بسم الله الرحمن الرحيم
موضوعنا اليوم يتكلم عن السببية، حيث سنخوض في تعاريفها من المصادر المتاحة في الانترنت.
لماذا نكتب هذا الموضوع؟
لغاية بسيطة:
الملحد يقوم بإساءة استخدام كلمة "سببية" بل ويتبجح بها علناً بدعوى أنه هو من يتمسك بالسببية وأننا نحن من عطلناها.
"ونستطيع أن تجرّأ ونقول أن الملحد يقوم بتعطيل السببية أيضاً عندما نصل لخلق الكون مثله مثل المؤمن عندما يصل إلى الله. وبهذا فهو ليس أفضل ولا أكثر ذكاءً ولا أي شيء مما يدعيه لنفسه. إنه عبد المادة."
"ونستطيع أن تجرّأ ونقول أن الملحد يقوم بتعطيل السببية أيضاً عندما نصل لخلق الكون مثله مثل المؤمن عندما يصل إلى الله. وبهذا فهو ليس أفضل ولا أكثر ذكاءً ولا أي شيء مما يدعيه لنفسه. إنه عبد المادة."
قراءة ممتعة
من أفضل ما نبدأ به، هو موسوعة ويكيبيديا حيث هي أول ما يخرج لنا عند بحثنا عن كلمة "سببية" أو "علّية"، فالموسوعة تقول:
السببية أو العلية، والتسبيب هي موضوع فلسفي وبشكل أخص في فرع فلسفة العلوم تعني بالعلاقة بين حدث يسمى السبب وحدث آخر يسمى الأثر، بحيث يكون الحدث الثاني نتيجة للأول. ويشير هذا المصطلح إلى مجموعة العلاقات السببية أو علاقات السبب والتأثير (en) التي يمكن ملاحظتها خلال الخبرة اليومية والتي تستند إليها النظريات العلمية في تفسير الظواهر العلمية .
ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله في موسوعته حول السببية:
«السببية» كلمة منسوبة إلى كلمة «السبب» وهي الإيمان بأن كل حدث هو نتيجة لأحداث سابقة، وسيكون هو نفسه سبباً أو علة لأحداث تالية عليه، والأحداث المتشابهة ترجع إلى أسباب متشابهة وتؤدي إلى نتائج متشابهة. وإذا كانت العلاقة بين السبب والنتيجة علاقة مباشرة بحيث يؤدي (أ) إلى (ب) حتماً ودائماً (أي أن السبب والنتيجة لا تُوجَد بينهما مسافة) فهي علاقة سببية صلبة. وهناك من يرى أن الواقـع (الإنسـاني والطبيعي) يتكون بأسره من أسـباب ونتائج، أي أنه يُوجَد داخل شبكة السببية الصلبة وهي شبكة شاملة ومن ثم فهي مطلقة، فكل الأشياء لها أسباب، والأسباب مترابطة، وكلها تعود إلى أسـاس مـادي إما معـروف أو في طريقــه إلى أن يُعرَف.
ولكن، على العكس من ذلك، هناك من يذهب إلى أن العلاقة بين الأسباب والنتائج مُركَّبة وليست بالضرورة حتمية في كل زمان ومكان، بحيث تؤدي (أ) إلى (ب) معظم الوقت وبشكل احتمالي ولكنها يمكن أن تؤدي إلى (جـ) لأن شبكة السببية ليست شاملة ولا مطلقة بسبب تركيبية الطبيعة وبسبب وجود الإنسان في الكون ككيان مستقل عنها يتحرك داخل حيز إنساني. ولذا، فإن بعض الظواهر لها أسباب واضحة، والبعض الآخر قد تكون له أسباب ولكنها ليست واضحة لدينا، كما أن الأسباب ليست كلها مادية، وعلاقة الأسباب بالنتائج ليست حتمية، إذ أن الحيز الإنساني هو أيضاً حيز الحرية والمسئولية. ولذا في هذا الإطار يكون من الصعب الحديث عن «سببية صلبة» ويكون من الأفضل الحديث عن «سببية فضفاضة».
السببية الصلبة واللاسببية السائلة
«السببية» نسبة إلى «السبب»، والسبب هو كل ما كان ذا تأثير وما يترتب عليه مسبب، وهو ما يتوقف عليه وجود شيء، وما يحتاج إليه الشيء في ماهيته أو وجوده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. فالمقدمات الصادقة سبب صدق النتيجة، وبعض الظواهر الطبيعية سبب ظواهر أخرى.
والسبب عند علماء الأخلاق ما يفضي إليه العقل ويبرره، وهو مرادف للحق، نقول: "فلان يبغضني بغير سبب"، أي "بغير وجه حق". والسبب تام وغير تام، فالتام هو الذي يُوجَد المسبب بوجوده، وغير التام هو الذي يتوقف وجود المسبب عليه، ولكن المسبب لا يوجد بوجود السبب وحده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. و«السببي» هو المنسوب إلى «السبب»، و«السببية» هي العلاقة بين السبب والمسبب.
والإشكاليات التي تثار حول العقل هي نفسها التي تثار حول السببية، فهل السببية شيء كامن في الأشياء نفسها، بمعنى أن السبب (شيء ما كامن في الظاهرة) هو الذي يؤدي بالفعل إلى النتيجة المادية، أم أن السببية علاقة اقتران مطرد وحسب، بمعنى أنه كلما حدث (أ) حدث (ب) دون أن تكون (أ) هي المؤدية إلى (ب) وبدون أن تكون (ب) ناتجة عن (أ) بالضرورة؟ وإن لم تكن السببية كامنة في الأشياء نفسها - فهل هي، إذن، أمر مفطور في عقولنا من قبل قوة حاكمة للعالم، أم أننا نفرضها على الواقع فرضاً (لأنها تخدم مصالحنا).
والنظريات المادية التي تحاول أن ترد الكون بأسره إلى مبدأ مادي واحد (أو مقولات مادية) تتأرجح في معظم الأحيان بين افتراض السببية الصلبة وبين إنكار السببية تماماً. أما السببية الصلبة، فهي الإيمان بأن لكل ظاهرة (طبيعية أم إنسانية - بسيطة أم مركبة) سبباً واضحاً ومجرداً وبأن علاقة السبب بالنتيجة علاقة حتمية بمعنى أن (أ) تؤدي دائماً وبنفس الطريقة وحتماً إلى (ب). كما أنها سببية مطلقة بمعنى أنها تغطي كل المعطيات والظواهر بشكل مطلق في كل تشابكها وتداخلها وتفاعلها. ولحظة نهاية التاريح هي لحظة إدخال كل شيء في شبكة السببية الصلبة المطلقة، وهي أيضاً لحظة الاستنارة الكاملة، حين تتم إنارة كل شيء وضمن ذلك الإنسان فيُستوعَب في شبكة السبب ويدخل القفص الحديدي.
والسببية الصلبة المطلقة تؤدي إلى التفسيرية الصلبة المطلقة، بمعنى أن يحاول الإنسان التوصل إلى الصيغة/ القانون العام الذي يفسر الكليات والجزئيات وعلاقاتها. والسببية الصلبة المطلقة تترجم نفسها إلى صورة مجازية آلية أو صورة مجازية عضوية مصمتة لا تحتوي على أي فراغات أو مسافات، ولا تتحمل أي عدم استمرار، وتلغي أي حيز بما في ذلك الحيز الإنساني. وتسود السببية الصلبة المطلقة في عصر المادية البطولي (عصر التحديث) والثنائية الصلبة والعقلانية المادية.
ولكن النماذج المادية تفشل، بطبيعة الحال، في إدخال العالم (الطبيعة والإنسان) في شبكة السببية الصلبة. كما أنه، مع تصاعد معدلات الحلولية الكمونية الواحدية، يتراجع المركز إلى أن يختفي ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة ويصبح الواقع في حالة سيولة غير مفهومة، والعقل نفسه جزء من الصيرورة غير قادر على تجاوزها، ومن ثم غير قادر على إدراك الواقع كسبب ونتيجة. وهنا، بدلاً من السببية الصلبة المطلقة، تظهر اللاسببية السائلة واللاعقلانية المادية والمادية الجديدة (عصر ما بعد الحداثة).
