السبت، 1 فبراير 2014

نافذة على الفلسفة - الدرس التاسع

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس التاسع

العليّة

(العلة والمعلول) (1)


(80)


إن لكلّ ممكن ـ محتاج وفقير ـ علّة تفيض عليه الوجود والتحقق كحقيقة الإنسان مثلاً، فإنها في حد ذاتها مفتقرة إلى علة توجدها، فإن وجدت علتها وجدت هي معها وإلا فلا، ولا يختلف حول هذهِ المسألة اثنان وهذا المعنى هو المستفاد من أصل العليَّة، ومن هنا فإن كلَّ عاقلٍ سويّ يذعن بأنَّ لكلِّ مصنوع صانعا ولكلّ مخلوق خالقاً ولكل معلول علّة، فما دام الموجود في ذاته مفتقراً في وجوده وتحققه فلابد وأنْ يكون مرتبطاً بسبب أفاض عليه الوجود والتحقق، وهذا بخلاف ما لو كان الموجود في ذاته غنياً عن غيره في الوجود، فلا معنى لاحتياجهِ إلى علة تفيض عليه الوجود ما دام غنياً عما سواه في ذلك؛ إذ الوجود بالنسبة إليه متحقق، وهذا من قبيل عدم احتياج الملح إلى ملح حتى يكون مالحاً، فما دام هو مالحاً لا معنى لاحتياجه إلى الملح، إذ أن أمراً كهذا يكون لغواً؛ لأنه تحصيل للحاصل.

ومن هنا، فإنّ الإلهي الموحّد يرى بأن الله‏ غني عن كلِّ علّة مهما كان لونها، بل إن كلَّ علّة مدينةٌ في وجودها وتحققها إليه تعالى، فهو العلّةُ الأولى لكل ما سواه، وما سواه معلول ومفتقر إليه جَلّ‏ وَعلا؛ وقد أثبت الفلاسفة والمتكلمون ذلك بما لا يُبقي مجالاً للشك والتردد كما سوف يتضح فيما يأتي من بحوث. (1)


1 ـ راجع: الدرس العشرين.
(81)

 

لا شك في وجود علاقة بين المعلول وعلته المفيضة له بالوجود والتحقق، وإنما المهم في هذا المجال معرفة نمط هذه العلاقة وسرّها، وعلى هذا الصعيد ذُكرت نظريات مختلفة، إليك بيانها:

وقد ذهب إلى هذه النظرية جمع من الفلاسفة الماديين حيث أكدوا على أنَّ سرَّ العلاقة بين المعلول والعلّة يكمن في كونه موجوداً، فكل موجود محكوم عليه بالارتباط بعلة وجوده، ولأجله أكّدوا على أن لكل موْجودٍ موجداً، وفات هؤلاء أن الموجود إذا كان في وجوده غنياً فلا معنى لارتباطه بعلة تفيض عليه الوجود وتمنحه الغنى، وإنما يحتاج الشيء إلى علة الوجود إذا كان في ذاته مفتقرا إلى الوجود، كما سنتحدّث عنه في نظرية الإمكان، بعد قليل.

ومن هنا ذهب الإلهيون إلى القول باستغناء الله‏ عن علة الوجود، إذ إنه غني فلا معنى لفرض ارتباطه بعلة توجده وتمنحه الغنى إذ هو تحصيل للحاصل، وتحصيل الحاصل باطل كما يقولون.

وهذه النظرية منسوبة إلى علماء الكلام، ومفادها هو أن سرّ ارتباط المعلول بعلته حدوثه، فكل حادث محتاج في حدوثه إلى علة الحدوث، وهذه النظرية لا تخلو من نظر، لأنّ لازمها استغناء الحادث بعد حدوثه عن علته المُحْدِثة له وهو باطل كما سيأتي بعد لحظات.

(82)

 

وقد نسبت هذه النظرية إلى الفلاسفة الإسلاميين وفي طليعتهم صدر المتألهين الشيرازي، ومفادها: أن سرّ ارتباط المعلول بعلته هو إمكانه وافتقاره الذاتي الوجودي.فالممكن في حد ذاته خلو من كل وجود، وإذا ما وجد فإنّ وجوده فيض من غيره، فسرّ ارتباط المعلول بعلته إمكانه وافتقاره إليها. (1)

وإليك توضيح الفكرة بأمثلة بيانية: إن العلاقة القائمة بين العلة والمعلول علاقة ارتباطية لا استقلالية، فإنك حين تقرأُ كتاباً أو تنظر إلى صورة جميلة أو تصافح صديقا لك، فإنه سوف توجد بينك وبين كل ما تقدم علاقة، وهذِهِ العلاقة تنتفي بمحض إعراضك عن تلك الأشياء، إلا أن انتفاء علاقتك بها لا يوجب انتفاء وجودها أو وجودك بل يبقى وجودك ووجودها على ما هو عليه، وهذا يعني أن وجود كلٍّ من الطرفين مستقل عن الآخر، وهذا هو معنى العلاقة الاستقلالية القائمة بين الطرفين.

بينما تجد العلاقة القائمة بين حركة اليد وحركة القلم علاقة تعلقية، بمعنى أن حركة القلم تنتفي بمحض قطع علاقتها بحركة اليد، وهذا يعني أن العلاقة الحاكمة بين حركة اليد وحركة القلم علاقة ارتباطية، أي أن حركة القلم مرتبطة في وجودها بحركة اليد، فلا وجود لحركة القلم من دون حركة اليد، وهذِهِ العلاقة
 

1 ـ وقد وقع خلاف بين الفلاسفة في أن الإمكان المذكور هل هو إمكان ماهوي، بناءً على نظرية أصالة الماهية، أو أنه إمكان وجودي، بناء على نظرية أصالة الوجود؟ والصحيح هو الثاني على ما اختاره صدر المتألهين، وتفصيل الكلام وبيان الخلاف موكول إلى دراسات أعمق. وقد تقدمت الإشارة إليه فيما سبق عند البحث عن الماهية والوجود.
(83)

 

قائمة بين كل علّة ومعلولها، فالمعلول عدم عند عدم علّته، وهكذا يمكن تصوير علاقة الكون بكل ما فيه ومن فيه بخالقهِ وبارئه الذي هو الله‏ سبحانه، فالمخلوقات نفحة من نفحاته وفيض من فيوضاته القدسية، فلا يستغني أيُّ موجود عنه تعالى، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله‏ العليّ العظيم.

 

(84)

1 ـ ما هو مفاد أصل العليّة؟
2 ـ لماذا يدّعي الإلهيون استغناء الله‏ عن علة توجده؟
3 ـ اشرح نظرية الحدوث؟ ثمّ بيِّن ما يمكن أن يرد عليها من إشكال.
4 ـ ما هي نظرية الوجود؟ و ما هي المؤاخذة عليها؟
5 ـ ما هي نظرية الإمكان الوجودي؟
6 ـ اشرح العبارة التالية مستعيناً بمثال توضيحي:

«إن العلاقة القائمة بين العلة والمعلول ارتباطية لا استقلالية».

الإسلام الطقوسي والاقتصاد

بسم الله الرحمن الرحيم يعيش اليوم الإسلام الطقوسي مرحلة حرجة تقوده باختصار لاختراع الاحكام الشرعية اختراعاً عن طريق استقطاع النصوص وال...