السبت، 7 سبتمبر 2013

القفز بين الإيمان والإلحاد...


قفزة الإيمان هي أشبه بامتلاكك أرضاً على سفح جبل، وفي نصف أرضك هذه، صدعٌ يجب أن تقفزَ من فوقهِ وتبني جسوراً حتى تصلَ للجانبِ الآخر.






لربما، بل من المؤكد أننا نعيشُ في عصرِ ما يُعرَف بعصرِ المعلومةِ، حيث المعلومات متوافرة للجميع في أي مكانٍ وزمانٍ على وجه العموم. كل ما تحتاجه ببساطة حاسوب وخط انترنت. ثم تذهب لمواقع محركات البحث المشهورة، وتكتب تساؤلك في مستطيل البحث، ثم تظهر نواتج البحث ذوات العلاقة والبعيدة عن الموضوع!
تبدأ رحلة التفكير في الاطلاع على الأفكار المعروضة وبعدها يبدأ الهضم والاستيعاب والانتقاء والرفض.

طبعاً لم أوضح في الفقرةِ السابقةِ نوعيةَ الأفكار، فلربما كان باحثنا طالباً في مرحلةٍ دراسيةٍ معينةٍ، أو متسائلاً عن معلومةٍ معينةٍ، ولكني أتكلمُ بشكلٍ خاصٍ عن أصدقائنا أصحاب الشكوك. هؤلاء هم محور حديثي ومحور كتاباتي ولهم أتوجه بالأفكار والآراء دوماً.

ولنبدأ بالموقفِ المتشككِ، لنشرحهُ ولنوضحهُ. فأنت عندما تُعرَض عليكَ فِكرةً جديدةً، ستتفاعل معها بعدةِ طرقٍ:
1) لربما ستمرُّ عليها مرورَ الكرامٍ ولا تتوجهُ لها بالاهتمام (لسببٍ أو لآخر).
2) لربما تكونُ هذهِ الفكرةِ تمسُّ جانباً معيناً من حياتك، جانباً لا يعدُّ مهماَ جداً، فتنظر للفِكرة بقليل من الاهتمام.
3) الفكرة مؤثرة، وتمسُّ جانباً من جوانبٍ الأفكار المسبقةِ أو ما يُعرَف بالاعتقادات (الاعتقاد هنا هو ليس الدين، بل أي توجه فكري يتميزُ بسيطرةٍ على جوانبِ الحياةِ، عِلمياً كان أم دينياً أم اجتماعياً ام سياسياً وما شابهها من أفكار)، ولهذا فستوليها جلّ اهتمامك.
في نقاشي سأتوجهُ للنقطةِ الثالثةِ والتي هي لبُّ النقاشاتِ وأصلُ الإشكالاتِ. وقبل أن أفَصِّل رأيي وأوضح كلامي، سأعطي مقدمةً بسيطةً لمفاهيمَ نستخدمها في مدارس العلاج النفسي، هذه المدارس لا تختص بمن يعانون من الفُصام والاكتـئـاب، بل تختصُّ بمن عانوا من مشاكلَ اجتماعيةٍ كثيرةٍ أثرّت على تفاعلهم مع المجتمع المحيط. وسأتكلم أولاً عن الصورة الذاتية:


  1. الصورة الذاتية هي عبارة
  2. عن عدة صور لاعتقاداتٍ
  3. ومبادئ يعتقد فيها الإنسان
  4. وسلوكياتٍ وتصرفاتٍ في مواقفَ عديدةٍ يعتقدُ فيها الإنسان (المواقف: جربها أو شاهدها أو سمعها أو يتوقع أن تحدث له أو جديدة)
  5. وكل هذه الصور تمثل صورةً ذاتيةً للإنسان
  6. أي أن الصورة الذاتية عبارة عن اعتقادات
  • الصورة الذاتية كُلْ مكون من أجزاء
الأجزاء تختلف من إنسانٍ لآخرَ، جزءٌ للمالِ، جزءٌ لدورِ الأب، جزءٌ للعملِ، جزءٌ لعلاقة صديق أو أصدقاء، جزءٌ للعلاقة مع الجيران، جزءٌ لقيادة السيارة، جزءٌ للعلاقة مع المحارم، جزءٌ كمواطن، جزءٌ كفردٍ في أمّة، جزءُ ترويح، جزءُ تعلّم، جزءُ للعادات، جزءٌ للصحة، جزءٌ للاعتقادات، جزء ... إلخ
وللاستزادة تستطيع فتح الرابط التالي وتحميل الدرس بصيغة PowePoint للوقوف على تفاصيل الموضوع بشكل أشمل:




