الخميس، 27 فبراير 2014

وجهة نظر

بسم الله الرحمن الرحيم

لا أعلم من أين أبدأ، وبالتأكيد لا أعلم كيف سأنتهي.

واعدتكم قبل فترة قصيرة بأني سأكتب لكم مقالاً يوضح المشاكل التي وقفت عليها مع تقديم حل على أساس برجماتي لما مررت فيه. 

أقدم لكم اليوم خلاصة نظرتي لما وقفت عليه من أمور 

نسأل الله التوفيق في مسعانا


بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، 

الفلسفة، محيط كبير، بحر واسع، وأفكار كثيرة ومدارس متعددة. من يدخلها، لابد أن يتمتع بعقل ناقد، وبصر ثاقب. ومن يدخلها بلا تلك الميزات، سيحتاج إلى وقتٍ طويلٍ كي يطوّر المفاهيم الكافية لفهم الأسس التي تقف عليها الفلسفة. 


أولاً وقبل كل شيء، يجب أن نفهم أن الفلسفة هي نشاط عقلي بامتياز، وهي قائمة على حب المعرفة، ولهذا نحن نميز بين الفلسفة والسفسطة. ولكن ومع مرور الأيام، بدأت الناس تخلط السفسطائي بالفيلسوف، وبالتالي فإن السفسطائي أمسى فيلسوفاً. 

السفسطة تقوم على الإنكار، بل تستخدم جميع الوسائل المتاحة لشرعنة الإنكار، والسفسطة قامت على الشك، ولكن أي شك؟ الشك في الوجود! فالسفسطة وإن قامت على الأدلة العقلية، فإن تلك الأدلة أنكرت الواقع بشكل كامل. وطبعاً نافح افلاطون وسقراط من أجل إسقاط السفسطة فسقطت، ولكن الأفكار لابد أن تتوالد، فولدت المدرسة الشكية التي أنكرت وجود واقع واضح جلي، وأقرت أن الوجود في الذهن. وطبعاً سخرّت تلك المدرسة أيضاً الملكات الفكرية في إثبات حججها. والمضحك، أنها دخلت في الفلسفة أيضاً. 

نعم المدرسة الشكية قدمت وجهة نظر جديدة للواقع، فهي نسبت الواقع لادراكنا، أي أن الواقع هو ما يدور في أذهاننا، بل نفت أن هناك واقعاً خارج الذهن، ولربما اخذت منهجاً أقل جزماً، فقالت بوجود واقع خارجنا ونحن لا نستطيع التيقن من مطابقة ادراكنا للواقع. وطبعاً بناءً على هذا التأسيس تم تفنيد الكثير من المفاهيم العقلية من مثل السببية ومطابقة العلم للوجود. 

طبعاً هناك مناهج إسلامية وإلحادية تنفي الواقع خارج الذهن، وكي أكون واضحاً جداً، فأنا لست من مؤيديها أبداً، بل أنا ممن يمزجون الشك باليقين في منهجية أكثر وضوحاً، وسأبدأ الآن تباعاً بتوضيح رأيي، ولا أدعي لنفسي التجديد، ولا الابداع ولا الابتكار، ولكني أحاول توضيح رأيي هنا.

الآن، إن كانت هناك سببية وإن لم تكن، وإن كان هناك فقط تصادف واحتمال أعلى وإن لم يكن، فالقضية ستتحول لما نعرفه بلعبة الكلمات. التمييز بين الوهم والحقيقة وإن كانا ذهنيين فقط قضية مهمة جداً في فهم طبيعة الوجود وإقامة العلم ومفاهيمه بشكل واضح.

كيف نعرف بأن هناك واقع خارج "عقولنا"؟ 
الجواب: لا يمكن أن نعرف بطريقة مباشرة، إنما يمكن أن نستنتج بأن هناك واقع والسبب تغير الفهم لنفس الظاهرة. أبسط مثال تفسير حركة الأرض والنجوم والشمس. 

من وجهة نظر مادية بحتة، متى نعرف أن هناك وجود؟ لو عاملنا الدماغ والحواس على أنها منظومة حاسوبية مزودة بحساسات (الحواس)، فالحساس لولا التغييرات المحيطة، فلن يعرف بوجود "الوجود" ما لم تتغير الظروف فتتغير الخواص، وبثبوت تغير الخواص يتوقف الإحساس بالوجود. هكذا تتعمل جميع الاجهزة الحساسة، فهي تقرأ التغيرات وتحولها لمعطيات نفهمها نحن بلغتنا عبر الربط بعلاقات غير مباشرة! 