وهناك بطبيعة الحال من يحاول الحفاظ على موقف وسط بين السببية الصلبة المطلقة واللاسببية العدمية (مثل كانط على سبيل المثال) ولكنه موقف يستند إلى أرضية واهية، ولذا فعادةً ما تتفتَّت هذه الوسطية وتتحول إلى حتمية واحدية صارمة (كما هو الحال في المنظومات الهيجلية) أو إلى لاسببية سائلة (كما هو الحال في النظم المعادية للهيجلية [نيتشه وغيره]).
السببية الفضفاضة
تفترض النظم التوحيدية وجود المركز خارج العالم ولذا فالعالم مترابط ومن ثم بإمكان الإنسان أن يتوصل إلى قدر معقول من المعرفة، ولكن ترابط العالم ليس صلباً ولا مطلقاً ولا عضوياً مصمتاً إذ يتخلله الحيز الإنساني وهو ما يسمح بوجود الأسرار والتركيب والثنائيات والانقطاع، فهو نظام يعترف بوجود قدر من الاستمرار ومن ثم بالسببية ولكنها سببية فضفاضة تؤدي فيها المقدمات إلى النتائج ولكن ليس بشكل حتمي معروف مسبقاً. ولذا لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى القانون العام والنهائي الذي يجعله قادراً على معرفة الكون معرفة كاملة ومن ثم يمكنه إدخال كل شيء شبكة السببية الصلبة، وعلى الإنسان أن يقنع بقدر من التحكم في الكون والتوازن معه.
العلّة
المصدر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، 1982
في الفرنسية Cause
في الإنكليزية Cause
في اللاتينية Causa
1- العلّة في اللغة اسم لعارض يتغير به وصف المحل بحلوله لا عن اختيار (كشاف اصطلاحات الفنون) ومنه سمي المرض علّة، لانه بحلوله يتغير حال الشخص من القوة إلى الضعف. وكل أمر يصدر عنه أمر آخر بالاستقلال، أو بانضمام الغير اليه، فهو علة لذلك الأمر، والأمر معلول له، فيتعقل كل واحد منهما بالقياس إلى تعقل الآخر (كليات أبي البقاء).
2- والعلّة عند الأصوليين ما يجب به الحكم.
3- والعلة عند الحكماء ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجاً ومؤثراً فيه (تعريفات الجرجاني)، وعلة الشيء ما يتوقف عليه ذلك الشيء، وهي قسمان: الأول ما يتقوم به الماهية من أجزائها، ويسمّى علة الماهية. والثاني ما يتوقف عليه اتصاف الماهية المتقومة بأجزائها بالوجود الخارجي، ويسمّى علة الوجود.
(تعريفات الجرجاني)
4- والعلّة ترادف السبب إلا أنها قد تغايره، فيراد بالعلة المؤثر وبالسبب ما يفضي إلى الشيء في الجملة أو ما يكون باعثاً عليه. وقد قيل: السبب ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به، أما العلة فهي ما يثبت به الحكم. ومعظم الفلاسفة الإسلاميين كالكندي والفارابي، وابن سينا، وابن رشد يفضلون استعمال لفظة العلة على لفظة السبب، إلا الغزالي وعلماء الكلام فأنهم يستعملون لفظ السبب للدلالة على العلة.
5- والعلل عند (آرسطو) أربعة أقسام:
أ- العلة المادية (Cause matérielle)، وهي التي لا يلزم عن وجودها بالفعل وحدها حصول الشيء بالفعل، بل ربما كان بالقوة كالخشب والحديد بالنسبة إلى السرير.
ب- العلة الصورية (Cause formelle) وهي التي يجب عن وجودها بالفعل وجود المعلول لها بالفعل، كالشكل والتأليف للسرير.
ج- العلة الفاعلة (Cause efficiente) وهي ما تكون مؤثرة في المعلول موجدة له، كالنجار الذي يصنع السرير.
د- العلقة الغائية (Cause finale) وهي التي يكون وجود الشيء لأجلها كالجلوس على السرير، فهي الغاية التي من أجلها وجد.
وقد أخذ فلاسفة الإسلام، وفلاسفة القرون الوسطى في أوروبة بهذه النظرية الآرسطية، وقدموا العلة الغنائية على سائل العلل، مثال ذلك قول ابن سينا: والغاية تتأخر في حصول الوجود على المعلول، إلا أنها تتقدم سائر العلل في الشيئية (choséité)، قال: " ومن البين أن الشيئية غير الوجود في الأعيان، فإن المعنى له وجود في الأعيان، ووجود في النفس وأمر مشترك، فذلك المشترك هو الشيئية، والغاية بما هي شيء فإنها تتقدم سائر العلل، وهي علة العلل في أنها علل... وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر .... وذلك لأن العلل أنما تصير عللاً بالفعل لأجل الغاية، وليست هي لأجل شيء آخر، وهي توجد أولاً نوعاً من الوجود فتصيرالعلل عللاً بالفعل، ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو ان الفاعل الأول والمحرك الاول في كل شيء هو الغاية" ( النجاة، ص 345).
6- والعلة الأولى ( Prima causa) هي العلة التي لا علة لها، أو علة العلل، أو العلة النهائية " أو علة لكل وجود، ولعلة حقيقة كل وجود في الوجود" (ابن سينا، الإشارات والتنبيهات ص 140).
7- والعلة الثانية (Cause seconde) هي العلة التي لا فعل لها إلا بتأثير العلة الأولى، وهي قريبة ( prochaine) أو بعيدة (Eloignée).
8- وفرقوا بين العلة الأساسية (Cause principale) والعلة الأداة (Cause instrumentale)، والعلة المباشرة (Cause directe) والعلة غيرالمباشرة (Cause indirecte) والعلة التامة، والعلة الناقصة، والعلة المعدّة. أما العلة الأساسية فهي التي تنفرد بالتأثير في الشيء، وأما العلة الأداة فهي الآلة التي يتم بها وجود الشيء، وأما العلة المباشرة فهي التي تحدث الشيء بلا وسط. وأما العلة غير المباشرة فهي التي تحدث الشيء بوسط، وأما العلة التامة وتسمّى بالمستقلة فهي تمام ما يتوقف عليه الشيء في ماهيته ووجوده أو في وجوده فقط، واما العلة الناقصة فهي بخلاف ذلك، وأما العلّة المعدة فهي التي يتوقف عليها وجود المعلول من غير أن يجب وجودها مع وجوده.
9- والعلة الذاتية (Causa sui) عند المدرسين ما لا علّة له، وعند (اسبينوزا) ما لا يتصور عدمه، تطلق على الله، لأن الله علة وجود جميع الأشياء وعلة وجود نفسه، ونعني بقولنا : لا علة له، أن علته ذاتية، وإنه كما قال (ابن سينا) واجب الوجود بنفسه.
10- وقد وسع (ديكارت) معنى العلة فأطلقه على العلاقات الطبيعية والعلاقات المنطقية معاً. وهذا متفق مع روح مذهبه الذي يعد العلاقات المنطقية أساساً للعلاقات الطبيعية. فإذا قلت إن (أ) علة (ب) عنيت بذلك أن وجود (أ) يستلزم وجود (ب) اضطراراً. ومعنى ذلك أن العلاقات السببية شبيهة بالقياسات التي يكون فيها وجود المقدم شرطاً لوجود التالي.
11- أما (مالبرانش) فإنه يطلق معنى العلة التامّة على الشيء الذي يؤثر في غيره من دون أن يفقد شيئاً من طبيعته، أو من قدرته على التأثير، وهذه العلة التامة التي يسميها مالبرانش بالعلة المؤثرة أو الفعالة ( Efficace) مختلفة عن العلة الظرفية (Cause occasionnelle) التي لا تفرض بين الأشياء ارتباطاً ضرورياً بل تقول بحصول المعلول عند وجود العلة لا بحصوله بها، وذلك على النحو الذي ذهب اليه الغزالي.