والآن ننطلق لمفهوم القيمة الذاتية، وأنقل لكم تعريفاً للقيمة الذاتية:
يُقصَد من مصطلحِ القيمةِ الذاتيةِ في علمي النفس والاجتماع، ما يَشعُر ويعبر عنه المرءُ من تصرفاتٍ تعكس مدى إحساسه بقيمته وتقديره لنفسه من الداخل. ففي حالة القيمة الذاتية العالية يشعر المرء بان وجوده ذو قيمةٍ عاليةٍ ويحس بانه يستحق الحب والاحترام وانه انسان جيد ومهم، والعكس صحيح

الآن ننتقل للمفهوم الثالث، وهو مفهوم مهم نستقيه من المدارس التربوية، ألا وهو البيئة الاجتماعية:

البيئة الاجتماعية:- ويقصد بالبيئة الاجتماعية ذلك الإطار من العلاقات الذي يحدد ماهية علاقة حياة الإنسان مع غيره، ذلك الإطار من العلاقات الذي هو الأساس في تنظيم أي جماعة من الجماعات سواء بين أفرادها بعضهم ببعض في بيئة ما، أو بين جماعات متباينة أو متشابهة معاً وحضارة في بيئات متباعدة، وتؤلف أنماط تلك العلاقات ما يعرف بالنظم الاجتماعية، واستحدث الإنسان خلال رحلة حياته الطويلة بيئة حضارية لكي تساعده في حياته فعمّر الأرض واخترق الأجواء لغزو الفضاء. وعناصر البيئة الحضارية للإنسان تتحدد في جانبين رئيسيين هما: أولاً:- الجانب المادي:- كل ما استطاع الإنسان أن يصنعه كالمسكن والملبس ووسائل النقل والأدوات والأجهزة التي يستخدمها في حياته اليومية، ثانياً الجانب الغير مادي:- فيشمل عقائد الإنسان و عاداته وتقاليده وأفكاره وثقافته وكل ما تنطوي عليه نفس الإنسان من قيم وآداب وعلوم تلقائية كانت أم مكتسبة.وإذا كانت البيئة هي الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ويحصل منه على مقومات حياته من غذاء وكساء ويمارس فيه علاقاته مع أقرانه من بني البشر، فإن أول ما يجب على الإنسان تحقيقه حفاظاً على هذه الحياة أ، يفهم البيئة فهماً صحيحاً بكل عناصرها ومقوماتها وتفاعلاتها المتبادلة، ثم أن يقوم بعمل جماعي جاد لحمايتها وتحسينها و أن يسعى للحصول على رزقه وأن يمارس علاقاته دون إتلاف أو إفساد.