نعود، اذن احساسنا بالوجود (بغض النظر عن حقيقته) هو احساس نابع من فهمنا للتغيير، فوجود التغير ينعكس عبر الاحساس إلى فهم عميق إلى وجود الوجود المتغير. ثم أن عقولنا إن افترضناها كنظام قادر على التعلم وتصميم النماذج، وهذا ما يحدث ولا ينكره أحد، فإن أنكر قدرة العقل على صناعة النماذج (من مثل السببية) فالنقاش منتهي فوراً وبلا نقاش. عقولنا هذه لديها قدرة على تطوير الأنماط وتجريد الواقع وخلق مفاهيم متعالية وكلية. 

مناقشة أخرى: الدماغ يخلق الواقع في الحلم، ويجعلنا نصدقه ونتأثر به! وبالتالي فنحن نستطيع أن نقول أن الدماغ يخلق الواقع، بل أن المجنون يسمع أوهاماً ويرى أوهاماً. 
أقول الاعتراض جميل، ولكن هذا لا يسقط كلامي حول تغير الوجود، فمن وجهة نظر مادية بحتة، فالدماغ قائم على التفاعلات، والتفاعلات هي جزء من الوجود الخارجي، فلا أحد يرى خلايانا وهي تؤكسد الطعام ببساطة، وبالتالي فإن مجرد وجود الأوهام والأحلام دليل على وجود تغير بالوجود الخارجي! 

اذن لا يمكنني أن أرفض ببساطة عدم وجود خارج عني وأرفض أكثر عدم قدرتي على الاحساس به! 


نعود لمسألة السببية، فهل السببية الطبيعية ضرورة للطبيعة؟ الجواب لا. ولكن هل السببية بذاتها ضرورية كفكرة؟ الجواب: نعم. نحن بلا سببية سنسقط في دوامة كبيرة جداً هذه الدوامة ستدخلنا في الشك والألم. السببية، ببساطة، ينكرها عقل المتشكك وبنفس الوقت يحتاجها. فهل أفكاره ذلك المشكك وتوافق حروفه محض ترتيب توافقي للأحداث؟ ومحض صدفة؟ هل يرى أفكاره أتت صدفة أم أتت وفق تحليل وتفكير؟

ربما كانط كان الأوفق في افتراض السببية كمفهوم متعالي (حسب فهمي) ومفهوم قبلي، وحسبما فهمت فهو يعتبرها مفهوماً أساسياً ضرورياً. وطبعاً هذا ضد منهج هيوم القائل بأن السببية مشتقة من فهمنا للحوادث التي تحدث بالاتفاق. 

برأيي الشخصي، وحسبما فهمت من دراستي للعلوم واطلاعي على الفلسفات المختلفة، فقد وقفت على أمور يقع فيها من يفكر:
1- الفيلسوف يرى السببية حقيقة.
2- السفسطائي يراها وهماً. 

وكوني من جنس الفلاسفة كما أرى نفسي، لا من جنس السفسطائيين ولا من جنس الشكاك، إنما "متشكك" قليلاً، فبالنسبة لي، وحسب وجهة نظري الشخصية، السببية لاحقة للوجود وطبيعته. أي أن السببية ليست مطلقة وليست بالقانون، وبالتأكيد العلم لا يخضع بالضرورة للسببية، ومن اشتغالي بالعلم، فأنا أكوّن بعض العلاقات غير السببية القائمة على دراسة أنماط التغير وانشاء علاقة رياضية بسيطة فيما يعرف بالتراجع "Regression" فتلك العلاقة لا سببية بامتياز، ولكني سأسأل سؤالاً بسيطاً، ما سبب وجود هكذا علاقة "غير سببية"؟ هل هذه العلاقة نتجت فقط بسبب توافق الفرص؟ هل تصح هنا مسألة ديفيد هيوم؟ هل وفق الاحتمالات نستطيع ان نستنتج أن التوافقات عالية الاحتمال بعيدة عن العشوائية التامة؟ 

هذا يقودني لنقطتي الأخرى، نعم أن العالم يجري على انماط احتمالية بالتأكيد، وهذا ما أدركناه في ميكانيكا الكم، ولكن ميكانيكا الكم تضع شروطاً واضحة لهذا الأمر: وجود المراقب. نعم، أخذتكم لنقطة مستطردة، ولكن العلم الحديث يخبرنا أن هذا الكون إن وجِد حسب قوانين الكم، فهو يحتاج لمراقب خارجي حتى يوجد (حسب كتاب البحث عن قطة شرودنجر). فإن الوجود اللاسببي فيزيائياً في ميكانيكا الكم، يٌعزى وجوده لمراقب خارجي. هذه نظرة حالياً مقبولة وفق المعطيات التي نملكها.

