السبت، 22 فبراير 2014

الحتمية والجبرية، وأصولهما الفكرية.

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

اليوم أحببت أن أعود لموضوع قديم جديد، نشرته من مدة على شكل مقالتين نقلت فيهما الكثير من الأمور ومع هذا لم أصل برأيي لنتيجة واضحة يفهمها القارئ بشكل مباشر، بل اعتمدت على حدس القارئ واطلاعه.
اليوم سأحاول تقديم شرحاً جديداً للموضوع، مع تجميع لمختلف المعلومات في نهاية البحث لمزيد من الاطلاع والدراسة.
ما ستقرأوه هو من تأليفي وفهمي، وفي خانة المصادر سيكون الكلام منقول نقلاً حرفياً من مصدره.


تبدأ الحكاية على شكل نقاش بين شخصين أو أكثر، نقاش حول حرية الإنسان وقدرته على الاختيار. هذا النقاش له أصول تاريخية دينية في بدايات ظهور الدولة الإسلامية، وقد تنازع المسلمون بين الجبر والتفويض حتى بلغ النزاع حداً اشتهرت به المدارس المختلفة كلّ بآراءها. وما يجمع تلك المدارس ببساطة: الاستشهاد بالنص. 

نعم، لقد تم تحويل القرآن إلى أداة بيد المسلمين يظهرون منه ما يشاؤون من وجوه لدعم موقفهم، ولعل ما نراه اليوم من مناكفات بين أقطاب المذاهب المختلفة كل يدعي ارتباطاً أصيلاً بالنص، هو أشبه ما حدث في أمسنا. 

ولكننا اليوم نقف على أسس جديدة، أسس تقوم على مذاهب فكرية حديثة، مذاهب تستخدم المصطلحات العلمية المستحدثة في علوم الاجتماع والأحياء والفيزياء، ولها مؤيديها ومحبيها بكل تأكيد، تلك المذاهب الجديدة صرّحت ببساطة: الإرادة الحرّة وهم. 

ومن أشهر فرسان هذه المدرسة في أيامنا هذه: سام هاريس. وألخص كلام سام هاريس ببساطة أن الجينات والظروف البيئية والاجتماعية عوامل تؤثر على خياراتك ولا تجعلك حراً فيها، وبالتالي فإن حرية الإرادة "غائبة" وليست حقيقية. وطبعاً هذا سيجعل المجرم ببساطة ضحية للظروف، فربما هناك ورم في دماغه أو جينات سيئة أو ظروف صعبة أو تربية فاسدة أثرت على نموه النفسي وبالتالي فهي تؤثر على قدرته على الاختيار، فببساطة هي قد تصيبه بالعمى والشلل الفكري فيمسي آلة تلحق رغباتها لتحققها وتخضع لسلم ماسلو ببساطة. 


ولنأخذ مثالاً حول المجرم مضطرب العقل، فحسب موقع Livesicence  فإن المجرمين من هذا النوع يشكلون 1% من المجموع السكاني الأمريكي  (طبعاً هذا الرقم ناقص بالنسبة لي لأنه لا يحتوي على ما نعرفه بالـ Confidence interval) و 25% من مجموع المجرمين الذكور في الاصلاحيات الأمريكية. 

على ماذا يدل هذا؟ يدل أن هذه النسبة ليست مسيطرة ولا تصل حتى الثلث، بل الربع، فإن استثنينا الربع المصاب، فماذا عن الثلاثة أرباع الباقية؟ طبعاً الجواب حاضر على لسان أصحابنا: الظروف الاجتماعية التربوية. 

تشير بعض الدراسات وقد وقفت شخصياً على واحدة منها أن التدين مرافق للاجرام، وحسبما فهمت من الدراسة فإن التدين هذا يعمل عمل المخدر حيث يشعر المجرم بأنه سيتم غفران ذنبه من قبل "يسوع" (الدراسة أمريكية)، ومن خلال تعاملي شخصياً مع شريحة من المجتمع ذات السلوكيات التي تعتبر مرفوضة، أجد لديهم حياة متناقضة الأولى مؤمنة والثانية لنقل عنها أنها فاسدة. 

كان الله وما زال اللاعب الرئيسي وصاحب الدور واليد في تغيير الإنسان وأحواله على الصعيد النفسي، ولهذا نرى بأن المخطئ يسعى لنيل رضا الله ويؤمّل نفسه برحمته، ولهذا نجد ارتباط الإيمان بالسلوك الخاطئ، ليس لأن الإيمان خاطئ، بل لأن الإيمان يجعلك ترى الله بصورة رحيمة غفورة. وطبعاً، هذا الأمر أصعب في الإسلام لارتباط الإسلام بفكرة جهنم والعقوبة الخالدة فيها. وكملاحظة جانبية، فالمسيحية تروج لنفسها على أن الله يحبنا ويقبلنا ويتحول الله من مفهوم العزة إلى مفهوم الأب الراعي والصديق القريب. ولا استطرد إن قلت أن هذا التيار موجود لدينا في تيارات الزهاد والمتصوفة وبعض العرفاء المتغنين بقضية العشق الإلهي.

نعم، لقد ابتعدت عن صلب الموضوع، ولكن لنقل المواضيع تترابط ولهذا وصلت إلى ما وصلت، ولنعد لقضيتنا الآن. فالقضايا الاجتماعية لابد أن تؤثر علينا كثيراً وبالتالي تؤثر على قدرتنا على الاختيار. والسؤال الذي يجب أن نجيب عليه بكل صراحة: في أي نظام اجتماعي، هل توجد بيئة احادية التأثير بشكل مطلق؟ هذا السؤال يجب أن يجيب عليه أصحاب دعوى أن المجتمع يحكم أخلاق وسلوكيات الفرد. نعم، أنت يمكنك أن تجلب الحصان للنهر، ولكنك لا يمكن أن تجبره على الشرب منه. والسؤال الأهم، حتى لو تم الإلزام والجبر، فهل هناك اقتناع بصحة هذا المنهج؟ يبدو على أصحاب النظريات الاجتماعية الخروج من النظرة الشمولية ودراسة الأفراد.

إن المجموع السكاني مثل النهر، نحن نقف ونرى النهر يسير ويسير ويشق دربه في الأراضي الوعرة برتابة، ولكن هل فكرتم في يوم ما بأن حركة هذا النهر عشوائية وغير قابلة للتوقع؟ ستتعجبون صدقوني!

صحيح أن النهر يجري في قناة واحدة، وباتجاه واحد، ولكن في خضم هذا الجريان هناك اضطراب، هناك عدم قدرة على التنبؤ والتحديد، ولا جرم إن شبهت قناة النهر بالحياة التي تسير في اتجاه واحد، ولكن كل واحد فينا له القدرة على التحرك ضمن حدود الحياة.

نعم، فلا الجينات ولا الفيزياء ولا الكيمياء يعطوننا القدرة على أن نقول أن الإنسان غير قادر على الاختيار، إنما يقولون لنا: الخيارات محدودة! فهل تتساوى بين عدم القدرة على الاختيار مع محدودية الخيارات؟ 

نعم، هناك أنماط للمشاكل ونرى بشكل عام أن الأشخاص المتعرضون للظروف المتشابهة يتصرفون بطريقة متشابهة تجاه نفس الضغوط مع تفاوت واضح في شدة الاستجابة. وهذا لا يفيد الجبرية بل يفيد التعميم، فليس كل من يتعرض لنفس الظروف ستحدث له مشاكل في تكوينه النفسي بنفس الطريقة. الأضرار إن حصلت فلا يعني أن هناك باختصار نفس الدرجة من التضرر. 

اذاً لا يمكننا أن نقول بأن الظروف ستكون حتمية التأثير على الأشخاص وتكوينهم النفسي، أبداً، بل نقول أن لها أثراً وهذا الأثر قابل للعلاج والإصلاح وفق مدارس العلاج النفسي والخبرات الحياتية. 

وبهذا فنحن وببساطة نرى سقوط الأثر الاجتماعي والتربوي في احداث تيار جبري في مجموع السكان. لا توجد جبرية مطلقة ولا توجد حتمية هنا، بل توجد أنماط احتمالية وليست مؤكدة. 

الطبيعة نظام ديناميكي لا خطي حساس جداً للظروف الأولية ولا يمكن التنبؤ بسلوكها أبداً. وأبسط مثال الطقس، لا يمكنك معرفة درجة الحرارة بدقة متناهية أبداً، وبالتأكيد نحن نضحك من جماعة الأرصاد لكثرة ما اخطأوا، ولكن عندما تضحك مرة أخرى، تذكر أن هذا المسكين يتعامل مع نظام غير قابل للحل أبداً، ومع هذا فهو يحاول تقديم حل تقريبي له. يستحقون كلمة "شكراً". 

الجينات، الجينات ليست أزرار فقط، ولا مجموعة من التعليمات، بل نظام كامل معقد، ولو تبدلت جينة محل جينة فالنتائج مجهولة. والدراسات تؤكد أن السلوك حتى تكون الجينات سبباً له، فإن العديد من الجينات يجب أن تتغير

في ميكانيكا الكم سقطت الحتمية، وفي الفيزياء على المستوى الكبير سقطت الحتمية، فأين الحتمية؟ في البيولوجيا فالكلام مجرد تخمينات، وفي الاجتماع فالتأثيرات احصائية لا حتمية! فأين الجبر؟ 

كل المشكلة تقوم على منطق خاطئ وهو المنطق الاختزالي، حيث يتصورون الإنسان مجموعة من الازرار، التي ان ضغطتها ستتصرف بطريقة معينة. تلك نظرة خاطئة جداً. الإنسان أعقد بكثير. 


النظرة الإسلامية المعتدلة تؤمن بالآتي: الله خلقنا وخلق العالم، وميزنا بالقدرة على الاختيار وفق المعطيات الصحيحة، والمعطيات الصحيحة هي المعطيات التربوية الصحيحة المتمثلة بالدين القويم والمجتمع السليم، وعلى أساسها نختار، فإن فسد الأساس فسد الاختيار، ولا يعني فساد الخيار عدم ادراك للخطأ ابداً. متى توقف ادراكك لخطأك فاعلم انك سرت ملزماً باتجاهه. 