12- وأما (كانت) فإن العلّة عنده تدل على تركيب خاص قوامه أن شيئاً مثل (أ) يوجب أن ينضاف اليه وفقاً لقاعدة ما شيء آخر مثل (ب) مختلف عنه تماماً. ومعنى ذلك أن علاقة العلة بالمعلول ليست تركيباً تجريبياً، وإنما هي تركيب عقلي، لا يقتصر على ملاحظة وجود التوالي بين العلة والمعلول، بل يقرر وجوب هذا التوالي وضرورته.
13- وأما (استوارت ميل) فإنه يطلق لفظ العلة على الظاهرة أو الظواهر المتقدمة التي تكون الظاهرة المسمّاة بالمعلول تالية لها دائماً، وهذا المعنى وإن كان حالة خاصة من مفهوم العلة عند (كانت) إلا أنه يختلف عنه بإهمال ما في تتالي الظواهر من ارتباط منطقي أو ضروري. وهو بهذا المعنى قريب بعض الشيء من مفهوم العلة الظرفية المتضمن معنى الحدوث عنده.
14- والفلاسفة الوضعيون يفرقون بين معنى العلة ومعنى القانون، ويقولون إن العلم الحديث لا يبحث في العلل، بل يبحث في العلاقات الثابتة بين الظواهر.
15- والعلّي (Causal) هو المنسوب إلى العلة، ويرادفه السببي، وهو ما يتعلق بالعلة أو يدخل في تركيبها.
16- والعلة (Causalité) هي السببية (ر: هذا اللفظ)، وهي كون الشيء علة، وتطلق على العلاقة بين العلة والمعلول. (ر: السببية، القانون).
في الإنكليزية Cause
في اللاتينية Causa
1- العلّة في اللغة اسم لعارض يتغير به وصف المحل بحلوله لا عن اختيار (كشاف اصطلاحات الفنون) ومنه سمي المرض علّة، لانه بحلوله يتغير حال الشخص من القوة إلى الضعف. وكل أمر يصدر عنه أمر آخر بالاستقلال، أو بانضمام الغير اليه، فهو علة لذلك الأمر، والأمر معلول له، فيتعقل كل واحد منهما بالقياس إلى تعقل الآخر (كليات أبي البقاء).
2- والعلّة عند الأصوليين ما يجب به الحكم.
3- والعلة عند الحكماء ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجاً ومؤثراً فيه (تعريفات الجرجاني)، وعلة الشيء ما يتوقف عليه ذلك الشيء، وهي قسمان: الأول ما يتقوم به الماهية من أجزائها، ويسمّى علة الماهية. والثاني ما يتوقف عليه اتصاف الماهية المتقومة بأجزائها بالوجود الخارجي، ويسمّى علة الوجود.
(تعريفات الجرجاني)
4- والعلّة ترادف السبب إلا أنها قد تغايره، فيراد بالعلة المؤثر وبالسبب ما يفضي إلى الشيء في الجملة أو ما يكون باعثاً عليه. وقد قيل: السبب ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به، أما العلة فهي ما يثبت به الحكم. ومعظم الفلاسفة الإسلاميين كالكندي والفارابي، وابن سينا، وابن رشد يفضلون استعمال لفظة العلة على لفظة السبب، إلا الغزالي وعلماء الكلام فأنهم يستعملون لفظ السبب للدلالة على العلة.
5- والعلل عند (آرسطو) أربعة أقسام:
أ- العلة المادية (Cause matérielle)، وهي التي لا يلزم عن وجودها بالفعل وحدها حصول الشيء بالفعل، بل ربما كان بالقوة كالخشب والحديد بالنسبة إلى السرير.
ب- العلة الصورية (Cause formelle) وهي التي يجب عن وجودها بالفعل وجود المعلول لها بالفعل، كالشكل والتأليف للسرير.
ج- العلة الفاعلة (Cause efficiente) وهي ما تكون مؤثرة في المعلول موجدة له، كالنجار الذي يصنع السرير.
د- العلقة الغائية (Cause finale) وهي التي يكون وجود الشيء لأجلها كالجلوس على السرير، فهي الغاية التي من أجلها وجد.
وقد أخذ فلاسفة الإسلام، وفلاسفة القرون الوسطى في أوروبة بهذه النظرية الآرسطية، وقدموا العلة الغنائية على سائل العلل، مثال ذلك قول ابن سينا: والغاية تتأخر في حصول الوجود على المعلول، إلا أنها تتقدم سائر العلل في الشيئية (choséité)، قال: " ومن البين أن الشيئية غير الوجود في الأعيان، فإن المعنى له وجود في الأعيان، ووجود في النفس وأمر مشترك، فذلك المشترك هو الشيئية، والغاية بما هي شيء فإنها تتقدم سائر العلل، وهي علة العلل في أنها علل... وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر .... وذلك لأن العلل أنما تصير عللاً بالفعل لأجل الغاية، وليست هي لأجل شيء آخر، وهي توجد أولاً نوعاً من الوجود فتصيرالعلل عللاً بالفعل، ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو ان الفاعل الأول والمحرك الاول في كل شيء هو الغاية" ( النجاة، ص 345).
6- والعلة الأولى ( Prima causa) هي العلة التي لا علة لها، أو علة العلل، أو العلة النهائية " أو علة لكل وجود، ولعلة حقيقة كل وجود في الوجود" (ابن سينا، الإشارات والتنبيهات ص 140).
7- والعلة الثانية (Cause seconde) هي العلة التي لا فعل لها إلا بتأثير العلة الأولى، وهي قريبة ( prochaine) أو بعيدة (Eloignée).
8- وفرقوا بين العلة الأساسية (Cause principale) والعلة الأداة (Cause instrumentale)، والعلة المباشرة (Cause directe) والعلة غيرالمباشرة (Cause indirecte) والعلة التامة، والعلة الناقصة، والعلة المعدّة. أما العلة الأساسية فهي التي تنفرد بالتأثير في الشيء، وأما العلة الأداة فهي الآلة التي يتم بها وجود الشيء، وأما العلة المباشرة فهي التي تحدث الشيء بلا وسط. وأما العلة غير المباشرة فهي التي تحدث الشيء بوسط، وأما العلة التامة وتسمّى بالمستقلة فهي تمام ما يتوقف عليه الشيء في ماهيته ووجوده أو في وجوده فقط، واما العلة الناقصة فهي بخلاف ذلك، وأما العلّة المعدة فهي التي يتوقف عليها وجود المعلول من غير أن يجب وجودها مع وجوده.
9- والعلة الذاتية (Causa sui) عند المدرسين ما لا علّة له، وعند (اسبينوزا) ما لا يتصور عدمه، تطلق على الله، لأن الله علة وجود جميع الأشياء وعلة وجود نفسه، ونعني بقولنا : لا علة له، أن علته ذاتية، وإنه كما قال (ابن سينا) واجب الوجود بنفسه.
10- وقد وسع (ديكارت) معنى العلة فأطلقه على العلاقات الطبيعية والعلاقات المنطقية معاً. وهذا متفق مع روح مذهبه الذي يعد العلاقات المنطقية أساساً للعلاقات الطبيعية. فإذا قلت إن (أ) علة (ب) عنيت بذلك أن وجود (أ) يستلزم وجود (ب) اضطراراً. ومعنى ذلك أن العلاقات السببية شبيهة بالقياسات التي يكون فيها وجود المقدم شرطاً لوجود التالي.
11- أما (مالبرانش) فإنه يطلق معنى العلة التامّة على الشيء الذي يؤثر في غيره من دون أن يفقد شيئاً من طبيعته، أو من قدرته على التأثير، وهذه العلة التامة التي يسميها مالبرانش بالعلة المؤثرة أو الفعالة ( Efficace) مختلفة عن العلة الظرفية (Cause occasionnelle) التي لا تفرض بين الأشياء ارتباطاً ضرورياً بل تقول بحصول المعلول عند وجود العلة لا بحصوله بها، وذلك على النحو الذي ذهب اليه الغزالي.
