الخميس، 13 فبراير 2014

نافذة على الفلسفة - الدرس العاشر

الدرس العاشر

العليّة

(العلة والمعلول) (2)




(88)


وإذا كانت العلاقة بين العلة والمعلول تعلقية ربطية وبهذه الدرجة من القوة والربط ـ كما تقدم في الدرس الماضي ـ يتضح بجلاء ما أُثِرَ عن الفلاسفة من أن المعلول يقترن زماناً بعلته، فإذا وجدت العلة وجد معها المعلول وإن انتفت انتفى معها معلولها. وبعبارة أخرى: إن المعلول يعاصر علته، كما يقول الشهيد السعيد محمد باقر الصدر قدس ‏سره: (1)
«لما كنا نعرف الآن وجود المعلول مرتبط ذاتياً بوجود العلة، فنستطيع أن نفهم مدى ضرورة العلة للمعلول، وأن المعلول يجب أن يكون معاصراً للعلة ليرتبط بها كيانه ووجوده، فلا يمكن أن يوجد بعد زوال علته، أو أن يبقى بعد ارتفاعها، وهذا ما شئنا أن نعبّر عنه بقانون التعاصر بين العلة والمعلول»(2)

وقد اشتبه الأمر على بعض، فتصور أن العلاقة الارتباطية بين العلة والمعلول
 

1 ـ محمد باقر الصدر (1933 م ـ 1980 م): و لد قدس ‏سره في مدينة الكاظمية ـ إحدى مدن العراق ـ في أسرة كريمة، نبغ مبكرا فنال درجة الاجتهاد ومن ثم مقام المرجعية الرشيدة، وصار ممن يشار إليه بالبنان، ومن النوادر الذين تشرف التاريخ بتدوين أسمائهم على صفحاته بأحرف من نور، وقد امتاز بالمثل الأخلاقية العليا، وبشمولية نظرته وعمقه العلمي، فكان له من المؤلفات: اقتصادنا، فلسفتنا، الأسس المنطقية للاستقراء، البنك اللاربوي في الإسلام ... تصدى لمواجهة نظام صدام الدكتاتوري في العراق، فحاز على درجة الشهادة الرفيعة.
2 ـ فلسفتنا ص 279. ط مجمع الشهيد الصدر العلمي.
(89)


بمعناها المتقدم والتي يُسْفِرُ عنها تعاصر واقتران زماني بينهما لا تصدق على كثير من الموارد، فعلى سبيل المثال: أن البَنّاء الذي يكون علة في بناء البيت لا يؤَثِّر موتُه على البيت وبقائه، فالبيت يبقى مدة مديدة من الزمان رغم انتفاء علته، فبموت البَنّاء يظلّ صرح البَنَّاءِ باقياً، مع العلم أن العلاقة القائمة بين البَنّاء والبيت من نمط العلاقة الارتباطية.

وقد فات هؤلاء تشخيصهم الدقيق للمعلول المرتبط بعلته، فإن المعلول المرتبط بالبنّاء في هذا المثال ليس سوى عملية نقل وانتقال المواد من مكان ووضعها في مكان آخر، وهذا النقل ينتهي لا بعد موت البَنّاء فحسب بل حتى في حياته بعد سحب يده من عمله، وهذا يعني أن العلّة هنا عبارة عن عمل البَنّاء الموجب لنقل وانتقال مواد البَنّاء من مكان إلى آخر وهي تنتفي بمحض ما يتوقف البنّاء عن العمل. وأما علة بقاء البيت قائماً حتى بعد توقف البَنّاء عن العمل أو بعد موته، فيعود إلى أن لهيئة البيت وشكله علة أخرى وهي القوة التماسكية للمواد المستخدمة في البِناء وطبيعة تركيب الاَجُر؛ وهي موجودة مع البِناء، فإذا زالت انهار البناء.

فالعلاقة القائمة بين كل علة ومعلولها علاقة ارتباطية تعاصرية بلا ريب وهو ما يتضح بجلاء إذا ما أمعنا الدقة في تشخيص العلة ومعلولها في مواردها كما تبيّن في المثال آنف الذكر.

