بسم الله الرحمن الرحيم
كثيراً ما يتحفنا الملحد بالكلام حول الشر والآلام، ولا أظن أن الملحد يدرك الأبعاد الفلسفية لكلامه ولهذا لن أجيب على هذه المسألة بالطرق التقليدية المتبعة، بل سأجيبها بطريقة أخرى، عن طريق الالتفاف حول المسألة لإظهار جانبها المخفي، وسأتطرَق للعدمية والنظم المعقدة قليلاً، فالأمر شائك كما أراه وأفهمه وليس بهذه البساطة التي يطرحها الملحد. ولن أتطرّق لوجهة النظر الإيمانية، فالنقاش مع ملحد لا يؤمن بالله، وليس مع ربوبي يرى الإله مجرّد آلة ميكانيكية سببت الكون وانتحرت ربما ولا أحد يعلم عنها شيئاً. النقاش عميق، عمق الذات الإنسانية.
حقيقةً ما دعاني لكتابة هذا الكلام هو مشاهدتي لمقطع من فيلم يُعرَض على Dubai One حيث يتكلم الطالب مع بروفيسور من النوع المتشكك وربما يميل للعدمية، فالطالب يقول بأن الدنيا مبنية على نِسَب رياضية دقيقة من مثل النسبة الذهبية الظاهر في متسلسلة فيبوناتشي Fibonacci، هذه النسبة موجودة في كل الوجود، في جسد الإنسان، في تكوين الذرات. حتى أن البعض قام بتسميتها ببصمة الخالق. ولكن البروفيسور رد عليه ردّاً أعتبره قاسياً ومبتذل كلاسيكياً، فرده كان الاستشهاد بالسرطان والحروب والأعاصير، فأين الجمال والروعة والنظام في السرطان، في خلية قاتلة تنقلب على الجسد؟ وأين الجمال والتناسق في الحروب؟ حتى الأعاصير التي تدخل في نظرية الفوضى أو الشواش Chaos theory لا يُمكِن التنبؤ بها فتسبب الدمار والألم.
حقيقة أن العدمية، وهي موقف فلسفي يجعل الوجود خالي من أي غاية أو هدف لسبب أو لآخر، موقف يواجه ويعارض الإيمان بالخالق، بل ويتسلح بمفاهيم عِلمية معيّنة وأحاسيس بشرية لا يمكن لأي إنسان تجاهلها. وبالتالي فهو يؤسس لفكرة تعتبر سهلة التناول مبدئياً، عسيرة القبول لاحقاً. فالموقف العدمي بغض النظر عن فلاسفته من مثل جان بول سارتر و هيديجرHeidegger ذوا الإنتاج الخصب والكتب المعقدة والمليئة بالفلسفة العالية، يؤسس لفِكرة بسيطة وواضحة وهي: لا قيمة للوجود، وإن كان له قيمة فهي تكمن في أن نعيش بسعادة ورفاه. هذه هي حقيقة الفلسفة العدمية، فهي تؤسس لمفهوم الغاية بأن تعيش حياتك جيّداً. ولربما تكون هناك نقاشات حول كيفية تحقيق تلك الغاية، وهل تلك الغاية تتضمن النمو المجتمعي البشري أم مصلحة الفرد، وكل هذه النقاشات ثانوية برأيي.