12- وأما (كانت) فإن العلّة عنده تدل على تركيب خاص قوامه أن شيئاً مثل (أ) يوجب أن ينضاف اليه وفقاً لقاعدة ما شيء آخر مثل (ب) مختلف عنه تماماً. ومعنى ذلك أن علاقة العلة بالمعلول ليست تركيباً تجريبياً، وإنما هي تركيب عقلي، لا يقتصر على ملاحظة وجود التوالي بين العلة والمعلول، بل يقرر وجوب هذا التوالي وضرورته.
13- وأما (استوارت ميل) فإنه يطلق لفظ العلة على الظاهرة أو الظواهر المتقدمة التي تكون الظاهرة المسمّاة بالمعلول تالية لها دائماً، وهذا المعنى وإن كان حالة خاصة من مفهوم العلة عند (كانت) إلا أنه يختلف عنه بإهمال ما في تتالي الظواهر من ارتباط منطقي أو ضروري. وهو بهذا المعنى قريب بعض الشيء من مفهوم العلة الظرفية المتضمن معنى الحدوث عنده.
14- والفلاسفة الوضعيون يفرقون بين معنى العلة ومعنى القانون، ويقولون إن العلم الحديث لا يبحث في العلل، بل يبحث في العلاقات الثابتة بين الظواهر.
15- والعلّي (Causal) هو المنسوب إلى العلة، ويرادفه السببي، وهو ما يتعلق بالعلة أو يدخل في تركيبها.
16- والعلة (Causalité) هي السببية (ر: هذا اللفظ)، وهي كون الشيء علة، وتطلق على العلاقة بين العلة والمعلول. (ر: السببية، القانون).
هذه كانت وقفة جيدة مع مفاهيم السببية من المختصين، والآن نتعرض لمشكلة الملحد. الملحد يكتفي بالعلل المادية ولهذا نراه ينكر وجود الله بناءً على تأسيسه الفكري بأن العلل المادية هي الوحيدة الحقيقية.
وننقل لكم ما يُقال حول السببية في الفيزياء الحديثة:
السببيـــــة في الفيزيــــــــاء الكلاسيكيـــــــــة وفيزيـــــــــاء الكوانتــــــــــم
السببية في الفيزياء الكلاسيكية
يمكن القول أن البنية المنطقية لجميع نظريات الفيزياء الكلاسيكية تقوم على أساس أن الحوادث في العالم الخارجي، والتي دائماً ما تقتصر على الطبيعة غير الحية، إنما تتبع تطور سببي صارم، والذي يكون محكوماً عن طريق قوانين صارمة في الزمان والمكان.وهذا يعني؛ أنه عند لحظة معينة تكون لدينا فيها معرفة تامة لفئة من الظروف الأولية لحالة نسق فيزيائي ما، والذي قد يكون نسقاً ميكانيكياً، أو مجالاً كهرومغناطيسيا، أو غيرهما، فإن التطور المستقبلي لهذا النسق يمكن استنتاجه بيقين رياضي كامل من قوانين الطبيعة، ويكون قابلاً للتنبؤ به تماماً)1(.
ومن ثم فإن العالم قد بدا في الفيزياء الكلاسيكية لكي يكون محكوماً عن طريق مجموعة من القوانين التي تصف وتتنبأ بدقة بجميع الحالات الممكنة للأنساق الفيزيائية منذ بداية الكون وحتى نهاية سلسلة الحالات المستقبلية. ولذلك فإن الفيزيائيين النظريين الكلاسيكيين بدوا أنهم مقتنعون تماماً بالسببية الميكانيكية الكاملة كساعة مصنوعة بشكل دقيق)1(.
وفي الحقيقة، فإن وصف الظواهر في الفيزياء الكلاسيكية، بصفة عامة، إنما يرتكز على كميات قابلة للقياس بوصفها أسباب، وكميات أخرى بوصفها نتائج.حيث أن الميكانيكا النيوتينية، والتى فيها حالة نسق ما من الجسيمات المادية تكون محددة عن طريق معرفة سرعاتها ومواضعها في آن واحد، قد برهنت على أنه يكون من الممكن، عن طريق مبادئ بسيطة معروفة تماماً؛ أي، قوانين الحركة، استنتاج حالة النسق في أي لحظة مستقبلية، انطلاقا من معرفة حالته في لحظة معينة، وانطلاقا من معرفة جميع القوى المؤثرة عليه )2(.
ومن ثم، وكمبدأ عام، فإن الحالة الآنية لأي نسق من الأنساق الفيزيائية هي سبب لحالته المستقبلية، وهي أيضاً نتيجة لحالته الماضية.ومن هنا ارتبطت السببية بالحتمية في الفيزياء الكلاسيكية؛ فإذا كانت السببية Causality إنما تشير إلى العلاقة الحاصلة بين الأسباب والنتائج بصورة آنية، فإن الحتمية Determinism إنما تشير إلى ديمومة وضرورية تلك العلاقة في كل آن. وبذلك يمكن القول، وفي ضوء الحتمية، بأن الحالة الآنية لوضعية ما هي نتيجة ضرورية لحالتها السابقة، وهي علة ضرورية لحالتها اللاحقة.ومن ثم، وبوضع هذه الضرورة بعين الاعتبار، تعتبر الحتمية حالة خاصة للسببية.
على أية حال، فإن العلاقة الضرورية للسببية وصورتها الأكثر تطرفا؛ أعني الحتمية، شكلت العقيدة الحتمية العلمية للفيزيائيين الكلاسيكيين بصفة عامة.وهو ما عبر عنه لابلاس Laplace (1749 – 1827) في عبارته الشهيرة حيث يقول :
“يجب علينا أن نضع في اعتبارنا حالة الكون الراهنة بوصفها نتيجة لحالته السابقة، وأيضاً كسبب لحالته اللاحقة.وإذا افترضنا وجود كائن خارق الذكاء يعرف جميع القوى المؤثرة في الطبيعة في لحظة معينة، بالإضافة لجميع المواضع المتكررة في كل لحظة لجميع الأشياء في الكون، فإنه سوف يكون قادراً على أن يتضمن في معادلة واحدة مُفردة، حركات أكبر الأجسام بالإضافة إلى حركات أصغر الذرات في العالم، شريطة أن ذكاءه يكون من القوة بما يكفي لأن يُخضع جميع المعطيات للتحليل، وبما يكفي لأن لا يكون هناك شيء غير متيقن منه بالنسبة له، وحينئذ فإن المستقبل بالإضافة للماضي سوف يكون بادياً أمام ناظريه”)1(.
من هنا يتبين لنا أن لابلاس يرتكز في فلسفته، وكشأن معظم الفلاسفة الطبيعيين الكلاسيكيين، على التسليم بمبدأ السببية باعتباره مبدأ قبليا apriori، والذي يتضمن ضرورة وحتمية تلازم الأسباب بمسبباتها.وبما يعنيه ذلك من إمكانية التنبؤ اليقيني بالأحداث المستقبلية شريطة المعرفة التامة بجميع ظروف الوضعية الراهنة.إن هذا يتضمن أيضا أن عدم إمكانية التنبؤ اليقينى بالتطورات المستقبلية لحالة نسق ما، أو مجموعة من الأنساق، إنما يعزى للجهل ببعض المعطيات الآنية للحالة.ومن ثم فإننا نلجأ للاحتمالاتprobabilities لتعويض ذلك النقص أو”الجهل”.فالاحتمال”بخلاف اليقين”إنما يتضمن في جوهره نقص بالمعرفة الدقيقة للمعطيات والظروف الأولية المتطلبة من أجل تحديد التطور المستقبلي أو التنبؤ، بحالة نسق ما، لا لكونها غير قابلة للتحديد أصلا ومن حيث المبدأ.