بالاستناد للمفاهيم السابقة سأؤسس التشكك والإلحاد بشكل يوضح كيفية نشوئه:
إن الفكر التشككي في المعتقدات أو في الصورة الذاتية يبدأ بضغط البيئة الاجتماعية على منظومة المعتقدات والصورة الذاتية مما يؤثر على القيمة الذاتية للشخص.
هذا التعريف يُعدُّ مقتضباً جداً، ولهذا سأقوم بمحاول تفصيله وشرحه كي نصل لمفاهيم أعلى وأفضل:
ما المقصودُ بالضغط البيئة الاجتماعية:
كون مسألة الإلحاد والتشكك هي ميّزة شبابية، تَمرُّ في مرحلة المراهقة وتزداد في نهاية المراهقة لتقودَ الشاب إلى مرحلة رجولةٍ تتحول فيها الشكوك لقناعات راسخة، يَلزَمُنا فِهم الأثر الاجتماعي على الفِكر التشككي ودوره في نمو هكذا أنماط فِكرية. لن أقول إن المسألة سهلة كما سأوضحها، لأن المسألة تأخذ أبعاد أكثر، ولكن في التبسيط الإفادة.
أول عامل ضغط في البيئة الاجتماعية هو المنزل، لن أتكلم عن الشباب الذين تعرفت عليهم وكان سبب تشككهم وجود أب قاسي مثلاً، أو ازدواجية المعايير بين المنزل والمجتمع، ولن أتكلم عن أثر العلاقات الأسرية على نمو القيم والصورة الذاتية للشاب، ولكني سأتكلم عن هذا الشاب، لأن الشاب كما أسلفت هو محور أفكاري، وهو من أريد أن يستفيد منها.
البحوث العلمية الحديثة التي تختص بالجينات، أثبتت أن الإنسان ليس مجموعة من المدخلات والمخرجات فقط، بل هو عِبارة عن نظام معقد جداً لا يمكن التنبؤ بمخرجاته مهما تحكمنا بالمدخلات، فمنذ حمل المرأة يتعرض الجنين لمستويات مختلفة من الهرمونات والتغذية، هذا القفز بين المستويات يؤثر على ما يُعرف بالوراثة فوق الجينية، أي أن لا تأثير مباشر على تركيب الحمض النووي، ولكن هذا الأمر يقوم بتشغيل بعض الجينات التي تعطي استعداداً لتحول السلوك حال تعرض هذا الإنسان للظروف البيئية منذ الطفولة.
النوع الثاني من الضغوط البيئية، هو ضغوط خارج المنزل، ضغوط خارج المنزل تؤدي لتغيير في القيمة والصورة الذاتية. ولتقريب الصورة: أبوان فقيران، يربيان ابنهما بمحبة، ولكن الابن ينشأ بعقدة نقص الفقر، وهذا سببها الظروف الخارجية عموماً. ومن الضغوط الخارجية التي تؤثر على القيمة الذاتية والصورة الذاتية، الظروف القاسية من مثل الاحتلالات والموت. مثل تلك الظروف تجعل الفرد يتساءل عن إن كانت لنا قيمة أصلاً! فانتشار الموت يطرح تساؤلات عن قيمة حياة الإنسان، ويطرح تساؤلات بنفس الدرجة عن أولئك الذين يَقتُلون باسم الدين، ثم يتطور التساؤل للحالة العامة التي تعيشها أمتنا الإسلامية، ويقارنها (ولو أن المقارنةَ ساقطةٌ لغياب الأسس المشتركة) بما فعلته أوروبا التي عانت من هيمنة الكنيسة بشكل كلي، فتخلّصت من الكنيسة وحَشَرت الله في المعابد، بل حاربته فكرياً بالعلِمانية والمد المادي.
النوع الثالث من الضغوط البيئية ما أسميه بالانكشاف المعرفي، حيث يتعرف الشاب لأفكار جديدة تجعل أسسه القديمة تهتز وتتزعزع من محلّها.
في الحقيقة لا يمكننا أن ننظر لكل عامل على حدة لأن نشوء الإلحاد أو اللادينية عموماً في الغالب هو موقف نفسي اجتماعي فكري، قبل أن يكون خيارٌ عقليٌ. الخيار العقلي في التشكك لابد أن تسبقه ضغوط اجتماعية ونفسية تؤدي لتكوين أو تعديل أسس معرفية معينة وقواعد فكرية يرجع لها الإنسان في خياراته وتعاملاته المختلفة.
لا أنكر إن عملية زعزعة الأساس الفكري الشخصي، والتخلص من الموروثات، وبدء الأساس من جديد أمر صعب مستصعب، فمن الصعب أن يقوم الإنسان بكسر أسسه وترك استقراره بنفسه.
لقد أشرت سابقاً إلى القيمة الذاتية، وأشرت إلى الظروف المؤدية إلى التأثير عليها، ولكني لم أقم بتوضيح المسألة بشكل كلي. في الحقيقة إن مسألة التدين أو التشكك لدى المراهق تشبع لديه حاجة معينة، فالمراهق عموماً يسعى لإثبات نفسه ووجود، فنجده يكون حساساً تجاه منظره، سلوكه، ثم يحاول التمسك بطريقة معينة ليجد القبول، أو ربما يتخذ مساراً متطرفاً كي يثبت نفسه وشخصيته. إحدى المسارات المتطرفة هي التشدد الديني، ومسار متطرف آخر هو ترك الدين. في التحليل العلمي كلاهما وجهان لعملة واحدة لا ريب.
أنقل لكم كلاماً مهماً في خواص التفكير المنطقي لدى المراهقين كي نفهم آلية التفكير لدى هذه الشريحة المهمة في المجتمع:
خصائص التفكير عند المراهق:
إن اسم "جان بياجيه" أصبح مألوفاً لدى قراء هذا الكتاب، إذ أنه واكبنا في الفصول السابقة عندما تحدثنا عن التطور الفكري، وكما نعلم فإن نظريته تشمل القدرات الذهنية منذ الطفولة وحتى سن الرشد، ولقد أعطى تحليلاً دقيقاً لفترة المراهقة، وفيما يلي أهم ما ورد في هذا التحليل:1) التفكير الافتراضي الاستنتاجي:عندما يواجه المراهق مسألة ما، يبدأ بطرح نظرية عامة حول كل العوامل التي قد تؤثر على النتيجة، ومن ثم يستنتج فرضيات محددة (أو تنبؤات) حول ما يمكن أن يحصل. بعد ذلك، يختبر المراهق هذه الفرضيات بطريقة منتظمة ليرى أي واحدة منها (أو أكثر) قد تنطبق في العالم الواقعي.نلاحظ من خلال هذه العملية كيف يبدأ حل المسألة باحتمال وينتهي بالواقع، وهذا عكس ما يحصل عند ابن التسع سنوات مثلاً الذي يبدأ بالواقع الملموس مع تنبؤات ظرفية، وعندما تفشل هذه لا يجد الطفل بدائل أخرى فيفشل في حل المسألة.
وهكذا نرى أن المراهق يبدأ في حل العمليات الفكرية من خلال التفكير المنطقي، ويطبق النظام الفكري، ويخضع لقوانين ومبادئ المنطق، ويتخلص تدريجياً من التفكير الحدسي الذي كان يوجه تفكيره حتى الآن.2) التفكير الاقتراحي:يستطيع المراهق أن يقدر منطق الاقتراحات من دون أن يلجأ إلى مستندات ملموسة في العالم الواقعي، بعكس ابن التسع سنوات الذي يستوعب منطق الاقتراحات فقط بالاستناد إلى حقائق ملموسة. إن تطور النطق خلال المراهقة يساعد على التدرج نحو هذا النوع من القدرات الفكرية، فالتفكير المجرد يتطلب أنظمة لغوية تمثل أموراً تتعدى الحقيقة المادية، ففي عمر الأربعة عشر عاماً يبدأ المراهق باستخدام هذه الأنظمة في مادتي الجبر والهندسة، كما أنه يبدأ بالتحليل اللغوي للمفاهيم المجردة (معنى الحرية في مادة الفلسفة).

