا يمكنك أن تفر من واقع أنك وأنا بنظرك وفلسفتك مجرد آلات شديدة التعقيد كوّنا فكراً تجريدياً للتعامل مع الواقع المرير: الوجود بلا غاية.