وطبقا، لهذا التحليل، فإنه يمكننا أن نفهم كيف يمكن أن تتضمن الميكانيكا الإحصائية الكلاسيكية classical statistical mechanics أيضا، بشكل أو بآخر، السببية والحتمية في جوهرها. حيث أن الميكانيكا الإحصائية الكلاسيكية في صورتها الأصلية تفترض أن غازًا ما، مثلا، هو عبارة عن مجموع عدد هائل من الجسيمات الدقيقة أو الجزيئات، والتي يمكن تحليل حركتها في ضوء معادلات الميكانيكا النيوتينية.ولكن لما لم يكن بالإمكان التحقق بالتجربة من الحالة الميكانيكية الأولية لنسق من الجزيئات كهذا، فضلاً عن عدم إمكانية التنبؤ بالحالات الميكانيكية الأخرى للنسق بسبب الصعوبات الرياضية؛ فإن اللجوء للطريقة الإحصائية كان أمراً لا مفر منه، والتي تتنبأ فقط بقيم متوسطة average values معينة للمقادير المرتبطة بالحركات المفردة للجزيئات.)1(
ولذلك، فإن العبارات الواردة في الميكانيكا الإحصائية الكلاسيكية، إنما كانت”إحصائية”بسبب نقص المعلومات عن العلاقات السببية التي تربط جزيئات الغاز، حيث أن جزيئات الغاز كانت كبيرة جدا بما يكفي لعدم إمكانية تحديد حركات كل منها بدقة تامة في وضعيتها الآنية، فضلا عن عدم إمكانية التنبؤ بتطورها المستقبلي.وحيث أن المواضع والسرعات الأولية للجزيئات كانت غير معروفة، فإن المسارات الإحصائية كانت هي المسارات الوحيدة المتاحة.ومن ثم، فإن التوزيعات الإحصائية كانت لا مناص منها، والتي تعزي فقط لنقص المعلومات عن العلاقات السببية السائدة بين أجزاء النسق (جزيئات الغاز)؛ أو بمعنى آخر، وبمصطلحات لابلاس، بسبب الجهل بجميع عناصر الحالة الراهنة)2(. وبكلمات أخرى، فإن التوزيعات الإحصائية في الميكانيكا الكلاسيكية إنما تكون نتيجة للقيود restrictions التي تفرض نفسها self – imposed بشكل تلقائي، والتي تَحُدُّ من مقدار المعلومات الأفضل، والتي يمكننا من خلالها الحصول على تقريب نافع لوصف تفصيلي تام وقابل للمعرفة بشكل مثالي لسرعات ومواضع الجزيئات المفردة )3(.
وبناء على ذلك، فإنه يمكن القول، أنه وعلى الرغم من أن الميكانيكا الإحصائية الكلاسيكية لا تتنبأ بالحالات الميكانيكية المُفردة لجزيئات الغاز، فإنه سيكون من الخطأ أن نستنتج أن الميكانيكا الإحصائية لا تتضمن السببية والحتمية؛ بسبب أن الميكانيكا الإحصائية تتضمن مبادئ الميكانيكا الكلاسيكية، حيث أنها تفترض مبدئياً أن الحالة الأولية الميكانيكية للجزيئات المُفردة تحدد بشكل فريد الحالة الميكانيكية في أي لحظة أخرى)4(. ومن ثم، فإن الميكانيكا الإحصائية الكلاسيكية تتضمن في جوهرها السببية والحتمية التي قامت عليها الميكانيكا النيوتينية، والفيزياء الكلاسيكية عموماً.
كذلك، فإن الوصف السببي الحتمي للظواهر الكهرومغناطيسية يكون متضمنا في صلب وجوهر معادلات ماكسويل عن المجال الكهرومغناطيسي والتي تُخبرنا بالتطور المستقبلي الذي يمكن أن يتخذه ذلك المجال في المكان والزمان بشكل دقيق.فعند معالجتنا لمجال كهرومغناطيسي يتطور مع الزمن، فإننا لا نضع في اعتبارنا فقط مواضع وسرعات الجسيمات المشحونة (كما في الميكانيكا النيوتينية)، بل إننا نضع في اعتبارنا أيضا اتجاه وكثافة القوى الكهرومغناطيسية عند كل نقطة في الفضاء في لحظة معينة، والتي يمكن لنا منها أن نتنبأ بمواضع وسرعات واتجاهات وكثافة القوى الكهربية والمغناطيسية في اللحظة التالية)1(.
ومن هنا، فإنه يمكننا القول، أن الإليكتروديناميكا الكلاسيكية قد احتفظت في معالجتها للأنساق الكهرومغناطيسية، بالسببية والحتمية، التي كانت سائدة في معالجة الأنساق الميكانيكية النيوتينية، على الرغم من أن حالة الأنساق الكهرومغناطيسية قد ازدادت تعقيداً بشكل لافت للنظر. وبذلك يمكننا أن نقرر حقيقة أن الميكانيكا النيوتينية الكلاسيكية لم تكن النظرية الوحيدة التي اعتنقت عقيدة السببية والحتمية؛ بل إن تلك العقيدة كانت قد شكلت، ولو بشكل أقل وضوحًا، صلب وجوهر العديد من نظريات الفيزياء الكلاسيكية الأخرى، كالميكانيكا الإحصائية الكلاسيكية والالكتروديناميكا الكلاسيكية.
علاقات اللايقين لهيزنبرج:
يمكن القول أن علاقات اللايقين Uncertainty Relations التي اكتشفها فيرنر هيزنبرج Werner Heisenberg (1901ـ 1976) في مارس من العام 1927، تشكل حجر زاوية في تأويل مدرسة كوبنهاجن لنظرية الكم، والتي تمت صياغتها بطريقة رياضية محكمة. إننا هنا سوف نقصر أنفسنا على الدلالة الفيزيائية لهذه الصياغة وتضميناتها الفلسفية، والتي تضع، بشكل عام، قيدًا على التحديد المتآني لزوج من المتغيرات المقترنة معًا، كموضع وكمية تحرك جسيم ما، أو الطاقة والزمن؛ حيث أن المعرفة الدقيقة لإحداها، تستتبع تلقائيًا نقصانًا في تحديد الخاصية الأخرى المرتبطة بها (1).
وفي الحقيقة، فإنه يمكننا أن نستكشف جذور علاقات اللايقين لهيزنبرج من خلال التأويل الإحصائي لبورن للمعادلة الموجية لشرودنجر. فطبقًا لبورن فإن الدالة الموجية المتضمنة في المعادلة الموجية لشرودنجر، إنما تعبر عن احتمال تموضع جسيم ما في مكان ما من الفضاء. فإذا كانت حالة النسق ممثلة عن طريق الدالة الموجية، فإن احتمالية تموضع الجسيم في مكان معين، إنما تكون متناسبة طرديًا مع قيمة الدالة الموجية في تلك المنطقة، أو بالأحرى، مع مربع الدالة الموجية. فإذا ما كانت الدالة الموجية منتشرة في طول الذرة وعرضها، حينئذ فإنه لا يمكننا تحديد موضع الإلكترون، رغم أن بعض المواضع تكون أكثر احتمالاً من الأخرى. إن الدالة الموجية هنا تمثل موضع الجسيم بدرجة تقريبية، وتمثل كمية تحركه أيضًا بدرجة تقريبية. هذا يعني أنه يكون من المستحيل عمليًا تعيين موضع الجسيم وكمية تحركه معًا في نفس الوقت بدقة مطلقة، فهذه الأشياء هي موجودة فقط بقدر ما يمكن تعينيها عن طريق دالة الموجة المتعلقة بالتوزيع الاحتمالي (2).
على أية حال، فإن هذا الوصف الفيزيائي الجديد لحالة نسق ما والمتعلق بالتوزيع الاحتمالي لإحداثى الموضع وكمية التحرك، قد أدى بهيزنبرج لإعلان مبدأه اللايقين وتعميمه على أي زوج من المتغيرات؛ أي، زوج من القابلات للملاحظة الخاصة بنسق ميكانيكي كمي المترابطة معًا مثل الموضع وكمية التحرك أو الطاقة والزمن (3). فلو أن التوزيع الاحتمالي لإحداثى الموضع يكون مرتكزًا على قيمة أكثر احتمالاً، فإن التوزيع الاحتمالي لكمية التحرك سوف يكون منتشرًا على نطاق واسع، ومن ثم يكون ذي قيمة أقل احتمالا ً(1). إن نفس حالة الأمور يمكن تطبيقها مع زوج آخر من المتغيرات المقترنة معًا كالزمن و الطاقة. فلو أن التوزيع الاحتمالي للحظة الزمنية Lifetime، التي يمكن أن تنحل فيها ذرة ما، يرتكز على قيمة أكثر احتمالاً، فإن التوزيع الاحتمالي للطاقة المصاحبة لهذه الحالة، يكون أقل احتمالا ً (2)، والعكس بالعكس.