ودمتم بود.
============================================

مصادر الكلام:

تعرّف الإرادة الحرة: على أنها القدرة على اتخاذ قرار بعيداً عن أي احتياج، قيد، أو قدر مسبق. 
طبعاً هذا التعريف غير ممكن واقعياً ولهذا لا يمكن أن توجد إرادة حرة مطلقة، لأننا جميعاً نحتاج للمعيار والقانون ونتحرك وفق احتياجات ورغبات وغايات، فالتعريف بنفسه متناقض مع النفس الإنسانية التي أوجدته. ولهذا سأحاول توضيح أن الإرادة الحرة ستكون عبارة عن القدرة على الاختيار بين الاحتمالات المطروحة وليس القدرة المطلقة على الاختيار. فنحن إن كنا مخلوقين أو كنا نتاج تفاعلات مادية، فلابد من وجود نسبة تحكم فينا بسبب خصائصنا الذاتية.
يجب أن نفهم: نحن لم نختر وجودنا ولم نختر بيئتنا، ولكننا نستطيع أن نختار كيف نتصرف وكيف نؤثر، وهنا السر. أنت لست مسؤولاً عن خطأ غيرك، ولكنك مسؤول عن كيفية التعامل مع هذا الخطأ وتصحيحه. وبالتالي فلك حرية الاختيار بين الترك والتصرف. وطبعاً الإنسان نظام معقد جداً غير قابل للتوقع، ولهذا فأنا اؤسس للنقاش وفق المفاهيم التي تدحض زعم الحتمانيين وقدرتنا على التنبؤ كبداية. وعلى عهدي، لا أنقل الكلام إلا من مواقع العلمانيين حتى يكون الكلام حجة عليهم.

من يقول أن الإنسان مجبور، فهو محق: مجبور في وجوده وفي تنفسه وفي طعامه وفي نومه، ولكن الإنسان قادر أن يختار كيف يأكل من حلال أو حرام، كيف يكون وجوده: مؤمن أم كافر، وهكذا. لا يمكن لأحد أن ينفي قدرة النظم الديناميكية على اختيار مسارها بما يصب في مصلحتها. وأفضل مثال: مستعمرة النمل، وهذا ما سنناقشه لاحقاً.

إن النقاش في وجود الإرادة الحرة لابد أن يأخذ مساراً مادياً، ولهذا آثرت طرح مفهوم النظم الشواشية حتى نقدم طعناً منهجياً وفق أسس علمية. لا يمكن للمعترض بعد قراءة هذا الأمر سوى أن يقول: ولكننا لا نتحكم بالبيئة وبالتالي فلا يمكننا التحكم بردود أفعالنا. وقد توجهت لهذه المشكلة بالتفصيل وتوضيح كيف أن الحتمية البيولوجية والاجتماعية ليستا سوى خرافة بل أن المجتمع قد يتصرف عكس المفروض ولا يستجيب للضغوط كما هو متعارف.



ما الشواش؟

الخميس 3 أيلول (سبتمبر) 2009
بقلم: Matthew A. Trump   ترجمة : إبراهيم قيس جركس


المقدّمة:
هل هناك قوانين حتميّة مطلقة تحكم الكون؟ هل تقدّم لنا قوانين الفيزياء توقّعات وتنبّؤات دقيقة وصارمة عن سلوك المنظومات الفيزيائيّة؟ وهل هناك أيّ درجة من الدّقة واليقين في الأرصاد الّتي نقوم بها سواء في النّماذج الفيزيائيّة أو الجّويّة أو الاجتماعيّة والإنسانيّة؟ وهل معرفتنا الإنسانيّة الّتي كنّا نحصّلها على مدى قرون عديدة وسفكت لأجلها بحار من الدّماء هي معرفة يقينيّة مطلقة أو هي معرفة تعتمد على قدر معيّن من الدّقة؟ والكثير من الأسئلة المطروحة على طاولة الحوار العلميّ المعاصر في النّدوات والمعامل والمختبرات العلميّة التّي تتناول موضوع جدليّة الشّواش والنّظام في كافّة مجالات المعرفة.
فضّلت البحث في هذا الموضوع الهامّ جداً الّذي يعدّ من المواضيع الّتي لم تتناولها أبحاثنا وتفتقر لها مكتباتنا ودوريّاتنا، لذلك كان لهذا الموضوع من الأهميّة ما يجعله مدخلاً إلى البحث عن مدى صحّة معرفتنا وعلومنا الّتي نعتمد في تحصيلها ككائنات واعية على آلات معيّنة للقياس، ونراهن على صحّة ودقّة المعطيات الوافدة إلينا من وراء العدسة أو أيّ مقياس آخر. ولعلّ أهّمية هذا الموضوع لا تتوقّف عند مدى صدق معلوماتنا أو كذبها، إنّما ترسم لنا خطوطاً عريضة نسير عليها لنصل إلى أقصى درجة ممكنة من اليقين والدّقّة؛ في العلوم الطّبيعيّة والإنسانيّة والأدبيّة والاجتماعيّة وغيرها.
ففي القسم الأوّل سوف نتعرّف على مفهوم الشّواش وسنورد لمحة تاريخيّة مبّسطة عن بروزه كعلم.
أمّا في القسم الثّاني فسنتحدّث عن فلسفة الحتميّة الّتي هي مفهوم أساسيّ في علوم الفيزياء المعاصرة، والّتي يرى أنصارها أنّ لكلّ سبب نتيجة خاصّة به.
وفي القسم الثّالث سوف نتعرّف على الشّروط الأوليّة والمبدئيّة لكلّ منظومة فيزيائيّة، وكيف أنّ قوانين الفيزياء ترجع إلى قياسات أيّ نظام فيزيائي، مستخدمة رابطة مفترضة بين السّبب والنّتيجة، حيث أنّ الشّروط الأوليّة هي حجر الأساس لوضع أيّ تنبّؤات وتوقّعات مستقبليّة.
وفي القسم الرّابع سوف نتعرّف على اللّايقين في القياسات الّذي هو بدوره مبدأ علميّ ومنطقيّ يقول بأنّه لا يمكن أن يوجد أيّ قياس نهائيّ ودقيق بشكل مطلق.
وفي القسم الخامس سوف نرى كيف أنّ الحتميّة، والشّروط الأوليّة، والّلايقين في القياس سوف يفسح المجال لبروز عامل هامّ جداً في المنظومة وهو ما يسمّى (الارتياب الدّيناميكي) الّذي هو بدوره من أكثر الاصطلاحات الفيزيائيّة ترادفاً مع مفهوم الشّواش.
وأخيراً، في القسم السّادس من البحث سوف نستعرض كيفيّة نشوء الأنظمة والنّماذج الرّتيبة عن الشّواش.
أرجو أن يجد القارئ المتعة والفائدة في هذا البحث الذي نقدّمه بتواضع بين يديه، والّذي يتحّدث عن أهمّ المسائل في العلم في الوقت الحاضر.
1)- ما الشّواش1؟ What is Chaos

إنّ كلمة الّشّواش في الفيزياء هي كلمة تخصّصيّة يستخدمها العلماء فيما بينهم، ومصطلح (الحركة الشّواشيّة / الفوضويّة / العشوائيّة) يحمل معنى الاهتياج والقلقلة في نظام فيزيائيّ مرصود غير متماسك أثناء عمليّة الرّصد. كما أنّ الشّواش يمكن أن يظهر ويتطوّر في نموذج يبدو شديد الانتظام والتّماسك. وبمعنى آخر، فالشّواش يعود في الأصل إلى نظام ما سواء كان ممكناً أم غير ممكن وضع أي تنبّؤ دقيق وبعيد المدى لهذا النّظام.
وقد يبدو الشّواش كامناً في قلب المنظومات الفيزيائيّة التّي ندرسها على أساس من الدّقّة واليقين، حيث أنّها تظهر لنا متماسكة ورتيبة بشكل كامل. إلاّ أنّها تنطوي على قدر من الفوضى الّتي تشوّشها في صميمها.
خلال أربعة قرون مضت كانت قوانين الفيزياء قد عكست ترابطاً وثيقاً ومتكاملاً بين مفهوميْ النّتيجة والسّبب في الطّبيعة، وظلّ الأمر على حاله هذه حتّى وقت قريب. حيث كان من المفترض أنّه من الممكن وضع تنبّؤ دقيق وبعيد المدى لأيّ نظام فيزيائي. وقد كان كافياً أن يعرف أيّ شخص الشّروط الأوّليّة حتّى يتمكّن من معرفة النّتيجة الحتميّة لهذا النّظام وبشكل دقيق تماماً. ولكنّ اكتشاف المنظومات الشّواشيّة منذ حوالي المائة عام كان قد حطّم هذه الفكرة بشكل مخيف، حيث هزّ هذا الاكتشاف كيان المذهب الحتميّ وأصابه في الصّميم.
كان لاكتشاف النّظام الشّواشي في الفيزياء وقع كبير في الأوساط العلميّة، إلّا أنّه لاقى استهجاناً من قبل عدد كبير من العلماء شأنه شأن أيّ اكتشاف جديد هائل سابق على عصره. ولكنّ توالي الاكتشافات وتطوّر أجهزة القياس ساعدا على إثبات وجهة النّظر هذه.
فلنتعرّف على المفاهيم الأساسيّة المرتبطة بالشّواش .
2)- فلسفة الحتميّة: Philosophy of determinism