ويتكلم مصدر الكلام أكثر عن مشاكل مثل المثالية والنقد فيقول:
المثالية والنقدإن تطور التفكير المجرد الذي يميز مرحلة المراهقة يفتح الطريق أمام المراهقين لعالم من المثاليات والكمال، فالمراهق يتخيل عائلة بديلة، وأنظمة دينية وسياسية وأخلاقية مختلفة، ويريد أن يكتشف كل هذه الاحتمالات الجديدة.عبر هذه الطريق يصل المراهق إلى تحديد قيمه وهواياته وميوله الشخصية.فمثالية المراهق تجعله يبني تطلعات سامية نحو عالم كامل من دون ظلم، ولا بؤس، ولا تمييز، ومن ثم يصر على أنه يتطابق الواقع مع هذا العالم المثالي، لذلك تراه لا يتحمل نواقص الحياة اليومية. هذا هو ما نسميه الفجوة بين الأجيال، جيل الوالدين وجيل المراهق، وهذه الفجوة تخلق الكثير من التوتر في العائلة. فيصبح دائم الانتقاد لأهله وإخوته الذين لا يطابقون العائلة المثالية التي يحلم بها.إن كل الملاحظات المؤلمة التي يوجهها المراهق لأهله قد تبدو لنا، في انطباع أول، بغيضة وغير حساسة ومتطلبة، ولكن يجب أيضاً أن ندرك أن لها محاسن في المدى البعيد: عندما يتعلم المراهق أن للناس حوله نقاط ضعف ومواطن قوة، يصبح قادراً على العمل نحو التغيير الاجتماعي، وعلى بناء علاقات اجتماعية إيجابية قادرة على البقاء.فعلى الأهل مساعدة أولادهم في صياغة توازن أكبر بين المثالي والواقعي، ويتم ذلك من خلال تحملهم الصبور لهذه الانتقادات مهما كانت لاذعة، وتذكيرهم أن كل الناس، بمن فيهم المراهقين، هم مزيج من الفضائل والنواقص.