 

قد تصور البعض خطأً انحصار الغايات في مورد الأفعال الناشئة عن الفكر والتأمل بنتائج الأفعال كذهاب العامل إلى معمله للكسب وتحصيل الرزق، و

(90)


 

ذهاب الطالب إلى مدرسته للاستنارة بنور العلم. فلا غاية للأفعال التي لا تنشأ عن منشأ تصديقي فكري، كملاعب الصبيان وتسمّى بالجزاف، وكالعبث باللحية والأصابع المسمى بالعادة، وكحركات المريض الناشئة عن مزاج خاص فيه المُعَبّر عنها بالقصد الضروري.

والصحيح هو أن لكل فعلٍ غاية ينتهي إليها الفعل، فما كان فكريا كانت غايته فكرية، وما لم يكن كذلك بأن كان جزافيا أو طبيعيا أو مزاجيا كانت الغاية ما ينتهي إليها الفعل من نتيجة، لأنها مآل الفعل ومنتهاه.

والأفعال مهما كان منشأها، فكريا أو غيره قد يعرضها مانع يحول دون الوصول إلى غايتها وحينئذٍ يسمّى الفعل نسبة إلى ذلك المانع بالباطل. وهذا لا يعني بحال أن الفاعل لا هدف له من فعله، لأن عدم الغاية شيء ووجود مانع حال دون تحقق الغاية شيء آخر.

وإذا اتضح أن لكل فعل غاية يستهدف الفاعل تحققها يتضح أيضا استحالة الاتفاق ـ الصدفة ـ بين العلل والغايات التي تنتهي إليها تلك العلل، إذ إن الصدفة لو كانت ممكنة لأمكن صدور المعلول من أية علة مهما كانت، ولا شك في أنه واضح البطلان، إذ كيف يصح فرض صدور الحرارة من الثلج والبرودة من النار بحجة القول بالصدفة؟!

ومنه يتضح وهن ما استشهدوا به من أمثلة البخت السعيد والشقي، حيث قالوا: قد يحفر إنسان بئراً ليصل إلى الماء فيعثر على كنز، وقد يحفُر آخرُ بئراً ليصل إلى الماء فتلدغه أفعى فيموت على أثرها، فلا ربط إذن بين الأفعال وغاياتها. إلا أنك ترى وبأدنى تأمل أن كلاً من الفعل الأول والثاني لم يتخليا عن الغاية المختصة

 

(91)


بهما، إذ إن الحفر بمفرده لم يوصل إلى الكنز ولا إلى الأفعى، بل إن الحفر في خصوص نقطةٍ من الأرض تحتها كنز أو أفعى يوصل إليهما لا كل حفر كيف ما اتفق. والحصيلة هي أن كل فعل لابد وأن يؤدي إلى نتيجته وغايته المنتهي إليها، فلا صدفة ولا انفصام بين الغايات للأفعال وبين عللها الفاعلية كما توهم البعض من أمثالديمقريطس، الذي أكد على أن الله‏ خلق أجساما صغاراً وأطلقها متحركة، فتصادمت الأجسام صدفة بعضها ببعض فنشأت عنها صور الكون وأشكاله المختلفة، مع إنها لم ‏تكن مقصودة من ‏الله‏ بل وجدت صدفة!

(92)

1 ـ ما هو المقصود من قانون التعاصر بين العلة والمعلول؟
2 ـ إذا كان المعلول مرتبطا ومحتاجا إلى علته دوماً فلماذا يستغني البِناءُ عن البَنّاء؟
3 ـ ما هو المقصود من العادة والقصد الضروري والجزاف والصدفة؟
4 ـ ما هو ردك على قول القائل بانحصار الغايات في مورد الأفعال الناشئة عن الفكر دون غيرها؟
5 ـ ما هو الدليل على بطلان القول بالصدفة؟
6 ـ ناقش ما يلي:

(البخت السعيد أو البخت الشقي ينفيان الارتباط بين الأفعال وغاياتها).