فلسفة الحتميّة هي عبارة عن مذهب فلسفيّ يرى أنّ كلّ ظاهرة هي نتيجة حتميّة لحادث أو فعل ما مسبق كان هو السّبب في حدوث هذه الظّاهرة. وبالتّالي، فإنّ كلّ منظومة أو حدث يمكن التنبّؤ بنتائجها في المستقبل - من حيث المبدأ على الأقلّ - وبشكل دقيق كلّ الدقّّة، وذلك من خلال الرّجوع إلى الماضي، أي إلى عواملها الأوّليّة والمبدئيّة.
وكما هو شأن الاعتقاد بالعالم المادّي، فإنّ جذور الحتميّة ترجع إلى عهد الإغريق القدماء قبل آلاف السّنين. وقد أدمج هذا المصطلح في العلم الحديث منذ القرن الخامس عشر، حيث تزامن مع بروز فكرة السّبب ¬ النّتيجة، وقد صار هذا المبدأ يسيطر ويتحكّم بشكل كامل بكافّة البنى والأنظمة في العالم المادّي. وحسب النّموذج الحتميّ في العلم، فإنّ الكون قد تمدّد مع الزّمن كآلة ميكانيكيّة تعمل بشكل متكامل، وبدون أيّ شكل من العشوائيّة والفوضى أو خروج عن القوانين الحتميّة الدّقيقة التّي تسيّره.
وقد كان إسحق نيوتن هو الشّخص الأكثر شهرةً في هذا المجال منذ تأسيس فكرة الحتميّة، فقد عاش في لندن منذ حوالي 300 سنة وكان قد اكتشف مجموعة من القوانين البسيطة والواضحة حيث وضعها في جمل صغيرة ووجيزة. وكان يعرض من خلال قوانينه هذه إمكانيّة التنبّؤ الدّقيق بالحركة ضمن مجموعة كبيرة من المتغيّرات الواسعة في نظام معيّن، وهذه التنبّؤات تكون على درجة مطلقة من الدّقّة واليقين. وقد أثبت نيوتن من خلال قوانينه الثّلاثة في الحركة أنّه بعمليّة حسابيّة منطقيّة بسيطة يمكن التنبّؤ بتوقيت حركة الكواكب السّيّارة حول الشّمس، ومسار حركة قذيفة على الأرض، ووضع جدول دقيق لحركات المدّ والجزر في المحيط على طول أشهر السّنة، وهذه بين أشياء كثيرة.
وبهذا فإن قوانين نيوتن هي قوانين حتميّّة ذات طابع جبريّ ومطلق؛ لأنّها تدلّ على أنّ أيّ شيء يمكن أن يحدث في المستقبل فهو يعتمد بشكل نهائيّ وحتميّ على ما يحدث الآن في الحاضر. وعلاوة على ذلك فإنّ كلّ شيء يحدث الآن في حاضرنا هذا فهو يرجع بالضّرورة على ما حدث في الماضي. ولذلك فقوانين نيوتن كانت ناجحة وعمليّة لعدّة قرون تلت بعد اكتشافه إيّاها، وعلم الفيزياء بدوره يحتوي على مجموعة واسعة من الشّروحات والإيضاحات عن كيفيّة حساب أيّ حركة مرصودة من خلال قوانين نيوتن. كما أنّ هذه القوانين النيوتونيّة كانت قد حلّت محلّ عدد كبير وضخم من القوانين الفيزيائيّة وذلك حوالي العام 1900، وبهذا فإنّ بقايا مذهب الحتميّة اليوم هي الفلسفة الأساسيّة والهدف النّهائي الذّي تسعى إليه العلوم الفيزيائيّة.
3)- الشّروط الأوليّة: Initial conditionsإنّ إحدى أهمّ الأفكار الثّوريّة الّتي وضعت في القرن الخامس عشر والّتي قام على أساسها العلم الحديث، هي فكرة أنّ قوانين العالم المادّيّ يمكن فهمها بشكل جيّد فقط عندما تعبّر عن الخاصّيات الفيزيائيّة باعتبارها مجرّد قياسات تخمينيّة، وذلك من خلال رموز عدديّة وليس من خلال الكلمات فقط. فاستخدام مقادير كمّيّة عدديّة لوصف العالم المادّي هو السّبب الرّئيسي في أنّ قوانين الفيزياء يجب كتابتها على شكل معادلات رياضيّة بشكلها النّهائي. وليس باعتبارها جمل لغويّة وكتابيّة بسيطة. ومثال ذلك أنّه من الضّروري جدّاً صياغة قوانين نيوتن كمعادلات رياضيّة بالرّغم من أنّها وضعت كجمل بسيطة.
قد تكون قوانين نيوتن من أهمّ الأمثلة عن القوانين الدّيناميكيّة، حيث أنّها تربط القيم الكمّيّة والعدديّة للقياسات المرصودة في أوانها بقيمها التّي رصدت في الزّمن الماضي للمنظومة أو في المستقبل. فالقياسات التّي تظهر في قوانين نيوتن تعتمد بشكل أساسيّ على نظام دقيق كان قد رُصد من قبل، ولكنّها تتضمّن الموضع، والسّرعة، واتّجاه حركة كافّة الجسيمات في النّظام بشكل نموذجيّ أكثر بغضّ النّظر عن سرعة واتّجاه أيّ من هذه الجسيمات، وفي أيّ وقت من أوقات رصد النّظام. وأثناء تسجيل القياسات المرصودة لأيّ نظام (وليكن النّظام الشّمسي، أو الأجسام القادمة السّاقطة من السّماء إلى الأرض، أو تيّارات المحيطات والبحار،...) فإنّ قيم القياسات الأوّليّة التّي تأتي في المرحلة الأولى من عمليّة الرّصد تدعى (الشّروط الأوّليّة) لذاك النّظام.
نلاحظ أنّ قوانين نيوتن الفيزيائيّة هي قوانين تمتاز بالطّابع الحتميّ، كما هو الأمر في القوانين الميكانيكيّة، لأنّها تتمتّع بنزعة حتميّة لأيّ نظام مدروس، وشروطها الأوّليّة ينتج عنها نفس النّتائج المنطقيّة المطابقة لها. فالنّموذج النّيوتوني للعالم غالباً ما يصف الكون على أنّه شبيه بطاولة البليارد، لذلك فإنّ أيّ نتائج تنتج عن الشّروط الأوّليّة لمنظومة ما هي ذات طابع حتميّ، مثل الفيلم الّذي يمكن التّحكّم بسيره في الزّمن إلى الأمام أو إلى الخلف.
أظنّ أنّ لعبة البليارد هي لعبة مفيدة جدّاً في طريقة لعبها، لأنّه ضمن النّطاق الميكروسكوبي (المصغّر) فإنّ حركة الجزيئات يمكن تشبيهها في تصادمها مع بعضها البعض، بكرات البليارد، والقوانين الميكانيكيّة الّتي تحكم كرات البليارد هي ذاتها الّتي تحكم الذّرّات والجزيئات.
4)- الّلايقين في القياس: Uncertainty of measurementsإنّ أهمّ المبادئ الأساسيّة في الفيزياء التّجريبيّة المعاصرة هو عدم وجود أيّ نتائج أو تنبّؤات أو توقّعات دقيقة ومطلقة بشكل كامل. ولكن عوضاً عن ذلك يجب أن تكون هذه التّوقّعات والنّتائج متضمّنة أفضل درجة من الدّقّة واليقين، وذلك لأنّ اّللايقين سيبقى متخلّلاً هذه النّتائج بنسب متفاوتة. وهذا الّلايقين في القياس يعني أنّ أيّ آلة للرّصد مهما بلغت دقّتها وتعقيد صناعتها، فبإمكانها أن تسجّل القياس بدقّة محدودة للغاية، وبشكل قد يكون فيه من الخلل ما تعجز العين المجرّدة عن تمييزه. والطّريقة الوحيدة لإدراك هذه الحقائق هي أن نفهم بأنّه لكي نحصل على أكبر درجة ممكنة من الدّقّة في القياس من خلال الآلة الّتي نستعملها هي أن نقوم بالرّصد على مسافات ضئيلة جّداً، والحصول على أرقام متناهية في الصّغر. وكلما زادت دقّة آلات القياس المستخدمة نقصت درجة الّلايقين في الرّصد باطّراد. ولكنّ المشكلة أنّنا لا يمكننا إلغاء حالة الّلايقين مطلقاً.
وفي الفيزياء، فإنّ بروز حالة الّلايقين في أيّة آلة قياسيّة أثناء القيام بعمليّة الرّصد لأيّ نظام فيزيائي، تكون الشّروط الأوّليّة عادةً غير دقيقة، ولا يمكنها أن تسجّل أيّة نتائج بدقّة تامّة. وأثناء دراسة أيّ نظام من خلال قوانين نيوتن فإنّ الّلايقين المتغلغل في الشّروط الأوّليّة لهذا النّظام المدروس يسبّب شكّاً متناظراً ومتشابهاً – ولو كان ضئيلاً جدّاً- في مدى صحّة التنبّؤ والتّوقّع لأيّ زمن كان في الماضي أو في المستقبل.
وقد بقي العلماء حتّى الآن يعتقدون أنّه يمكن تقليص حالة الّلايقين في قيم القياسات والشّروط الأوّليّة، وذلك للحصول على أفضل درجة ممكنة من الصّحّة والدّقّة واليقين في التّوقّعات والنّتائج النّهائيّة لعمليّة الرّصد. وبذلك، كما في حالة قذيفة على سبيل المثال، يمكننا أن نعرف المسقط النّهائيّ للقذيفة بأعلى درجة تقريبيّة إذا عرفنا الشّروط الأوّليّة أثناء عمليّة الإطلاق بشكل أكبر. ومن المهمّ جدّاً أن نتذكّر أنّ الّلايقين في التّوقّعات الميكانيكيّة لا يظهر في المعادلات والقوانين، على اعتبار أنّها حتميّة الطّابع، ولكنّها تنتج من الافتقار إلى الدّقّة والتّعيين في الشّروط الأوّليّة.
إنّ الهدف الأساسي في العلوم التّجريبيّة كان ومازال هو الطّموح العميق في الوصول إلى آلات للقياس أكثر دقّة وأقلّ تشكّكاً وذلك باستخدام التّكنولوجيا المتقدّمة وعلى اختلاف أشكالها. فوضوح القياسات ودقّة التّوقّعات والنّتائج المعتمدة على استخدام أدوات القياس المتطوّرة وتطبيق القوانين الميكانيكيّة سوف تصبح أكثر دقّة ووضوحاً، وستكون الأقوى في السّعي للوصول إلى النّتائج الصّحيحة واليقينيّة. ولكنّها لن تكون دقيقة بشكل مطلق أبداً... للأسف.
5)- مبدأ الارتياب2 الدّيناميكي: Dynamical Instabilitiesوالآن، وبعد أن درسنا مفهوم الحتميّة في الفيزياء، والشّروط الأوّليّة في النّظم الفيزيائيّة، ومبدأ الّلايقين في القياس، فبإمكاننا الآن دراسة مفهوم الارتياب الدّيناميكي الّذي هو بدوره مفهوم مرادف لكلمة الّشواش في الفيزياء. والارتياب الدّيناميكي هو سلوك يرجع إلى نمط خاص جدّاً لاضطّراب فيزيائيّ مرصود في زمن معيّن داخل المنظومة الفيزيائيّة. وقد صيغ هذا المبدأ في القرن التّاسع عشر على يد الفيزيائي الرّياضي هنري بوانكاريه.