ويمكنكم العودة إلى هذا الرابط للاستزادة من الكلام أعلاه: http://islamselect.net/mat/23979

والآن أنتقل إلى مرحلةٍ مهمةٍ في التفكيرِ والتي تميّز بين الرجل الباحث عن الحق والرجل الباحث عن اثبات رأيه فقط، فمراهقنا المتشكك العزيز قد ترك عالم المراهقة ودخل عالم الرجولة وهو يبحث عن نفسه، يبحث عن أفكاره، وقد تعمّق في الفلسفة والفكر دون أن يمتلك الآليات المناسبة، وان امتلكها لم يستطع ان يهضمها بشكل جيد بشكل عام. لا ننكر وجود العباقرة، ولكن بنفس الوقت نحن نتكلم في عموم المراهقين. فالمراهق في الغالب قد يحول شكوكه لمسلمات تقوده لليقين بعدم وجود ذلك الشيء المتنازع حوله، أي ان شكّه ناتج عن غياب هذا الشيء. ويتحول هذا الشك الممنهج إلى اعتقاد ذاتي وجزء من صورة الإنسان الذاتية، فيمسي مدافعاً عن وجوده ووجود فكره في حلّه وترحاله (أليس هذا حالنا جميعاً؟!). وقد يتحول لرجلٍ ملحدٍ أو ربوبيٍ ويتقبل فكرة الاختلاف فلا يفرض رأيه على الآخرين، وقد يتحول لملحدٍ أو ربوبي دوجماطيقي يفرض رأيه على الآخرين. وقد يستمر في بحثه ليصل إلى ما أقوم بتسميته: قفزة إيمان.