والآن، فإنه يمكننا أن نوضح ما المقصود بمبدأ اللايقين الذي يتضمن العلاقات المنوه عنها سابقًا. إن مبدأ اللايقين يشير، وبكلمات ادنجتون Eddington، إلى :
“أنَّ جسمًا ما قد يمتلك موضعًا دقيقًا أو قد يمتلك سرعة دقيقة، ولكنه لا يمكنه أن يمتلك كليهما معا بأي معنى دقيق”(3).
ومن هنا، فإنه ينبغي علينا التأكيد على نقطة جوهرية، والتى تتضمن وضع مبدأ اللايقين في صورته الصحيحة، والتي غالبًا ما يساء فهمها، وهي: أن هيزنبرج لم يُشر إلى أنه لا يمكن تحديد موضع الجسيم أو كمية تحركه بدقة مطلقة؛ ولكنه أشار إلى أنه لا يمكن تحديدهما معًا في نفس الوقت Simultaneous بدقة مطلقة.ومن ثم، فإن مبدأ اللايقين لا يسري إلا عند قياس زوج من المتغيرات المقترنة معًا لنسق مفرد؛ حيث أن الدقة في قياس أحدهما يستتبع تلقائيًا نقصانًا في دقة قيمة الكمية الأخرى القابلة للملاحظة المرتبطة بها.وبالرغم من حقيقة أنه لا يمكننا التنبؤ بدقة مطلقة بقيمة إحدى القابلات للملاحظة لنسق كمي مفرد من عملية قياس مفردة، فإنه يمكننا، على أية حال التنبؤ بدقة كاملة من قيمة قياس هذه الخاصية، عندما نقوم بإجراء عدة عمليات لقياس تلك الخاصية، والتي نحصل في كل مرة منها على قيمة مختلفة.وبحساب المتوسطات الإحصائية لهذه العمليات فإنه يمكن التنبؤ بكل دقة من قيمة تلك الخاصية، وفي تلك الحالة فإن قيمة الخاصية المقترنة بها تصبح غير متيقن منها (4).
على أية حال، فإن هيزنبرج، ومن أجل إيضاح مبدأه السالف، قد قام بفحص عدد من التجارب الذهنية. فلقد تفكر هيزنبرج في حقيقة الحالة التي نقوم فيها بملاحظة موضع إلكترون ما عن طريق ميكروسكوب ضوئي يطلق ضوءًا ذى تردد مناسب لتحديد موضعه.إن موضع الإلكترون يمكن تحديده بدقة هائلة عن طريق زيادة تردد الضوء الصادر من الميكروسكوب، ولكن التردد الأعلى يعطي صدمة أكبر للإلكترون، وذلك يؤدي إلى عدم يقين كبير في قياس كمية تحركه. وبالعكس، فإن كمية التحرك يمكن تحديدها بدقة كبيرة عن طريق استخدام شعاع ضوئي ذي تردد ضعيف، ولكن هذا التردد الضعيف للشعاع الضوئي يؤدي إلى عدم يقين كبير في قياس موضعه(1).
ومن هنا، فإننا نكتشف حقيقة أنه، على المستوى الكمي والذري، لا يمكن من حيث المبدأ، قياس زوج من المتغيرات المرتبطة معًا بدقة مطلقة في نفس اللحظة؛ إذ أن علاقات اللايقين دائمًا ما تكون سائدة. فالمعرفة الدقيقة لقيمة إحدى خصائص النسق الميكانيكي الكمي تستلزم حتمًا وبالضرورة، عدم تيقن من قيمة الخاصية الأخرى المقترنة بها.إن هناك استحالة متأصلة في اكتشاف قيم فورية لهذه الخصائص المقترنة معًا(2).
إنه لمن الأهمية بمكان أن ندرك حقيقة أنه وطبقًا لتصور هيزنبرج، وخلافًا لتصور بورن، أن اللاتيقنات السائدة فى عمليات القياس الكمية، ليست نتيجة للإجراءات التجريبية، وليست نتيجة للقيود التي تفرضها أدواتنا الكلاسيكية، وليست نتيجة لإخفاق تقنيات القياس المستخدمة؛ ولكن طبيعة الجسيمات الذرية ذاتها لا تسمح بالتيقن منها(3).على سبيل المثال، فانه من اجل تحديد موضع إلكترون ما، بوصفه تجمعًا لذرى حزمة موجية مختلفة، طبقًا لشرودنجر، فإن الدقة اللازمة لتعيين نقطة تقاطع الإحداثيات الأربعة، سوف تتطلب استخدام عدد لا نهائي من الموجات الإضافية الأخرى، بحيث يحدث التداخل الهدام الذي تنهار فيه الحزمة الموجية عند نقطة تقاطع الإحداثيات. وبمعنى ما، فإن ما يحدث يبدو وكأن العدد الإضافي من الموجات المرتبطة معًا يضغط الجسيم إلى نقطة ما.ومن ثم فإن معرفة الموضع الدقيق للجسيم يصاحبه نقصان في تحديد كمية تحركه، ولو أننا حاولنا تحديد كمية تحركه، فإن هذا سوف يتطلب تقليل وتخفيض الموجات الإضافية لأدنى حد ممكن، والذي يصاحبه تقليل كمية تحرك فوتونات الموجات الإضافية، وذلك يؤدي لانتشار الإلكترون لكي يشغل عددًا لا نهائيًا من المواضع الممكنة (4).
ومن هنا فانه يمكننا أن ندرك حقيقة أنه لا يمكن من حيث المبدأ، تحديد قيمة زوج من المتغيرات؛ أي، زوج من الخصائص القابلة للملاحظة المقترنة معًا، لنسق ميكانيكي كمي في نفس الوقت بدقة مطلقة كالموضع وكمية التحرك، حيث أن المعرفة الدقيقة بقيمة أحدها يؤدي بشكل تلقائي إلى نقصان تحديد الكمية الأخرى المقترنة بها.
الآن، وقد أوشك استعراضنا للمغزى الفيزيائي لعلاقات اللايقين لهيزنبرج على الانتهاء، فإننا لنتساءل كيف أمكن لهيزنبرج أن يحل التناقض الواضح بين نموذج الموجة ونموذج الجسيم، والتي أثبتت التحقيقات التجريبية أنهما موجودان بالفعل في الظواهر الطبيعية ؟
في الحقيقة، فإنه يمكننا أن نستكشف الإجابة عن ذلك التساؤل عن طريق القول: بأن هيزنبرج قد قام بحل تلك المفارقة عن طريق استيعاب كل من مفهوم الموجة ومفهوم الجسيم بداخل إطار علاقات اللايقين. فعلى الرغم من تناقضهما في ضوء اللغة الكلاسيكية فإنهما، بمعنى ما، وصفان لازمان وضروريان لوصف الكينونة الكمية والتي لا يمكن في ضوء علاقاته اختزال أحدهما على حساب الآخر. إن علاقاته قد ربطتهما سويًا بإطار لا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر.إن الدقة في قياس خاصية من زوج من الخصائص القابلة للملاحظة المقترنة معًا، أى الموضع والذي يعبر عن السمة الجسيمية، يستتبع حتمًا وبالضرورة نقصانًا في المعرفة الدقيقة لقيمة الخاصية الأخرى المقترنة بها؛ أي كمية التحرك والتي تعبر عن السمة التموجية ( لاحظ أن كمية التحرك تعبر عن السمة التموجية لأن كمية التحرك تكون مرتبطة بالطول الموجي طبقًا لعلاقة دي بروجلي ).ومن ثم فإن علاقات هيزنبرج قد ربطت مفهوم الموجة ومفهوم الجسيم بإطار لا يقبل الانفصال، كما ربطت الرؤية الأحادية لشرودنجر ذات السمة الموجية بالرؤية الأحادية لبورن ذات السمة الجسيمية بشكل لا يقبل الانتهاك.