نعود للنقطة الأولى، بعدما استطردنا ودخلنا قليلاً بالعدمية، وهي الجمال والتناسق. حقيقةً وبغض النظر عن الأسباب التي جعلتنا كائنات نشعر، فإن مشاعرنا هذه لا تصلح أبداً كمصدر للتقييم لأننا مهما حاولنا الوصول إلى الحياد، لابد أن تتدخل إحدى العوامل النفسية أو المادية أو الاجتماعية أو خليط من كل تلك العوامل في اتخاذ القرار، وبالتالي فإن إطلاق على اللوحة الفنية الفلانية، مثل الموناليزا، أنها تحفة فنيّة مثلاً لا يعدو عن كونه مجرّد رأي حتى لو اتفقت نصف البشرية أو حتى كلها على هذا الرأي. والآن لنقوم بمدّ المفهوم هذا إلى الحروب والأمراض والأعاصير، فلو أطلقنا على هذه الأمور على أنها شر مستطير، لا يعدو أن يكون هذا رأياً. قد تقولون أن كلامي هذا مستهجن، ولكنكم تتناسون أمراً مهماً، إن الشعور بالألم والفرح والكره والحب كلها مشاعر وصلت لك بطريقة أو بأخرى سواءً أكانت فطرية أم نتيجة التطوّر، وقد استعرضت هذا الأمر في مقالي: "هل للوجود قيمة؟" لا يمكن استعمال هذه المشاعر كطريقة للحكم من الخارج على الأمور، وبالتالي فإن الملحد العدمي، لا يستطيع أن يقول: الأمر الفلاني جيّد لأنه يشعرني بالسعادة، أو يقدم خدمة للمجتمع مثلاً. المشاعر عند الملحد هي نتيجة لتلك التفاعلات المادية، فهل يمكن أن نعوّل على التفاعلات المادية بإعطاء القيمة؟ نعم هي جيدة في الحفاظ على بقاء حياتنا وحمايتها، ولكن هل هي قادرة على تحديد قيمة شيء؟ القيمة الذاتية شيء، والقيمة النفعية شيء آخر.
إذن هل نستطيع أن نقول على الأعاصير والأمراض بحد ذاتها أنها شر مستطير؟ هذا يعود بنا إلى فهم الفلاسفة لمعضلة الشر وهل للشر وجود أصلاً؟ وبالتالي فمسألة أن السرطان هو دليل على غياب النظام بحد ذاتها مشكلة، فالسرطان جزء من هذا النظام، بل هو أصل في الوجود، وكل البشر والكائنات الحية عموماً تحمل تلك الإمكانية لتطوير خلايا سرطانية. وبالتالي فمن وجهة نظر عِلمية بحتة بعيداً عن تلك النظرة المنغلقة على ذاتها التي طرحها البروفيسور فالسرطان جزء من الوجود ونظامه وخاضع لقوانينه، فأين غياب النظام؟ وكذلك الحروب، فهي جزء من الحركة الاجتماعية للبشر، ونتيجة للضغوط وتصادم المصالح، وبالتالي فهي تخضع لنظام يختلف في درجة تعقيده وتفاعله عن النظم الحيوية. كلا الأمرين، السرطان والحروب، نتيجة لنظام الوجود، وجزء منه.
نحن كمؤمنين أو ملحدين يجب أن نخضع لحقيقة ناصعة الوضوح: نحن نعيش في عالم مُتزاحِم، أي قائم على الاحتكاك والتنافس والصراع. وكون العالم على هذه الشاكلة ليس بدليل ينفي أو يُثبِت وجود الإله مطلقاً. ولكن هذا النوع من المشاكل يطرح تساؤلات تخص الحكمة والغاية، وبالتأكيد ليست مربوطة بوجود الله من قريب أو بعيد.
لا يُمكِن أن يكون للوجود معنى إطلاقاً إلا بالإيمان بإله خالق عليم مريد سيحاسبنا وأرسلنا لغاية ما في هذا العالم المتزاحم، لأن هذا العالم قاسي وجاف. صحيح أن الملحد يدعي الشجاعة وأنه تقبل العدمية، ولكن في الحقيقة ما نراه من انتشار الانتحار حسب الاحصائيات بين صفوف الملاحدة، ولربما شيوع الادمانات الكحولية والسلوكية المختلفة حتى يُخفف من وطأة ما وصل له، لمؤشر على التخبط الداخلي والارتطام بقاع السلبية والسوداوية.