كان بوانكاريه عالماً فيزيائيّاً اهتمّ بالرّياضيّات والمعادلات الرّياضيّة الّتي تصف حركة الكواكب التّي تدور حول الشّمس. حيث أنّ المعادلات الّتي تصف دوران الكواكب حول الشّمس ما هي إلّا تطبيقات لقوانين نيوتن في الحركة، ولذلك فهي تتضمّن طابعاً حتميّاً. وما دامت هذه المعادلات الرّياضيّة حتميّة، طبعاً من جرّاء معرفتنا بالشّروط الأوّليّة المناسبة - في هذه الحالة، مواقع وسرعات الكواكب السّيّارة في زمن محدّد - فإنّنا سنكتشف مواقع وسرعات الكواكب السّيّارة في أيّ زمن سواء في الماضي، أو ما ستكون عليه في المستقبل. ولكن كانت هناك حالة دائمة من الإبهام والشّكّ والغموض، مهما بلغت ضآلتها، في جميع التنبّؤات والتّوقّعات الفلكيّة التّي نستخلصها من القوانين الرّياضيّة النّيوتونيّة. وقد ظلّ الأمر كذلك حتّى حلول عصر بوانكاريه، حيث أنّ حالة الّلايقين المزعجة الكامنة في التنبّؤات والتّوقّعات الفلكيّة كانت تعتبر من المشكلات الرّئيسيّة، وذلك بسبب افتراض ضمنيّ تمّ اتّخاذه من قبل جميع الفيزيائييّن في ذلك العصر... ويقول هذا الافتراض: (أنّك إذا استطعت تقليص حالة الّلايقين الكامنة في الشّروط الأوّليّة - ربّما باستخدام آلات بالغة الدّقّة في القياس - فإنّ أيّ غموض أو ارتياب في التنبّؤ سوف يتقلّص بنفس الطّريقة). وبعبارة أخرى، عندما نزيد من مقدار الدّقّة ضمن المعطيات والشّروط الأوّليّة في القوانين النّيوتونيّة، فإننا نحصل على نتائج أكثر دقّة وصحّة في التّوقّعات المستقبليّة.
لكنّ بوانكاريه كان قد لاحظ أنّ هناك عدّة أنظمة فلكيّة لا تخضع للقانون الذّي يقول: (كلّما قلّت كمّيّة الشّروط الأوّليّة، أدّى ذلك إلى تقليص كمّيّة التّوقّعات المستخلصة بطريقة متساوية). وعندما قام بوانكاريه بتحليل المعادلات الرّياضيّة وجد أنّه حتّى الأنظمة الفلكيّة البسيطة تخضع لقانون (تقليص ــ تقليل) للشّروط الأوّليّة والنّتائج المستخلصة النّهائيّة، وهناك أنظمة أخرى لا تخضع لهذا القانون.
أمّا الأنظمة الفلكيّة التّي لا تخضع لهذا القانون (تقليص ــ تقليل) فإنّها تتكوّن من ثلاثة أو أكثر من الأجرام الكوكبيّة متفاعلة فيما بينها بشكل نموذجيّ. ومن اجل أنواع كهذه الأنظمة، فقد رأى بوانكاريه أنّ هناك تشويشاً وفوضى بالغة الصّغر ضمن الشّروط الأوّليّة سوف تتزايد مع الزّمن وبدرجة هائلة. وقد أثبت بوانكاريه أنّ هذا التّشويش، وهذه الفوضى بالغة الضآلة، الكامنة في الشّروط الأوّليّة سوف تبقى حتّى ولو تقلّصت الشّكوك والّلايقين إلى أصغر حجم يمكن تخيّله. وهكذا في مثل هذه الأنظمة - حتّى لو تمكّنّا من تعيين القياسات لآلاف المرّات، بل لملايين المرّات - فإنّ حالة الّلايقين لن تتناقص في المستقبل، بل ستبقى ولكن بنسب متفاوتة.
وقد حاول بوانكاريه إثبات أنّ هذه “الأنظمة المعقّدة” هي الطّريقة الوحيدة لتحقيق النّتائج المرجوّة مع أكبر درجة ممكنة من الدّقّة. وسوف يستلزم تعيين الدّقّة في الشّروط الأوّليّة إلى توقّعات ضخمة وغير محدودة. وأيّ غموض أو تشويش - مهما بلغت ضآلته - ضمن هذه الأنظمة الفلكيّة التّي تكلّم عنها بوانكاريه سوف ينجم عنه - بمرور الوقت - نوع من الارتياب الّذي قد يكون من الصّعب جدّاً قياسه في صلب التنبّؤات الحتميّة. وقد أطلق على هذه الحساسيّة المفرطة تجاه الشّروط الأوّليّة اسم (الارتياب الدّيناميكي)، أو ببساطة (الشّواش / Chaos).
ولأنّ التنبّؤات الرّياضيّة بعيدة المدى التّي تصف المنظومات الشّواشيّة لم تعد أكثر دقّة من الصّدفة العشوائيّة، فإنّ معادلات الحركة لا تستطيع أن تقدّم سوى توقّعات قريبة المدى مع درجة ضئيلة من الدّقّة واليقين.
لقد عدّ عمل بوانكاريه عملاً هامّاً في ذلك الوقت من قبل بعض الفيزيائييّن النّظرييّن، وقد تطلّب مضيّ العديد من العقود قبل اكتشاف المضامين الحقيقيّة لهذه الاكتشافات من قبل المجتمع العلميّ... والسّبب الأساسيّ هو الاكتشافات العديدة التّي حققّها عدد من الفيزيائييّن ضمن مجال جديد في الفيزياء يدعى (الميكانيك الكمومي*).
6)- مظاهر الشّواش3: Manifestations of Chaosعندما اكتشفت ظاهرة الشّواش اعتبرت هذه الظّاهرة شذوذاً رياضيّاً، وبعد عقود من تحقيق هذا الكشف الكبير، اكتشف الفيزيائيون أنّ السّلوك الشّواشيّ منتشر بشكل كبير جّداً في الطّبيعة، حتّى أنّهم اعتقدوا أنّ الشّواش هو سمة من سمات الكون. وكان أحد أكبر الاكتشافات في هذا المجال قد حدث على يد عالم الأرصاد الجوّيّة إدوارد لورينتز الّذي وضع برنامجاً رياضيّاً حاسوبيّاً لدراسة نماذج مبسّطة لحالة الطّقس. وقد درس لورينتز بالتّحديد كيفيّة صعود وهبوط تيّارات الهواء عند تسخينها من قبل الشّمس.
تضمّن برنامج لورينتز الرّياضي معادلات تتحكّم بتدفّق التّيّارات الجوّيّة، في حين أنّ قوانين البرنامج كانت تعمل بطريقة حتميّة. وقد اعتقد لورينتز أنّه بإدخاله ذات قيم الشّروط الأوّليّة في كلّ مرّة في الحاسوب فإنّه سيعطيه نفس النّتائج التّي أعطاه إيّاها في المرّة الأولى. ولكنّ الذّي حدث أنّه كان يحصل على نتائج مختلفة في كلّ مرّة، وبعد تمحيص دقيق اكتشف لورينتز أنّه لم يكن يدخل ذات القيم في الحاسوب، بل كانت تختلف من مرّة إلى مرّة بتفاصيل دقيقة جّداً. ولم يلاحظ لورينتز أنّ قيم الشّروط الأوّليّة التّي كان يدخلها مختلفة لأنّ التغيّرات فيها كانت ضئيلة للغاية، لدرجة تعتبر أنّها ميكروسكوبيّة وغير هامّة حسب المعايير المعتادة.
لقد درست البنى الرّياضيّة للنّماذج الجوّيّة التّي وضعها لورينتز في السّبعينات من القرن الماضي، وكان معروفاً أنّ أيّ تفاوت بسيط وغير ملحوظ بين قيم شرطين أوّليّين سينجم عنه اختلاف كبير جدّاً -عاجلاً أو آجلاً - في النتّائج المترتبّة عنها. وطبعاً، هذه هي السّمة الأساسيّة والمميّزة للمنظومات الشّواشيّة.
يعتقد علماء اليوم أنّ الطّقس عبارة عن منظومة شواشيّة - على غرار برنامج لورينتز الإلكترونيّ - وهذا يعني أنّه لكي نضع توقّعات جوّيّة بعيدة المدى وبأفضل درجة ممكنة من الدّقّة واليقين، فإنّ علينا أن نأخذ بعين الاعتبار عددا غير محدود من القياسات، حتّى ولو فرض علينا هذا أن نملأ الغلاف الجوّيّ بعدد هائل من أجهزة القياس: مقاييس الحرارة، مقاييس سرعة الرّياح، مقاييس الضّغط الجوّي... ولكن الارتياب والمتغيّرات سوف تظهر منذ اللّحظة الأولى ضمن القيم الأوّليّة التّي جمعت من آلات القياس الموزّعة على شكل مصفوفات في كافّة أرجاء الغلاف الجوّيّ. ولأنّ الغلاف الجوّيّ ذو طبيعة شواشيّة في الأساس، فهذه المتغيّرات الارتيابيّة - مهما بلغت ضآلتها- سوف تطغى على أيّ قياس وتعمل على تشويش النّتائج وتسقط عنها الدّقّة واليقين.
غالباً ما يطلق على هذا المبدأ ضمن مجال الأرصاد الجوّيّة بــ “تأثير الفراشة*”، وينصّ هذا المبدأ على أنّه لو رفّت فراشة بجناحيها في قسم ما من العالم، قد ينتج عن هذه الرّفّات في غضون سنة أعاصير وعواصف هائلة في الجهة المقابلة من العالم. وبذلك تكون التّوقّعات الجوّيّة قريبة من الدّقّة فقط عندما تكون على المدى القريب حسب المبدأ السّابق4. أمّا التّوقّعات ذات الطّابع بعيد المدى، فلن تكون أكثر من مجرّد توقّعات محكومة بالصّدفة في أحسن الأحوال، حتّى ولو كانت موضوعة من أكثر العقول الإلكترونيّة تعقيداً.
الظّاهر أنّ وجود الأنظمة الشّواشيّة في الطّبيعة قد حدّ من قدرتنا على تطبيق القوانين الفيزيائيّة للحصول على تنبّؤات دقيقة، فاكتشاف الشّواش دلّ على أنّ صفتي الفوضى والعشوائيّة كامنتان في قلب النّماذج الكونيّة التّي نعتقد بأنّها حتميّة وجبريّة. وبسبب هذه الحقيقة، بدأ العلماء بالتّساؤل عمّا إذا كان القول بوجود نظام حتميّ للكون له أيّة معنى.
يبقى هذا التّساؤل قائماً ومفتوحاً على مصراعيه، ولكنّه سيقدّم الأجوبة للعلماء - ولو حتّى جزئيّاً - عن كيفيّة عمل الأنظمة الشّواشيّة. وأحد أهمّ الجوانب في مجال دراسة هذه الأنظمة هو ما إذا كان الشّواش يخلّف نظاماً ونماذج رتيبة في الشّكل العامّ. وقد اعتقد علماء الفيزياء المعاصرة أنّ الشّواش - الفوضى التّي تعمل ضمن القوانين الحتميّة والجبريّة ضمن المجال الميكروسكوبي - هو أمر ضروريّ جدّاً وأساسي لبروز النّماذج الفيزيائيّة المنتظمة في الشّكل العامّ. ويعتقد بعض العلماء في الوقت الحالي أنّ وجود الشّواش في الفيزياء هو الذّي يعطي الكون “سهمه الزّمني”*، الّذي هو سريان غير معكوس للزّمن من الماضي باتّجاه المستقبل.
الخاتمة:دخلت دراسة الشّواش في الفيزياء القرن الحادي والعشرين، ومازال التّساؤل قائماً هل للكون خصائص حتميّة وجبريّة، وستبقى على هذه الحال بلا شكّ، حتى ولو فهمنا المزيد والمزيد عن طريقة عمل المنظومات الشّواشيّة. ولعلّ دراسة الشّواش ستكون الطّريق لفهم مكوّنات معرفتنا البشريّة التّي أُزهقت من أجلها ملايين بل مليارات الأرواح، وسيكون الشّعلة المنيرة لفهم تعقيدات المعرفة البشريّة والعقل البشريّ، بل ولفهم ذاتنا الإنسانيّة وما نحن عليه في الحقيقة.
عن موقع:http://order.ph.utexas.edu/chaos
http://www.alawan.org/ما-الشواش؟.html