في مسائل الرياضيات المختلفة، فإن تطبيق قواعد التكامل والاشتقاق يتطلب منك فهم إن النظام "متصل" غير متقطع، ولكن في الحقيقة الطاقة تأتي على شكل كمّات والحرارة تنتقل عبر حركة الالكترونات وهي ليست حركة مستمرة بل متقطعة احتمالية. وطبعاً نحن نحاول تحويل العلوم وتحويرها لحل هذه المشاكل ولدينا نجاحات عبر تلاعبات رياضية قادرة على تمثيل تغير الأنماط المتغيرة في الطبيعة. مجرد تلاعبات تحاول وصف العلاقات المتغير في الواقع بشكل أدق. 

نعود لأصل النقاش: وجود الواقع الخارجي والسببية. فالسببية كما أوضحت مفهوم أساسي لدينا، وأمسينا نعلم بأن له حدوداً وأنه غير قابل للتطبيق في كل زمان ومكان. وتعلمنا أن العلم متغير، وهناك أدلة على تغيره جذرياً تاريخياً، ولا يوجد أي مانع من اكتشاف قوانين جديدة كلياً بمفاهيم جديدة كلياً، فتمسي علومنا الحالية ضيقة النطاق كما أمست علوم نيوتن أمام نسبية آينشتاين، وكما أضحت نسبية آينشتاين حبيسة المقياس الكبير فوق الذري أمام الكم الذي بدأ يمتد في الأجسام الكبيرة تجريبياً. 

هناك نمو جديد لدي بالاتجاه الفكري، فبعد أن كنت أربط الوجود بالسببية، تبين لي أن السببية مفهوم مطابق لبديهية أن 1+1=2، والتي لا يمكن إثباتها حسب مبرهنة Godel والتي اظهرت فرضية برتراند راسل الداخلية في نظرية المجموعات حسبما قرأت، فأمست السببية أساساً فكرياً لي. مؤخراً ثبت لي أن هناك ثوابت كونية تتغير، وأن السببية مفهوم مشكل، ولم يبقى غير الوجود الخارجي، الذي لا استطيع انكاره بسهولة حالياً، وحتى وإن أنكرته فهناك مخرج بالتأكيد. وبالتالي فالإنسان عبد لما يضعه كأسس، وإن تجرد من الأسس سيهيم بين الأفكار، ورب إنسان راجع أسسه.

ليست المسألة سهلة أبداً، وأن من ينكر الوجود الخارجي بالمطلق، فهذا دخل في متاهة. نعم الإفحام ممكن، وهذا ما يقوم به السفسطائي، وليس الفيلسوف. الفيلسوف يقدم لنا نظرة متجددة للوجود تقوم على فهمه وإدراكه ومعرفة كيفية التعامل معه، ولا يقدم فقط التشكيكات. الفيلسوف يؤمن بأن المعرفة متأتية بحدود الطاقة البشرية، ولا ينكر جميع أحاسيسه وبديهياته، بل يهذبها ويعلم حدودها. الفلسفة هي حب المعرفة، وليست نثراً لفظياً ولا جمل مترابطة. 

ومن وجهة نظر برجماتية بحتة، فالحقيقة هي ما "ينفع"، وإن كان ما ينفع هو الاعتراف بوجود "وجود" خارجي مع "السببية" اذن فلا مناص من القول بها أبداً. بل من المفيد والضروري أن نقر بحاجتنا لهذين المفهومين حتى تتكامل الصورة مع ادراك محدودية التصور. 

ربما أخذتكم في متاهة فكرية كبيرة، وعلى الأغلب لم يتميز كلامي بالوضوح، ولكني على استعداد مناقشة كل أفكاري وتوضيحها لمن شاء. 

دمتم بود. 
والحمد لله رب العالمين.