كما قلنا سابقاً، فإن المشاعر الإنسانية وبغض النظر عن مصدرها كلها تبحث عن العدل والاتزان والاتساق في هذا الكون، وحتى لو كنا ذلك النظام البيولوجي الكيميائي المعقد المتفاعل مع الواقع، والذي أتى على حد زعم الدراونة نتيجة ثلاثة ونصف مليار سنة من التطور والتعقيد المتراكم، فإن تبريراً من مثل أن هذا الأمر ضروري للبقاء وبالتالي تم انتخابه طبيعياً لا يعطي أي جواب، لأن السؤال الذي سيُطرَح بشكل تلقائي: ولماذا أصلاً هناك بقاء؟ طبعاً لن أخوض في التفاصيل العلمية أكثر، لأن هناك جواب أن النظم الديناميكية تسعى نحو الاتزان، ونحن بالتالي نتيجة لتفاعل تلك النظم وسعيها للاتزان، أي أننا بالتالي نتيجة حتمية لتلك التفاعلات العشوائية العمياء. هذه النظرة تم نقاشها في محاضرة منشورة تحت اسم Inevitable Life أي "حياة حتمية". يبدو أن العلماء بدأوا يرون أن نشوء الحياة كان أمراً حتمياً وليس صدفة كما ظنوا سابقاً. كل هذه الجلبة أصلاً لم ولن تجيب عن أي سؤال يخص "لماذا الوجود أصلاً؟" صدقوني، لا يستطيع الملحد العودة لأساس التفكير الذي يطرحه لأنه سيسير إلى انهيار ذاتي كامل.
الآن نعود إلى البروفيسور الملحد ونقول له: هل للجمال قيمة؟ هل للسرطان نظام؟ سأجيب: لا يوجد أي قيمة ذاتية للأمور وفق الفكر الإلحادي، ولكن نعم، هناك نظام كامل من التفاعلات والقوانين الفيزيائية والكيميائية والرياضية تقود هذا العالم. صحيح أن لدينا قدرة محدودة على التعامل مع النظم الشواشية، ولكنها بالتالي نُظُم لأنها تسير وفق قوانين رياضية صارمة، مع فارق حساسيتها الشديدة للمتغيرات الأولية، مما يؤدي إلى إعطاء نتيجة نهائية مختلفة في كل مرّة، ولتقريب الصورة للأذهان: تخيل معي انحراف بمقدار درجة واحد من أصل 360 درجة عن صاروخ يتجه إلى هدف على بعد 1000 كيلومتر، هل تعلم كم مقدار الخطأ؟ أي كم سيبتعد الصاروخ؟ سيبتعد حوالي 17 كيلومتر عن الهدف فقط! وهذه أقرب صورة لما يحدث في النظم الشواشية. الحياة مليئة بالمفاجئات، وقد تكون غير سارة.
غلاف الفلم وإسمه
وفي نقطة استطرادية، ما أثر ذلك على كلّ من الملحد والمؤمن؟ الملحد يسعى حسب الفلسفة العدمية إلى فهم الحياة لأن هدفه هو الرفاهية والراحة، بينما المؤمن يختلف في غاية سعيه مع أن النتيجة واحدة، خدمة البشر، فالمؤمن سيفهم بهذا عظمة الخالق، ويتواضع ويعرف أن الخالق فضّله على هذا الوجود بأن يدرك تلك القوانين ويجمع تلك المتناقضات. هذا هو الفرق، فالغاية ليست نتيجة، والملحد جعل الغاية هي النتيجة، وفي هذا الأمر مشكلة كبيرة، لأنك حتى لو حققت الرفاهية، فلن تجيب عن معضلة الوجود، بل ستزيدها معضلة لأنني سأطرح عليك هذا التساؤل: لماذا لدينا أصلاً قدرة على التفكير بالوجود ولماذا كل هذه الجلبة والإنتاج العلمي والعمل المتواصل؟
تفكيراً ممتعاً.