وموضوع النظم الشواشية المعقدة يدل على عدم وجود "حتمية" قابلة للتوقع مطلقاً وفق مفهوم الحتميات الفلسفية ، و يجب التركيز في مفهوم الاختزالية وكيفية يفكر الاختزاليون حتى يثبتون الحتمية. 

أنقل لكم جزءاً من بحث في نفي الحتمية على طريقة الاختزاليين، أي أن معرفة كل الأسباب ستؤدي إلى معرفة كيف سيتصرف النمل. الصورة في الأسفل تظهر عش النمل في اعادة هيكلة له كي نعرف مدى تعقيده.


مستعمرات النمل الحاصد تتكون من الملكة والنمل العامل. يتخصص النمل العامل كالآتي:
البعض يبحث عن الطعام، والبعض الآخر يحمل النفايات بعيداً، ويبقى بعضٌ آخر يحمل النمل الميت بعيداً عن المستعمرة. والنمل المسؤول عن نقل الموتى فإنها تدير بشكل اختصاصي إيجاد موقع ركام النفايات والمدفن في نقاط تزيد المسافة إلى حدها الأقصى بين المدفن وكتلة النفايات، وبين المستعمرة نفسها وكتلة النفايات والمدفن.
تظهر مستعمرات النمل شكلاً من التصرف الذكي: إذا تم إزعاج المستعمرة، فإن العاملات بالقرب من الملكة يحملنها إلى فتحة هروب. تتحقق مستعمرة النمل في الحقل من أقصر مسافة بين مصدر الطعام وتقوم بتقسيم أولوية مصادر الطعام حسب سهولة الوصول لتلك المصادر. وفي استجابة لتغير الظروف الخارجية، فإن النمل العامل يتغير من تخصص لآخر.
تُفسَّر قدرة النمل على تغيير وظيفته بواسطة إشارات كيميائية تسمى الفرمونات. فاستقرار المستعمرة في تكييف مواقع المهمات حسب حجم المستعمرة ومصدر الطعام يعتمد على ما يصفه Deborah Gordon قدرتهم على "اجراء نوع ما من العينة الإحصائية للتعداد السكاني العام للمستعمرة، بالاعتماد على تفاعلاتهم العشوائية مع النمل الآخر." وعلى سبيل المثال، "فالنمل الباحث تتوقع أن تقابل ثلاث أو أربع نملات في الدقيقة – وإذا تفاعلت مع أكثر من ثلاث نملات، فربما ستتبع القاعدة أنها يجب أن تعود للعش."
تتطور المستعمرات مع الزمن، فقد تعمر حتى 15 سنة، وهو عمر الملكة، بالرغم من أن النمل العامل يعيش سنة واحدة. وكذلك فإن المستعمرة تمر بمراحل: المستعمرات الشابة تكون أكثر تقلباً وعدائية من المستعمرات الأقدم. تظهر المستعمرات الخواص التالية للنظم المعقدة المتكيفة:
المستعمرة محددة ولكنها ليست مغلة، ولها نمط معايرة ذاتي، ولها درجة استقلالية عالية وجهاً لوجه مع البيئة. وتظهر المستعمرة خواصاً طارئة شاملة: فهي مستقرة نسبياً، والذكاء يظهر في وضع ركام النفايات والمقبرة، والقدرة على تقسيم مصادر الطعام حسب الأولية. للمستعمرة تنظيم ذاتي يعمل على المعلومات. وتغيّر في "مواقف" المستعمرات خلال الزمن من التقلّب والعدائية إلى درجة أعلى من الاستقرار يعكس نزعة موجودة في كل النظم المعقدة للبقاء في أنماط أكثر استقراراً.
التغير في المنظور المطلوب من مقاربة النظام يكون في رؤية أجزاء المستعمرة كمجموعة من الأنظمة الفاعلة المترابطة داخلياً – ليس ملكة مع النمل الباقي، ولكن كمنظمة من العمليات مثل التوالد، والبحث عن الطعام، وبناء العش. وهي تنتج وتحافظ على نظامها الفاعل عن طريق العلاقة بين النمل والتي تحددهم للوفاء بأدوارهم من البحث عن الطعام، وبناء العش وما إلى ذلك.
هناك بعض القيود الحساسة للسياق والتي تسبب سلوك النمل تجاه النمل الآخر بطريقة تتأثر بحساسية بالتاريخ و تتأثر بالمستوى الأعلى من السياق المنظم. من وجهة النظر هذه، فإن القوانين المزروعة جينياً في الجهاز العصبي للنمل لا يمكن فهمها بالقوانين السببية، فهنّ مستقبلات للمعلومات التي تخص أموراً مثل الكثافة السكانية للباحثين عن الطعام. خاصية شاملة للنظام – كثافة الباحثين عن الطعام – تزيد احتمالية أن تتفاعل إحدى النملات الباحثات عن الطعام مع أكثر من ثلاث نملات باحثات بالدقيقة، وبهذا فإن احتمالية عودة النملة للعش تزداد. والقيد على هذا التصرف، أي تصرف النمل، لا يعد قيداً جبرياً.
افترض الاختزاليين أن إذا عرفنا موضع كل النمل، آثار الفرمونات، وطريقة التشابك العصبي للنمل، فإن تصرف المستعمر يمكن أن يكون قابلاً للتوقع. في هذه النقطة، فإن هذا الأمر يجب أن ننظر له بالكاد كفرضية. ومع ذلك، حتى إذا كان هذا صحيحاً، أي علمنا بتلك الأمور، فإن الاختزاليين لا يمكنهم الشرح، حسب المعطى التالي أن لا تماثل يوجد أبداً بين أي نظامين معقدين (مثل مستعمرتي النمل)، لا يمكنهم شرح لماذا في هذه الحالة وابتداءً من ظروف أولية متنوعة بكثرة، لماذا نجد أن انماطاً متشابهة ً قد نشأت. إن العالم مليء بمثل هذه الظواهر، وقد تم الاعتراف بهذه الحقيقة، ولكن هذا الأمر عكس ما يبدو صحيحاً في عملية نشوء الأنظمة من الأبسط للمعقد. إن حقيقة وجود سلوكيات نمطية في درجات التنظيم العليا في الطبيعة ووجود الأنماط المستقرة بدلاً من الاختلالات، وبالرغم من مكونات النظم المعقدة، تدعو إلى زحزحة الإطار الفكري في كيفية فهمنا للعالم. 