التضمينات الفلسفية لعلاقات اللايقين :
يمكن القول أن علاقات اللايقين لهيزنبرج قد طرحت مشكلات أبستمولوجية وأنطولوجية خطيرة، داخل نطاق المعرفة العلمية، لكونها تنطوي على دلالات فلسفية عميقة، والتي تكون مُتناقضة تمامًا للرؤى والتصورات الكلاسيكية؛ سواء منها ما يتعلق بطبيعة العلاقة بين الظواهر الطبيعية، أو ما يتعلق منها بطبيعة الواقع الفيزيائي نفسه، ومدى استقلاليته عن الملاحظين المدركين له.ومن ثم فإن علاقات اللايقين تحمل فى طياتها تهديدات خطيرة للمقولات الكلاسيكية حول”الواقعية”و”الموضوعية”، والتي ترسخت عبر قرون عديدة، عن طريق تقديمها لرؤية جديدة مختلفة كلية، عما كنا قد ألفناه من قبل.
طبيعة العلاقة بين الظواهر الطبيعية في ضوء علاقات اللايقين :
إنه لمن نافلة القول، التأكيد على أن الرؤية الكلاسيكية لطبيعة العلاقة التي تحكم الظواهر الطبيعية إنما ترتكز على كونها علاقة سببية)*(؛ والتي تعني أن هناك أسبابًا محددة تؤدي إلى نتائج محددة. كما ترتكز الرؤية الكلاسيكية أيضا على مبدأ الحتمية، والذي يعني؛ بكلمات قليلة، أن هناك ارتباطًا ضروريًا بين الأسباب والنتائج التي تستحيل أن تتخلف عن مسبباتها.إن الرؤية الكلاسيكية تتضمن أيضًا، إمكانية التنبؤ بجميع الحالات المستقبلية التي يمكن أن يتواجد فيها نسق ما بكل دقة وبشكل يقيني، على الأقل من حيث المبدأ، بعد معرفة عدد من الظروف الأولية الملائمة التي يتواجد فيها النسق بالفعل. ومن ثم فإن الرؤية الكلاسيكية في جملتها ترتكز على اليقين والثقة بما سيحدث مستقبلاً بناءً على اليقين والثقة بما يحدث الآن.
وفى الحقيقة فان الرؤية الكلاسيكية قد ارتكزت فى أُطروحاتها عن السببية والحتمية على النجاح المنقطع النظير لبرنامج الفيزياء الكلاسيكية بشكل عام، وللميكانيكا النيوتينية بشكل خاص. فطبقا لها، فإن جسمًا ما يكون معتقدًا فيه على أنه يمتلك نوعين من الخصائص في آن واحد. إنه، مثلا، يمتلك كل من موضع وكمية تحرك في أي لحظة وفي كل لحظة، بدون انقطاع. إن موضع وكمية تحرك الجسم الآنية تخبرنا عن المكان الذي يكون فيه الجسم الآن بالفعل، والمكان الذي سينتقل إليه مستقبلاً سواء كانت حركته على خط مستقيم أم على مسار منحني(1). ومن ثم فإنه يمكننا أن نعزو للجسم موضعًا دقيقًا، وكمية تحرك دقيقة في نفس الوقت، الآن ومستقبلاً.ومن ناحية أخرى، فإن الرؤية الكلاسيكية تفترض أن السمة الإحصائية التي تبدو في معالجة بعض الأنساق الميكانيكية، كمعالجة جزيئات غاز مثلاً، والتي تُظهر إخفاقاً في تحديد قيم الخصائص الدقيقة لنسق ما، إنما يكون نتيجة لقصور أدواتنا وتقنياتنا في إبراز قيم دقيقة لهذه الخصائص لا لكونها لا تقبل التحديد أصلاً، ومن ثم فإنه لا مناص من اللجوء للمتوسطات الإحصائية، والتوزيعات الاحتمالية.
لكن علاقات اللايقين تفشي وبصراحة الطبيعة الإحصائية الاحتمالية للأنساق الميكانيكية الكمية، وتعبر عن التنبؤات اللايقينية لقيمة قياس زوج من المتغيرات المقترنة معًا، كموضع وكمية تحرك نسق ما، بدقة مطلقة في نفس اللحظة.إن هذه التنبؤات تتصف بصفة احتمالية فى جوهرها.فطبقًا لعلاقات اللايقين، فإنه لا يمكن من حيث المبدأ التنبؤ بقياس زوج من المتغيرات المقترنة معًا.إنه لمن الحقيقي القول، أن الاحتمالات التي تقتضيها علاقات اللايقين في معالجتها للأنساق الكمية ليست مطلقا بسبب الجهل بالقيم الدقيقة المستقبلية أو بالقيم الدقيقة الحالية، ولكنها تدخل في علاقات اللايقين بسبب أن طبيعة الجسيمات ذاتها لا تسمح بذلك. فلقد اتضح من مناقشة الأمثلة السابقة: أن علاقات اللايقين هي علاقات ذات وجود حقيقي، والتي لا يمكن انتهاكها في ضوء أي نظرية مستقبلية، أو التخلي عنها في ضوء أية تطويرات وتحسينات على أدوات القياس. ومن ثم فإن علاقات اللايقين تنتهك الحتمية ليس فقط على المستوى الأبستمولوجي ولكن على المستوى الأنطولوجي أيضًا.
ومن هنا، فإنه يمكننا التأكيد على حقيقة أن القول بأن الأنساق الكمية تمتلك بذاتها قيمًا محددة في كل آن، بالضبط كالأنساق الكلاسيكية، ولكن لا يمكننا معرفة حقيقتها بسبب تقنياتنا البسيطة؛ لهو قول لا يتضمن أكثر من رغبات أو أمنيات في سيادة أنماط مسبقة من التفكير، والتي تعبر عن رؤى دوجماطيقية؛ حيث أنها تتضمن القول بأنه بينما لا يمكننا تحديد خصائص الأنساق الكمية بدقة، فإنها تمتلك قيمًا محددة ودقيقة.وهذه بالطبع ليست وجهة نظر فيزيائية (1)، ولكنها وجهة نظر فلسفية أخلاقية تتعلق بما ينبغي وما لا ينبغي أن نعتقد فيه ونؤمن به.
وبناء على ما تقدم فإنه يمكننا القول، أن علاقات اللايقين بقدر ما إنها تقوض التنبؤات اليقينية، فإنها تقوض أيضًا مبادئ السببية والحتمية، تلك المبادئ التي قامت عليها الفيزياء الكلاسيكية برمتها، وتُشيد بدلاً منها دعائم اللاحتمية وعدم اليقين. وخلافًا للدعوة المفرطة في التفاؤل التي أطلقها لابلاس Laplace في القرن الثامن عشر، والتي أشار فيها إلى أن المرء إذا كان باستطاعته أن يُلمّ بمواضع جميع الجسيمات المادية، وأن يُلم بالقوى المؤثرة بينها، فإن المستقبل بالإضافة للماضي سيكون باديًا أمام ناظريه، تلك الرؤية التي شكلت ما يعتبر بوصفه العقيدة العلمية لفيزيائيى القرن الثامن عشر؛ فإن هيزنبرج قرر وبشكل واضح انهيار مبدأ السببية، ومن ثم انهيار المبدأ المؤسس عليه؛ أعني، مبدأ الحتمية، على المستوى الذري.حيث أنه، وكما يرى هيزنبرج، لكي يمكننا التنبؤ بمستقبل النسق الذري، فإننا لابد وأن نعرف كل شيء عن حالته الراهنة، ولكن طبقًا لميكانيكا الكم، فإنه لا يمكننا من حيث المبدأ، أن نعرف الحالة الراهنة بكافة تفاصيلها(1). وبكلمات هيزنبرج نفسه:
“فيما يتعلق بالصياغة الواضحة لقانون السببية: لو أننا نعرف الحاضر، حينئذ فإنه يمكننا التنبؤ بالمستقبل.إن هذه ليست النتيجة، ولكنها المقدمة التي تكون كاذبة: فمن حيث المبدأ لا يمكننا أن نعرف جميع العناصر المُحَدِّدَة للحاضر”(2).
