بسم الله الرحمن الرحيم
لربما عنِدما تقرأون هذا الموضوع، ترونه في البداية أقرب لفلسفة العِلم منه للفلسفة التقليدية. ولكن ولتوخي الدقة، فإن كلّاً من الأمرين وجهين لعملة واحدة. اليوم سأتكلّم بالتجريد الفِكري وارتباطه بمعرفة الله. قراءة شيّقة.
يُعرّف التجريد على إنه:
هو عملية الفصل بين ما هو رئيس، وما هو ثانوي عارض ومتغير. ويعد التجريد عملية حاسمة، تساعد على الانتقال من المستوى الحسّي التراكمي، ومن التعامل مع خليط الخبرة، وتداخل عناصرها ومكوناتها (حسّية، حركية، إدراكية، مشخّصة، مجرّدة، وغير ذلك) إلى المستوى المعرفي النظري، القائم على إدراك ما هو مشترك بين أنواع الخبرة هذه، أي المستوى الذي يشتمل من حيث التكوين والبناء على مفهومات ومبادئ وقواعد وقوانين ونظريات.
تطبيقات مفهوم التجريد في الحياة
يمكن تطبيق مفهوم التجريد في الحياة عامة، وذلك من خلال العلوم المختلفة، وعلى رأسها الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الحياة والجغرافية والتربية وعلم النفس والأدب والفن، وأخيراً من خلال علوم الفضاء.إن تطبيق مفهوم التجريد في الحياة، ماهو إلا عملية عكسية لنشوء التجريد ذاته، فإذا كان تعلم المفهوم المجرد أي مفهوم في الرياضة أو التربية أو الفن، يبدأ من الحسي الملموس ثم لايلبث أن يتخلص تدريجياً مما علق به من أشياء حسية ملموسة، إلى أن يصل إلى أرقى شكل من أشكال التجريد، فإن تطبيق هذا المفهوم في الحياة، يحتاج إلى عودة تدريجية جديدة من أرقى أشكال التجريد إلى الحسي الملموس.إن صفة التجريد، التي تبدو أنها تباعد بين ماهو نظري وعملي، بين المجرد والملموس هي التي مكّنت وتُمكّنُ الإنسان من السيطرة على عالمه وواقعه المعيش، وتتيح له تطبيقاً أفضل لقوانينه.وتمتلئ بحوث ودراسات العلم المعاصر بالرموز والمعادلات والأشكال الهندسية، ويُقدم لنا، باستخدام هذه الرموز المجردة ذاتها، اكتشافات واختراعات جديدة في كل يوم، تمكننا من السيطرة على الشروط المحيطة بنا على نحو أفضل، ويعمل على رفع مستوى حياتنا باستمرار.
إن طريقة العلم تكمن في السيطرة على العالم الملموس، والتغلغل فيه وتجريده من صفاته العينية المألوفة، ثم التغلغل فيه من جديد كلما تطلب الأمر ذلك.المصدر: الموسوعة العربية
وهذه القدرة الإنسانية، سواءَ أكانت فِطرية، أم تم اكتسابها عبر التطوّر حسب زعم أتباع المذاهب المادية، لهي مزية يمتاز بها ابن آدم بلا شك. وتأملوا معي قائمة من الأمور المجرّدة التي يمكن أن يصل لها الإنسان:
- الأعداد، وهناك خلاف قوي حولها، هل هي موجودة أم لا. ولكن يبقى الأمر أن لها وجوداً في عالم العقل، لا وجود ظاهر بائن. ولربما يعترض أحدٌ علي فيقول أن الأعداد ليست سوى "كميّات"، فالجواب، إنما هو تمثيل وتقريب للأصل، ألا وهو المجرّد. وهذا نقاش فلسفي من جامعة تورنتو حول وجود الأعداد الكسرية: http://www.math.toronto.edu/mathnet/answers/imagexist.html
- مفهوم المالانهاية، تُعرّف ويكيبيديا المالانهاية بهذه الطريقة:
في الرياضيات، اللانهاية تستخدم كعدد تقاس به كمية غير محدود، وبرمز لها بالحرف (∞). وهو كيان مختلف عن أي كيان عددي آخر في خاصياته وسلوكه.فمفهوم المالانهاية بنفسه مفهوم مجرّد، قائم في العقل بلا مصداق في الخارج.
- اللغة والحروف والكلمات، وبالتالي كل النتاج العلمي والأدبي، كلها مفاهيم مجرّدة قائمة بالعقل.
- مفاهيم رياضية مثل الحجم الصفري والمساحة الصفرية، والشعاع والمستقيم، وتخيل فضاءات لا نهائية الأبعاد وأمور مجرّدة عالية مثل مكعب لا نهائي الأبعاد، وأكوان موازية وأمور كثيرة أخرى. لن أخوض في كلام المتخصصين ولكن هذا رابط بسيط يوضح المسألة:
الآن لننتقل إلى صلب الموضوع وأصله: إدراك وجود الله:
يتذرّع ملحد مثل برتراند راسل أن مسألة إثبات وجود الله تشابه مسألة إثبات وجود إبريق يدور في مدار ما حول كوكب ما ولا يمكن رصد ذلك الإبريق. ولكن برتراند راسل هنا يجب عليه أن يقدّم حجة أقوى: عدم قدرتنا على إثبات وجود الله عقلياً. فإدراك وجود الله، بصفاته، بقدراته،ممكن ومستطاع، وبالتالي هل هناك امتناع عقلي على وجود الله؟ طبعاً لا يمكن ومستحيل، فالإنسان لديه عقل مُصمّم لإدراك وجود الله، وهكذا مسألة لا ينكرها إلا متكبّر جاحد منتحر عقلياً، فقد أظهرنا قدرة الإنسان على تطوير المجرّد بكل وضوح. فإن تحجج الملحد بالتطوّر ونمو القدرة أتمنى من قارئنا العزيز إحالته إلى مقالي: "هل للوجود قيمة؟" حتى يرد على المسألة التي رفعها بوجهنا. ومع ذلك فإن معضلة برتراند راسل مردودة عليها في موضوعنا "إبريق Bertrand Russel تحت المجهر".
الآن تبقى مسألة إثبات وجود الله ماديّاً كما يحبها ويريدها الملحد، فأقول: إن أقوى دليل على وجود الخالق هو وجود الوجود بنفسه! وهذا يقودنا إلى المربع الأول: أدلة وجود الله، وقد شرحناها باستفاضة في موضوع: الرد على سلسة موضوع غياب الدليل.
والله ولي التوفيق.