الخلاصة الِعلمية:
  1. لا يمكن التنبؤ بشكل حتمي بمسارات الطبيعة. 
  2. فكرة الاختزاليين بعيدة عن الصحة. 
  3. القانون محكوم وفق قوانين لا حتمية. 
  4. العالم مترابط ومتصل، ويؤثر بعضه في بعضه الآخر.
وهذا ما وافقني فيه العالم جيم خليلي من مقالي السابق حيث نقلت رأيه ويقر فيه بوضوح أن الحتمية ليست موجودة فيقول:

هكذا وبفضل نظرية الفوضى نحن نملك ارادة حرة. افعالنا وقراراتنا تحدد اي من الاحتمالات الانهائية التي ستحصل لنا في المستقبل. ان نظام عمل ادمغتنا المعقد يجعل من عدم التنبؤ امراً لا مفر منه مع كل عمليات الفكير , الذكريات , والحلقات التي تربط بينها وبتغدية راجعة, كل ذلك يعطي لنا ارادة حرة.
سواء كانت هذه الحرية حقيقية ام مجرد زيف ووهم, فانك لا تستطيع ان تتنبأ على الامد البعيد بطريقة عمل الدماغ بسبب ما ذكرناه من تعقيد. هذا بفرض ان عمل الدماغ يخضع لحتمية مطلقة اما في حال كان بعض نشاط الدماغ يخضع لقوانين ميكانيكا الكم فالامر سيكون اكثر تعقيداً مما تناولناه.


طبعاً موقف جيم خليلي هذا تم اعتباره على أنه موقف خاطئ:

Jim Al-Khalili mistakes unpredictability for free will


ملاحظة: ناقد كلام جيم خليلي من الاختزاليين فهو يعتبر النظم الفوضوية قابلة للتنبؤ ولكننا لا نعلم كفاية. النظم الفوضوية غير قابلة للتنبؤ بذواتها.

ولكن جيم خليلي وضح بشكل مبطن أن الحتمية التقليدية مرفوضة، وأقول أن وجود نظام ديناميكي مثل النظام لدى النمل الذي يسعى دائماً إلى مصلحته لا يتعارض أبداً مع الإرادة الحرة أو الاختيار، بل يوضح أن لدينا أموراً نحن نستطيع اختيارها ومع ذلك لا نختارها. القدرة على الاختيار هي قدرة على تمييز الأفضل واختياره، وليس الاختيار فقط. طبعاً ما يدعم كلامي من داخل المقال المترجم للنمل: أن جينات النمل مبرمجة مسبقاً لتتصرف هكذا. 

الفكرة من وجود نظام عشوائي عفوي قادر على اتخاذ القرار وفق الخوارزمية المزروعة فيه تفيد الحرية لا الجبر. نعم نحن مجبورون على الاختيار والذكاء إن صح القول. الإنسان يستطيع الاختيار وفق المعطيات الأولية التي تتحكم به: دين، اخلاق، احتياجات جسدية، احتياجات اجتماعية، الخ. 

ومن المبالغات التافهة للتطوريين: وجود ورم بالدماغ يؤدي لسوء السلوك، طبعاً هذا مفهوم عززوه بالتقارير مثل هذا الشخص الذي يريد ان يعتدي على الأطفال:
وظهر أن ورماً في عقله سبب هذا الأمر.
يجب أن نميز بين الشخص المريض والشخص المضطرب، وليس كل مضطرب هو مريض، فالمضطرب تعرض لظروف تربوية جعلته  يستجيب لضعفه ورغباته أكثر، مما أدى به لسلوكيات معينة عكس المريض الذي يتصرف بطريقة لا واعية! فالمجنون يختلف عن المصاب بالاكتئاب. لا يمكن المقارنة بين مغتصب اطفال يخطط ويحاول تنفيذ مخططه وهو يعلم بجرمه، ولا شيء غير طبيعي بعقله، بمن أصيب بمرض في عقله. والسؤال الذي أريد طرحه على دعاة رفض الحرية: 

هل المجتمع مجبور على التخلص من المسيء وإصلاحه؟ ولماذا نشأ نظام القيم؟ طبعاً لا جواب سوى أن له فائدة تطورية ونحن قد نقضنا التطور جملة وتفصيلاً سابقاً.

عِلمياً لا يمكن التنبؤ بتصرفات الإنسان فهل للحتمية وجود؟ مجرد نفي الحتمية يفتح الباب أمام الإرادة الحرة والاختيار المجال للنقاش. ولا يخدعنكم أحدٌ ويقول التنبؤ بقرارات العقل ممكن، لأن هذا مبدأ الاختزاليين. فالعقل ليس نظاماً مغلقاً على نفسه، وهو يشبه بذلك النمل. نعم هناك احتمالية أعلى من الأخرى، وليس تحديداً مطلقاً. 
في أي نقاش يجب أن نتفق: هل الحتميات موجودة؟ هذا هو أساس أي نقاش يخص الإرادة الحرة. 
فإن اتفقنا على أن الحتمية غير موجودة، يتحول النقاش إلى: هل الإنسان قادر على ضبط تصرفاته؟ 

الجواب وببساطة: نعم، ونعم قوية. لماذا توجد مدارس لتصحيح وعلاج السلوك؟
اتمنى ممن ينفي وجود أي شكل للقدرة على الاختيار أن يجيبني.
كل من يعترضون سيكون اعتراضهم ببساطة: نحن لم نختر شيئاً من ظروفنا. وبهذا فإن حجتهم ستنهار على نفسها ولا دليل لهم على وجود الحتمية حقيقة أبداً.



إن مشكلة الملحد والمتشكك هي التسليم للمنطق والواقع، فكليهما يحاولان أن يؤسسا فكرة قائمة على أسس معينة لنقض الأخلاق والقيم وبالتالي نقض الأديان، ولم أجد مواضيع تعرضت للنقد مثل موضوعي مصدر الأخلاق والشرائع، وحرية الاختيار.
نعم إن اختيارنا يتأثر بمجتمعنا وقيمه وخلفيتنا المعرفية، ولكن هل هذا بحده يجعل اختيارنا خاضعاً لمعيار جبري ويجعله متوقعاً؟ فهل تربية طفل في مجتمع مسلم لا يجعله يزني لاحقاً؟ أم هل تربية طفل في مجتمع غربي تجعله ملحداً بالضرورة؟ هناك كثير من النماذج التي غيرت سلوكياتها واختارت نهجاً آخر. لسبب أو لآخر، فالملاحدة دائماً يحاولون تتفيه الأمر وجعله عبارة عن حتميات حتى يقللون من قيمة العمل والتغيير الذي اختاره الإنسان وبالتالي بالتقليل من القيمة الأخلاقية للأديان.


يتقافز الملحدون وبعض المسلمون وكثر آخرون حول مفهوم: حرية الإرادة، الإنسان مسيَر أو مخيَر، الإنسان مُجبَر أو مفوّض. وحسبما قرأت فإن هذا المفهوم يعتبر واحداً من أكثر المواضيع التي شغلت البشرية. وسأقدم مقدمة بسيطة مما تسعفني به الذاكرة حول أصول المشكلة حسب فِهمي الشخصي لها. نسأل الله التوفيق والسداد في مسعانا هذا. بسم الله نبدأ. 

أصل المشكلة:

برأيي أن أصل المشكلة من وجهة نظر مادية: تساؤل بشري مفاده: هل أنا سيد نفسي؟ هل أملكها؟ هل أستطيع أن أتحكم بظروفي؟ وللإجابة عن هذا السؤال فهناك توجهان مختلفان في الأصول ومرتبطان في النتيجة، هذان الأصلان هما:
1 - الديني. 
2 - المادي. 

كلاً من المتدين والمادي يرميان بعبء الحياة على الغيب، فالمادي فرماها على الظروف والتعقيد وقال "لا دخل لي ولا ذنب لي". والديني يقول: الله خلقني والله كتب علي وهو أصلاً من خلق الخيارات والأعمال كلها محددة ومقررة سلفاً. وطبعاً المسألة تدخل في عِلم الله وقدرته والعدل الإلهي وما شابهها من قضايا، ولو أردت الإسهاب فيها لربما أحتاج إلى عشرات التدوينات والعودة للأصول والمنهج والأفكار وعرض المشكلة من جانب الجميع وأصولها الاجتماعية والسياسية وليس فقط الدينية. وفي الحقيقة كون كلامي موجه للملحدين وضد الإلحاد (كما نعلم) سأركز على الجانب المادي، لأن هذا (برأيي) أهم وأكثر نفعاً من نقاشنا في مسألة إسلامية إسلامية التي إن خضنا فيها لن ندخل سوى في تيارات المذاهب وآراء السادة المشايخ والمتكلمين! فهلمَّ بنا إلى المادية لأنها ستوفر لنا جواباً على الأقل في وجه الملحدين. 

قبل أن ندخل للمادية، يجب علينا توضيح مفهوم مهم ألا وهو: الاختزالية.  تعرّف موسوعة ويكيبيديا الاختزالية كالآتي:


الاختزالية تعني إما (أ) نهجًا لفهم طبيعة الأشياء المُعقدة عن طريق اختزالها إلى تفاعلاتٍ من أجزائها، أو إلى أشياء أكثر بساطةً أو أشياء أكثر أساسيةً أو (ب) موقفًا فلسفيًّا يعني أن أي نظام مُعقّد ليس سوى مجموع أجزائه، وأنه يمكن اختزال أي جزء منه إلى أجزاء تتألف من مُقَوّمات أساسية فردية.[1] ويُمكن أن يُقال هذا على الأشياء والظواهر والتفسيرات والنظريات والمعاني.
تعكس الاختزالية بقوةٍ منظورًا مُعينًا على السببية. وفي إطار العمل الاختزالي، تُسمى الظواهر التي يمكن تفسيرها بشكلٍ كاملٍ من حيث العلاقات بين ظواهر أخرى أكثر أساسيةً الظاهرة الثانوية (epiphenomena) (هي ظاهرةٌ ثانويةٌ تحدُث جنبًا إلى جنب مع ظاهرة أولية أو بالتوازي معها). وغالبًا ما يكون هناك تَضْمِين بألا تبذل الظاهرة الثانوية أي قوةً سببيةً على الظواهر الأساسية التي تفسرها.