ومن هنا فإن هيزنبرج يكاد يقول لنا: أن مبدأ السببية لا يمكن أن يكون مشتقًا من الخبرة على الإطلاق حيث أنه وعلى المستوى الكمي لا يمكننا معرفة جميع العناصر الحالية المحددة لحالة النسق. فعلى سبيل المثال: فإننا نعرف أن ذرة الراديوم Radium، مثلاً، لابد أن تُطلق إلكترونًا في اتجاه ما إن آجلاً أو عاجلاً. ولكننا لا يمكننا التنبؤ بيقين باللحظة الزمنية التي تنحل فيها الذرة مطلقةً ذلك الإلكترون، أو التنبؤ بيقين بالاتجاه الذي يمكن أن ينطلق فيه. إنه يمكننا فقط التنبؤ عن طريق المتوسطات الإحصائية لعدد كبير من ذرات الراديوم، بالمدى الذي يمكن أن تنحل فيه الذرة تقريبًا، أو الاتجاه الذي يتخذه الإلكترون تقريبًا. ولذلك يقرر هيزنبرج:
“إنه لا يمكننا، وهذا يعني انهيار قانون السببية، أن نُفسر لماذا أن ذرة معينة سوف تنحل في لحظة محددة وليس في اللحظة القادمة، أو ما أسباب انطلاق الإلكترون في هذا الاتجاه بدقة أكثر من اتجاه آخر.إننا مقتنعون، لأسباب عديدة متنوعة، أنه لا يوجد مثل ذلك السبب”(3).
في الحقيقة فإن هذا النص لهيزنبرج يتضمن، وبشكل واضح، انتهاكًا للسببية والحتمية ليس فقط على المستوى الأبستمولوجي ولكن على المستوى الأنطولوجي أيضًا بالنسبة للميدان الذري. فبالنظر إلى عبارته: أنه”لا يوجد مثل ذلك السبب”، نجد أنها تتضمن النفي الوجودي الأنطولوجى للعلاقة السببية أصلاً، وليس فقط نقصًا معرفيًا أبستمولوجيًا عن الارتباطات السببية بين الظواهر الكمية.ومن ثم فإن هيزنبرج يقوض هنا مبدأ السببية بالمفهوم الكانطي؛ أي، باعتباره مفهومًا قبليًا أوليًا.
وبناء على ذلك، فإننا نقرر، وفي ضوء علاقات اللايقين، أن عدم اكتشاف العلاقة السببية وعدم إمكانية التنبؤ الدقيقة بالأحداث الكمية؛ لا يعني فقط أن معرفتنا عن تلك الأنساق هي معرفة ناقصة والتي يمكن تجاوزها بشكل ما عندما تتحسن أدوات قياسنا، ولكنه يعني أيضًا أن هذه الأنساق لا تمتلك منذ البدء قيمًا محددة أصلاً. إن أدوات قياسنا وتجاربنا وتنظيماتنا الملاحظية، تكشف لنا عن حقيقة ما يكون موجودًا بالفعل، والذي دائمًا ما يكون غير محددا، وغير متيقن منه، وليس وراء ما نلاحظه وما تسجله أدوات قياسنا من واقع آخر أو حقيقة بعيدة يمكننا إدراكها، فطبقًا لهيزنبرج:
“إننا نعتقد أن جميع ما يكون مكتشفًا لدينا، يكون موجودًا في هذا المجال”(1).
وفي الحقيقة، فإن هذه العبارة تنطوي على دلالات خطيرة والتي تُفشي سمات عديدة لعلاقات اللايقين، ومن ثم لتأويل مدرسة كوبنهاجن كما سنرى، والتى تنبثق من حقيقة كونها تنتهك التقسيم الكانطي لعالم الظواهر وعالم الشيء في ذاته؛ إذ أنها تتضمن وبوضوح أنه لا يوجد مثل هذا الشيء في ذاته، فما لا يمكننا معرفته لا يكون موجودًا، كما أن الظواهر تتجلى لنا بمثل ما هي عليه وليس وراء ذلك من واقع آخر بعيد يمكننا اكتشافه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن العبارة السابقة لهيزنبرج، تحمل تهديدًا خطيرًا للرؤية الكلاسيكية للواقع الموضوعي وللعالم الخارجي، والتي تفترض تمييزًا جوهريًا بين الأنساق الملاحَظية والأنساق الملاحِظية أو أدوات القياس.
Read more at
تعقيب على المقال أعلاه:
حيث نلاحظ أن إنحلال الذرات لا يخضع لقانون سببي واضح، حيث لا نستطيع معرفة سبب انحلال ذرة في وقت ما، ولكن هذا برأيي الشخصي لا يبطل السببية كمفهوم عام، ولكنه يبطل السببية الفيزيائية بكل تأكيد. وبالتالي فإن الملحد العارف للفلسفة يعلم أن قانون السببية الفيزيائية محدود، ولكنه يدلّس على المفاهيم فيجعل السببية الفيزيائية هي السببية بكل أشكالها.
إن إنحلال الذرات يخضع لمسألة الوصول للاتزان عن طريق الانحلال الإشعاعي على شكل ألفا وبيتا وجاما. فالذرات غير المستقر تسعى للانحلال بكل وحسب أنماط معروفة! ولهذا فإن سبب انحلالها هو عدم استقرارها الذاتي وبالتالي لا يوجد سبب خارجي واضح أدى إلى عدم استقرارها. هنا يجب إعادة مفهوم السببية واخراجها من السببية الفيزيائية! وللعلم هذا يفيدنا جداً في نقاشاتنا مع الملحد، حيث هنا سيقف الملحد شاهداً على حدوث عملية بلا سبب واضح، وهذه العملية سببت كل الأسباب. ولا تظنون أن الخروج من العدم هنا سيخضع لهذا مع إن العقل قد يجوزه، إلا أن هذا الأمر إن انقاد له الملحد باختصار سيفترض أن العدم له وجود ما، وبالتالي فلن يعود عدماً أبداً.. وهذا ما حصل مع كراوس. وقد بينا في مقالنا "الكون من عدم، حقيقة أم فرضية؟" أن الخلق من عدم وإن وقع فهو سيكون من عدم مضاف وأن هذا يوافق عقيدتنا الإسلامية. بل ونستطيع أن تجرّأ ونقول أن الملحد يقوم بتعطيل السببية أيضاً عندما نصل لخلق الكون مثله مثل المؤمن عندما يصل إلى الله. وبهذا فهو ليس أفضل ولا أكثر ذكاءً ولا أي شيء مما يدعيه لنفسه. إنه عبد المادة.
خلاصة كلامي كالآتي:
1- الملحد إن كانت لديه مشكلة مع السببية فهي مع السببية الفيزيائية.
2- نحن المسلمون لا ننظر للسببية في مجالها الفيزيائي فقط، بل في مجالها الوجودي أيضاً، كما في المنطق الأرسطي.
3- إن قال الملحد أعطني شيئاً يحدث بلا سبب واضح، فأنت لديك الآن شيء تستند عليه حسب مفاهيم علم الكم، ألا وهو انحلال الذرات وتستطيع ان تقول له، هذا حدث يحدث بغرابة ولا نستطيع تفسيره! وبالتالي فإن سبب هذا الإنحلال يجب أن يكون خارج الزمان والمكان لأننا لا نستطيع رصده! فإن قال بإن هذا الشيء مستحيل، قل له معك عشرات ألوف السنين ومبدأ كوبنهاجن ولنرى ما عندك. تحدث بثقة ولا تخف، فالملحد ضعيف هنا. وتأكيداً على الكلام أعلاه، اقرأوا هذا الكلام:
One should note that the time of decay of any given nucleus cannot be predicted: decays occur at random times. According to the Copenhagen interpretation of quantum theory, a radioactive decay is an example of a causeless effect. But, although it is not possible to predict when a given radioactive nucleus will decay, one say with great confidence how many nuclei, on average, will have decayed after a given interval of time.
المصدر: جامعة ولاية فلوريدا
بعد كل هذا الكلام، هل تظنون أن الملحد قادر على الكلام في السببية؟
الجواب لكم..
والحمد لله رب العالمين.