إن الإنسان حتى يعيش بتوازن بين وجوده وفكرة فناءه والغاية منه والفائدة منه وحقيقة العدل والثواب والعقاب ووجود الحقوق وغياب المساواة، يضطر إلى تكوين فلسفة أو اتباع فلسفة أخرى. إن أعظم إنجاز برأيي للبشرية هو الفكر المجرّد، هذا الفكر القائم على التنزيه عن الكيفيات والوصول لعالم لا يتحقق فيه الوجود خارجياً، مثل الأرقام، فالرقم لا حقيقة له، ولكننا نشبه الأرقام بكميات لتقريبها ذهنياً للأطفال، وللأسف علق هذا المفهوم في عقلنا إلى يوم رحيلنا!
في استعراض بسيط، ولن اخوض في مشاكل الفلاسفة الماديين والملحدين مع الأديان والمنظومة الدينية، نجد أن الفلاسفة والمفكرين حاولوا جهدهم تقديم مفاهيم جديدة لكل من الوجود والحقيقة والخير. مفاهيم تتقاطع والحاجة الإنسانية للبقاء وأنانية الإنسان في حصوله على قوت يومه. فمثلاً حتى نبرر وجود عالم فيه هذه المتناقضات ظهرت فكرة الجدل، والمادية التاريخية، والتي تم خلالها وصف نشوء الأديان، مع إني أتحفظ على كلمة نشوء الدين، فالأفضل أن نقول تطور الفكر الديني، لأن الدين هنا يُقصد به التشريع، والتشريع يتطور، ولا نتكلم عن نشوء الإيمان بالغيبيات مثلاً فهذا محل خلاف وافتراضات. ولدينا من الملاحدة الجدد، سام هاريس، يعرّف الخير بأنه ما ينفع في الحفاظ على بقاء الإنسان. وهذه كلمة متناقضة بحد ذاتها إذ تجعل كلمة خير مساوية لكلمة مصلحة ببساطة. هذه مفاهيم عميقة يحاول الماديون والملاحدة تأسيسها لنقض الأديان وأفكارها.
في الحقيقة، ومن خلال القراءة التاريخية يتبين لي كالآتي:
وجود نزعة إيمانية لدى الإنسان.
حاجة الإنسان لقانون اجتماعي ينظم حياته وعلاقاته.
وجود صراع واحتكاك بين البشر.
والأهم من هذا وجود الشك بكل أنواعه.
سأختصر النتيجة التي وصلت لها عن طريق تجربتي الخاصة:
هناك طريقان لدينا، إما أن نسلّم بأن الدنيا هكذا فلا ثواب ولا حساب، وحتى وإن وجد الخالق فقد نسانا، والجنة والنار في الأديان هما لا يعدان سوى ذكرى طيبة أو خبيثة التي نتركها بعد وفاتنا. في الحقيقة طالما توقفت لأنظر إلى هذه المسألة عميقاً وفي كل مرّة أنظر للجواب المقدم من قبل كل من الأديان والفكر الإنساني، وفي الآخر المسألة هي فكر مقابل فكر آخر، وبقياس بسيط، وبمفهوم معروف: رجل ينجب ويترك أولاده يعيشون كفافاً، أو رجل ينجب ويرمي أهله، أو حتى امرأة لا تهتم بأسرتها، ما أفضل صفة نطلقها على هؤلاء؟ أترك الجواب لكم.
وقد يعترض أحدهم فيقول: في الطبيعة لا وجود لمثل هذا، فالنظام الأخلاقي الذي تحتج به نسبي. سأجيبه وعلى وجهي ابتسامة: فهل أنت مستعد للتخلي عما وهبه التطور لك؟ فأنت الآن تقول لي أن الأخلاق نسبية، وأن لا مشكلة لدي مثلاً في أن أقتل أولادي ثم آكلهم على العشاء. لك الحكم في هذا، لأن هذا يحدث في الطبيعة وفي عالم الأسماك والثديات أيضاً.
وبعد سقوط الفكرة الأولى سقوطاً شاملاً، قررت أن أنظر للفكر الديني نظرة أخرى وتحليلية، نظرة بعيدة عن التدين السائد والتمسك بالعبادات على أنها أصل الدين وروحه، بل هي إحدى دعائمه وليست كلّه، فلا معنى للدين بلا عبادة وإلا أمسى مجرد فكرة معينة لها متبعيها. وجدت أن الدين يقدم لنا أفكار رئيسية معينة:
وضعنا على الأرض كخلائف.
الأرض مكان معاناة واختبار.
لدينا عقل لنتبعه.
وأن الله ليس بعابث.
وأن كما لله صفات الجمال، مثل الرحيم والغفور والمعطي والرزاق، فإنه له صفات الجلال: المنتقم الجبَار العزيز المتكبر.
وكما قال الأستاذ معز مسعود، فإن الله يعرّفنا على نفسه بصفات جلاله وصفات جماله، وأضيف أن علينا كبشر محدودين فهم هذه المسألة، لأن الله اعطانا عقولاً تستطيع التمييز والاختيار وفق المعطيات الموجودة.