وعِندما نطبّق مفهومهم على الإنسان والبيئة من حوله، فهم يصورون الإنسان كمجموعة حتمية من التفاعلات، مجموعة حتمية من السبب والنتيجة. طبعاً هذا الأمر ليس مستحدثاً، بل يعود إلى فلسفة لابلاس (عالم رياضيات) الذي استنبط هذا المفهوم العقلي من فيزياء نيوتن. فبالنسبة للابلاس إن عرفنا الظروف الأولية الخاصة بأي نظام معين، فإننا سنعرف كيف سيتصرّف مستقبلاً وبأي لحظة نريد. ولكن ومع تقدم العلوم وظهور نظرية الفوضى الرياضية والانظمة المعقدة Complex Systems تغيرت طبيعة فهمنا للعالَم، وأنقل لكم من جريدة الخليج هذا المقال الشيّق الذي يلخص لكم المشكلة بطريقة لطيفة:


خطأ صغير يسبب نتائج كبيرة
"نظرية الفوضى" تحكم نظرة العلماء للأشياءآخر تحديث:الأربعاء ,03/07/2013
إعداد: أشرف مرحلي
1/1
“إذا رفرفت فراشة بجناحيها في شرق الكرة الأرضية، فربما يؤدي ذلك لاحقاً لحدوث عواصف في غربها” .

هذه العبارة ليست مزحة لكنها نظرية رياضية علمية معروفة، فسرها العلماء بطريقتين مختلفتين، الأولى يقول إن الأحداث الصغيرة غير المؤثرة تتراكم لتحدث تأثيراً خطراً، بينما يقول التفسير الثاني إن الأحداث العشوائية التي تبدو كأنها لا تخضع لقانون محدد، ربما تكون جزءاً من منظومة أكبر لا نستوعب قوانينها لأننا نرى جزءاً ضئيلاً منها فقط .

صاحب النظرية إدوارد لورينز في عام ،1960 وأدت إلى أهم تغيير في نظرة الإنسان إلى الطبيعة منذ عصر إسحاق نيوتن .

بدأ كشف لورينز مصادفة في وقت كانت تنبؤات الطقس فيه تعتمد على الملاحظات السابقة من دون اعتبار لقوانين فيزياء الغلاف الجوي، فعندما أدخل بيانات في الكمبيوتر لمرتين متتاليتين، لاحظ فرقاً كبيراً في النتائج، وحاول فهم السبب وراء هذا الاختلاف، فوجد فرقا عشرياً في أحد الأرقام بأقل من 0001 .0 وهو ما أنتج هذا الفارق الكبير في النتائج، وأصبح هذا الخطأ ورقة علمية قدمها عام 1972 وسماها “أثر الفراشة” .

ومنذ ذلك الحين أصبح “أثر الفراشة” نموذجاً يحتذى في أي شيء يعتمد على ظروف بداياته، وربما يأخذ أشكالاً متعددة، ومن الممكن أن يتسبب في حدوث إعصار أو في منع حدوث آخر .

ومن هذا المنطلق، قال لورينز إنه من المستحيل توقع الطقس بدقة . وكانت هذه بداية نظرية الفوضى، وهي من أحدث النظريات الرياضية الفيزيائية التي تتعامل مع الأشياء المتحركة الديناميكية اللاخطية ذات السلوك العشوائي، الذي اكتسبته إما بسبب عدم القدرة على تحديد أثر الفراشة، وإما بسبب الطبيعة الفيزيائية الاحتمالية لميكانيكا الكم .

وتحاول نظرية الفوضى وضع قواعد لدراسة التنبؤات الجوية، والنظام الشمسي والنمو السكاني، ولاتزال تتحكم حتى اليوم وبعد مرور 50 عاماً، في نظرة العلماء للأشياء بداية من الطحالب الدقيقة وانتهاء بالمدارات الكوكبية .

وقبل لورينز بمئة عام، أظهر عالم الرياضيات الفرنسي هنري بوينكاريه عدم إمكانية وصف حركة ثلاثة من الكواكب، يتأثر كل منها بجاذبية الآخر، بمعادلات بسيطة، بينما أثبت زميله جاك هادامارد عدم إمكانية التنبؤ بالمسارات عبر الأسطح الحسابية المجردة، ومن ثم استحالة التنبؤ بنسق أو بنظام حقيقي، ودمج لورينز الفكرتين ليخلص إلى الكشف الذي توصل إليه .

وأراد لورينز التحقق من مدى صدق التنبؤات الجوية، فدوّن عدداً من المعادلات يصف بها حركة الهواء في الغلاف الجوي، واستخدم واحداً من أقدم الحواسيب آنذاك ليحل هذه المعادلات، وبدأ يتساءل عن سبب ظهور أشكال أكثر من غيرها على خرائط توزيع المناخ . وبعد دراسة قالب مناخي ثلاثي الأبعاد على حاسبه، لاحظ أن مسارات جزيئات الهواء تبدو كأنها تندمج معاً بمرور الوقت لتكون زوجاً من حلقات حلزونية معقدة وثنائية الأبعاد، عرف بعد ذلك باسم “نقطة جذب لورينز”، التي أثبت وجودها عدم القدرة على التنبؤ بنسق حتى وإن اتسم بسمات تنظيمية مرتبة . وعلى الرغم من اهتمام علماء المناخ بنتائج لورينز، لم يبدأ الأخذ بها في المجالات العلمية الأخرى إلا بعد مرور عشر سنوات . عالم الرياضيات في جامعة ميريلاند، جيمس يورك، وصف في السبعينات من القرن العشرين معادلة أدت أيضاً إلى نتائج غير متوقعة، وتشابه القالب الذي وضعه مع قالب لورينز في تأثره بالظروف البدئية، ويبدأ بنقطتين قريبتين من بعضهما بعضاً ثم تتباعدان، وانجذبت بمرور الوقت كل نقطة تجاه نفس عامل الجذب، وابتكر يورك كلمة “فوضى” ليصف المعادلات التي تتسم بهذه الخصائص التي تجعل من الممكن التنبؤ بها من حيث المبدأ لكن ليس على أرض الواقع .

وتطبق النظرية في مجالات متنوعة مثل التغير المناخي، وعوالم الفضاء، وعالم الحيوان .

وفي مجال التغيرات المناخية، وحتى مع استخدام الحواسيب المتطورة، لا يمكن وضع قوالب دقيقة للمناخ لأكثر من أسبوعين مقبلين . فكيف يمكن، إذاً، توقعه لعقود مقبلة؟

في السنوات القليلة الفائتة، استخدم الباحثون ما يسمى بمجموعات التنبؤات لتحسين توقعات المناخ على المدى البعيد . ويتضمن ذلك وضع مئات من قوالب المحاكاة، يتميز كل منها باختلاف طفيف في الفرضيات والظروف التي بدأت فيها، فبدلاً من الحصول على تنبؤ واحد، يحصل الباحثون على سيناريوهات عدة مختلفة، لكل منها نسبة احتمال حدوث معينة، ليصبح الأمر يركز على مقارنة احتمال حدوثه بالأضرار التي يمكن أن يسببها .

بحسب مجلة “فوكس”، فإنه على الرغم من عدم انتظام مدار الأرض، لا يزال العلماء قادرين على توقع الكثير عن مستقبله، ويقولون إنه على الرغم من أن التغير في مدار الأرض طفيف، إلا أنه سيؤدي بعد ملايين السنوات إلى تغير صفاته بدرجة كبيرة . ولا تتمتع كل الأنظمة الشمسية بنفس درجة الاستقرار التي يتميز بها نظامنا، فقد اكتشف الباحثون في معهد ماساتشوستس للتقنية العام ،2012 من خلال قوالب المحاكاة للكوكبين في نظام كيبلر ،36 أن تغيراً طفيفاً في مدار أي منهما سيؤدي إلى تغير تام في المدار خلال عقود . وغالباً مايستخدم علماء البيئة القوالب الحسابية لتفهم الأنماط السكانية، لكن إذا اتسم القالب بالفوضوية مثل ما يمثله في الطبيعة، فلن يكون من الممكن عقد مقارنة مباشرة بين قوالب المحاكاة وبين المعلومات المتوفرة . ولجأ الباحثون حديثاً إلى استخدام ما يسمى ب “خلاصة الإحصاءات”، ويقصد بها ما يستخلص من آليات النمو السكاني، ومن أمثلتها حجم تأرجح معدلاتها، أو عدد مرات التأرجح، وبمحاكاة أحد القوالب المتميز ببدايات تمت في ظروف مختلفة وبالنظر إلى خلاصة الإحصائيات التي يفرزها يمكن أن يقرر العلماء ما إذا كانت النظرية تتوافق مع خواص النظام الحقيقي أم لا .

الفوضى نقطة بداية ناجحة لتفسير المعادلات البسيطة، وبدأ باحثون أمريكان بوضع خريطة لجسم الإنسان متضمنة كل مايحويه من ميكروبات وفيروسات وكائنات أخرى دقيقة، وبدراستها كعوامل ضمن شبكة متفاعلة، وليست ككائنات منعزلة، ساعين إلى اكتشاف آلية التعاون الداخلي بينها، ما يجعل أناس بمنأى عن الأمراض، بينما يقع آخرون فرائس لها، وأيضاً الصدام بين هذه العوامل التي تؤدي إلى الإصابة بالأمراض .

وأشارت دراسات إلى أنه إذا أراد العلماء التنبؤ بآلية عمل شبكة معقدة لابد من تفهم طبيعتها التركيبية أولاً، أي فك الخيوط المتشابكة للتفاعلات داخل المجموعة .