وهنا مربط الفرس، كما يقولون، فقفزة الإيمان تتطلب إدراك ووعي لا يمتلكه الشاب عموماً، بل يجب عليه أن يطوّره، وأن يميز بين المنهج الإيجابي الذي يعطي إجابات شاملة والتي تتفق مع العقل والمنطق ومفهومنا للحقوق. فالأخلاق لها مصدر علوي، وأن وجودنا هنا ليس عبثي، وأن الإنسان مسؤول عن خياراته وفق المعطيات التي نملكها.
فأين قفزة الإيمان؟
في الحقيقة وبعد طول بحث، تبيّن لي بعض الأمور: أن الإيمان يتطلب التسليم ببعض المفاهيم الغيبية التي لا يوجد عليها امتناع عقلي، بل أن العقل بنفسه يحض عليها: ثواب، عقاب، جنة، نار، ابليس، آدم. وجدت أن الأديان يشدّ بعضها بعضاً وليس كما يظهره اتباعها، فالتطبيق عموماً سيء وتم حصر الدين بغاية واحدة: بوليصة تأمين ضد جهنم. وهذا مبحث طويل يتطلب مننا فهم تطور الفكر الإنساني وتأثير السياسة على النظرة الدينية بشكل خاص. هذه هي القفزة الإيمانية، فكما يقفز المتشكك إلى التمسك بالجهل كسبيل للإنكار، فالمؤمن يقفز قفزته ليؤمن بتلك المفاهيم التي تجعل منظومة الحياة تكتمل وصورتها تتوضح. وفي الحقيقة لا يوجد ملحد يستطيع إعطاء صورة كاملة عن الحياة دون الدخول في التناقض كونه ينظر للأمور من جانب مادي بحت، فالإنسان في نظر المادة خاضع لتفاعلات محددة، ولأن حجم التفاعلات كبير ومعقد وبيئة الإنسان محدودة فإنه في النهاية وإن بدا مخيّراَ فهو مسيّر، ولهذا فالإنسان مجبور غير مخير لدى الماديين. وبنفس الوقت ترى الماديين يدافعون عن الحريات وبأن الإنسان يجب أن يختار دينه؟ كيف يستقيم هذا وذاك؟ الجواب بسيط: لا اعلم!
أما النظرة الدينية الصائبة فهي تبين أن الإنسان مخير ومسير، وأن خياراته مبنية على معطياته الأولية، وفساد المعطى الأول يؤدي إلى فساد الاختيار.
إذاً ومن هنا فأنا أدعو الملحد إلى البحث الصادق مع نفسه، البحث عن نقطة التوازن في النظام، النقطة التي تجيب عن التساؤلات الوجودية وسنصل إلى نتيجة واضحة، لن أقول لك ما هي، لأنك ستعرفها بنفسك.
لا عيب في البحث عن الأجوبة الوجودية، ولا عيب في اتباعها، والدليل انتشار البوذية الي تتكلم عن التوحد مع الكون كمنهج روحاني بين الماديين الغربيين، ومع هذا فالبوذية غير قادرة على إقامة نظام عادل، سوى بما يعرف بتناسخ الأرواح وهذا مبدأ آخر وغريب بصراحة.
إن الملحد في جوهره شخص يريد ان يرى التغيير ولكنه وفي خضم الحياة وقع في شراك ابليس، فلبس عليه الحقيقة، وصدق من قال: تلبيس إبليس. في الحقيقة وكما قال معز مسعود، فإن منهجية اختصار الإنسان إلى تفاعلات وجسد هو المنهج الذي يتبعه الماديين فيسقطون قيمة الإنسان الحقيقية. وأكرر أنا لم أتكلم عن سوء تطبيق الدين ولا مصادر فهمه، فهذا مبحث آخر تخوضه عندما تقفز قفزة الإيمان وترمي الموروث القديم بمشاكله وتحتفظ بالجديد.

مؤخراً وقعت على دراسة، هذه دراسة تتكلم عن الالحاد وعلاقته بالعمر، فقد وُجِد أن الإلحاد ينخفض مع ازدياد العمر فيصل الأمر للايمان بوجود الله.وقد تكلمنا عن هذا في مقالنا قفزة ايمان، والبحث يؤكد كلامي، مع خلافي مع السادة الباحثين حول سبب الايمان نفسه... فالخوف من الموت ليس سوى ذريعة حتى يسدون بها ثغرة اقرار للانسان بحقيقة الخالق والعودة للفطرة ...

وقد اشار البحث أن الإلحاد ينتشر بين الشباب تحت الـ٢٧ عاما او ٢٨ عاما، وكذلك المراهقين، وهي اعمار ملاحدة الفيسبوك كما ارى...


http://news.uchicago.edu/article/2012/04/18/belief-god-rises-age-even-atheist-nations

والحمد لله رب العالمين.