وتعقيباً على الموضوع نلاحظ أن الكاتب في السطور الأخيرة قد تأثر بفلسفة الاختزاليين، لأن النظم الديناميكية أو العشوائية غير قابلة للتنبؤ بطبيعتها، فمهما حاولنا نمذجتها رياضياً فإننا نتهي إلى توقع كيفية تصرّف النظام بطريقة معينة، طبعاً لتقريب الصورة للذهن تخيل لو أن لديك قطعة حديد وسخنتها ثم تركتها تبرد بجو محكوم، نعم تستطيع تكوين نموذج رياضي ولكن هذا النموذج تقريبي ولا يمثل الواقع، حتى لو كان دقيقاً. وفي النظم الأعقد، مهما عقدّت من النموذج فأنت فقط تتنبأ. وتنبؤك سيكون به نسبة خطأ، وبعد فترة تتعاظم نسبة الخطأ حتى يصبح حلك في وادي والنظام في وادي آخر. وحتى أتم فكرتي حول الحديدة، فإن الحديدة لابد أن تصل إلى درجة حرارة الغرفة في النهاية. وهذا ما ستعطيه معادلاتنا. 

والآن وبعد جولتنا الرياضية في النظم الديناميكية نعود إلى استعراض آراء الجبريين من الماديين. تدور آراء الماديين حول الحتميات (الجبريات) التالية:
1) الحتمية البيولوجية.
2) الحتمية الاجتماعية.
3) الحتمية الفيزيائية. 

ولنتكلم عنهن بشيء من التفصيل مع الرد على كل واحدة منها. تعرّف ويكيبيديا الحتمية الأحيائية أو البيولوجية كالآتي: 




الحتمية الأحيائية أو البيولوجية (بالإنجليزية: Biological determinism وأحياناً تسمى biologism) هي تفسير الإنسان وحياته من وجهة نظهر أحيائية حصراً. وترتبط الحتمية البيولوجية كثيراً بما يُعرف بالحتمية الجينية genetic determinism. يمكن أيضاً تعريف الحتمية الأحيائية على أنها فرضية تقول بأن العوامل البيولوجية مثل جينات الكائن الفرد هي من تحدد بالكامل تصرفات وتغيرات نظام ما (وليس العوامل الاجتماعية أو البيئية).
فعلى سبيل المثال يؤمن أنصار الحتمية البيولوجية أن كون شخص ما محباً لنوع ما من الموسيقى أو كتابته للشعر أو إقدامه على اقتراف الجرائم إنما يعود لعوامل بيولوجية مثل تكوينه الجيني. ويصل الأمر ببعض أنصار الحتمية البيولوجية إلى الاعتقاد بأن سلوك الكائن بالكامل (وليس فقط شخصيته) تحدده العوامل البيولوجية.
ومن منطلق الإصرار على كون العوامل البيولوجية هي المحددات الأساسية لسلوك الكائنات الحية، فإن أنصار الحتمية البيولوجية يرون أن العوامل الأخرى مثل الثقافة والعادات الاجتماعية والتعليم لها أثر محدود أو ليس لها أثر بتاتاً على سلوك الكائن.
طبعاً هذا كلام قاصر لأنه يحصر السلوك بالمورثات، والرد عليها أنهم أغفلوا تأثير البيئة على سلوك الإنسان، وهذا مقال يوضح كيفية الرد عليهم من موقع شبكة الحوارات الإعلامية
السلوك البشري .. بين البيئة والجينات الوراثية

د. سالم موسى

علم النفس يؤكد أن العوامل المؤثرة في تشكيل السلوك البشري تتفرع الى ثلاثة اتجاهات. الاتجاه الاول: يعتقد ان العوامل والمتغيرات البيئية هي التي تشكل سلوك الإنسان, وان الإنسان يولد "صفحة بيضاء" وان التفاعل مع متغيرات البيئة هي التي تلون تلك الصفحات وتحدد كيف يجب ان تكون, وان تكوين الفرد النفسي والشخصي يحدد وبشكل كبير في السنوات المبكرة من عمره. الاتجاه الثاني: يرى ان الجينات الوراثية هي المسؤلة عن سلوك الإنسان, فالفرد يولد مزودا "بيولوجيا" بصفات وقدرات ذهنية وعقلية غير قابلة للتغيير. الاتجاه الثالث: يرى أهمية تفاعل العوامل البيئية مع الجينات الوراثية في تحديد السلوك البشري.

في هذا المقال, سوف نلقي الضوء على الدراسات التي تناولت تأثير العوامل البيئية وارتباطها القوي بتشكيل السلوك البشري, وسوف نسترشد ببعض الدراسات التي تؤيد أن السلوك البشري مصدره "جيني وراثي" فقط.

والحقيقة انني لا اود ان اكون او نكون مع او ضد بقدر ما نود ان نرتقي بوعي المجتمع فكريا وعاطفيا وانسانيا خاصة تجاه قضايا انسانية مصيرية تتعلق بحياة ومستقبل الطفل. ونود كذلك ان نوضح للقارىء الكريم اهمية التنشئة في تحديد وتقويم سلوك الطفل, وفي اهمية ان يحاط الطفل بالرعاية والحب والحنان لينعم بحياة سعيدة وصحة ذهنية وبدنية سليمة, وان نفكر بشكل جاد في أهمية تحديد النسل خاصة في الأوضاع المعيشية الراهنة والتي قد تتسبب في إرهاق ميزانية الاسرة وانعكاس ذلك سلبا على الاسرة وعلى سلوك الاطفال - حاضرا ومستقبلا.

• النظريات والدراسات التي تؤيد تأثير البيئة على السلوك البشري

في الثمانينيات من القرن المنصرم, لاحظ العالم السياسي جيم فلاين ان الذكاء, "اي كيو" كان يرتفع بشكل تصاعدي في كل دولة وفي كل الأوقات, بمعدل حوالي 3 نقاط حسب قياس اختبار الذكاء, بعد كل عقد من الزمن, وان هذا الارتفاع يعزى الى المتغيرات البيئية.

أحد الباحثين (اولرك نيسر) يعتقد ان ارتفاع معدل الذكاء كما في دراسة فلاين, يعود الى الطريقة التي من خلالها نشاهد الصور البصرية المعقدة: كالدعايات, والملصقات, والعاب الفيديو, والصور المتلفزة .. الخ، ويعتقد ان الاطفال يمرون بتجارب غنية بالصور البيئية بالمقارنة بتجارب أطفال الاجيال السابقة, ولذلك فان هذه الصور المختلفة قد ساعدتهم وامدتهم بالصور البصرية المحيرة والمتنوعة والتي تساعد في التحكم في اختبار الـذكاء.
ويوضح نيسر "الى ان الدرس الذي تعلمناه من مثال فلاين هو انه حينما نقول إن البيئة تلعب دورا مهما في الذكاء, فاننا في الواقع نتحدث عن عوامل بيئية مختلفة – مثل - نوعية التغذية, التعليم, سلوك الوالدين. هذه العوامل والظروف وجد انها تتباين بين قوة التأثير وضعفه (لكنها دائما مهمة) على مستوى الذكاء. ويوضح انه ليس كل هذه العلاقات ترفع نسبة الذكاء لكنها تدعم نظرية البيئة. وهذا يعني حسب قول نيسر "انه وعلى الرغم من ان بعض هذه العوامل تؤثر بشكل سلبي على الذكاء, لكنها تبقى مؤشرا على ان البيئة يمكن ان تؤثر على مستوى الذكاء والكفاءة العقلية.
وذكر الباحث نيسر أنه وجد ان الذكاء يمكن ان يتباين سلبا وايجاب مع المتغيرات التالية: سوء تغذية الرضع (سلبي), عدد السنوات في المدرسة, الاسرة والتجمعات العائلية, مهنة الأب, وضع الأب المالي, معاملة الوالدين القاسية (سلبي), طموح الوالدين, تعليم المرأة, معدل مشاهدة التلفزيون (سلبي), معدل قراءة الكتب, درجة سلطة الاب في المنزل (سلبي), الجريمة (سلبي) المشروبات الروحية (سلبي) الامراض العقلية (سلبي), التكيف العاطفي.
عالم النفس الاميركي جون واتسون والمشهور بتجربته المثيرة للجدل مع الطفل اليتيم الذي يدعى البرت, أشار إلى أن اكتساب "الخوف" يمكن تحقيقه من خلال "التكيف الشرطي" وقد استخدم الطفل البرت وعمره 11 شهرا ليثبت ان الشخص يمكن ان يكيف ليكون خائفا من امر ما, لم يكن يخافه سابقا.
وضع واتسون الطفل البرت في غرفة لوحده, ثم وضع بعيدا عنه فأرا أبيض, وقد كان واضحا ان البرت كان يستلطف وجود الفأر معه في الغرفة وقد أبدى تعاطفا حقيقيا نحوه. في وقت لاحق, وفي اللحظة التي يقترب البرت من الفار ليلامسه, يصدر واتسون صوتا عاليا, وبعد تكرار المحاولة وكنتيجة لذلك أصبح الطفل يخاف من اي جسم او مادة يقابلها تكون بيضاء - مكسية بشعر.
هذه التجربة المتميزة اصبحت تعرف بـ "تجربة البرت"، واعتبرت مؤشرا قويا على تأثير البيئة في التعلم. واتسون عقب ذلك قال كلمته الشهيرة: "اعطني درزن من الرضع الأصحاء, وسأتمكن وبعالمي المختص, أن أنشّأهم وارعاهم وادربهم بما يضمن ان اختار ايا منهم ـ وبشكل عشوائي ـ ليصبح متخصصا في اي مجال اختاره له، بغض النظر عن مواهبه وميوله وقدراته وحرفيته ونوعية عرقه او سلالته".
عالم النفس في جامعة هارفرد بي اف سكنر ومن خلال تجاربة المبكرة استطاع ان يدرب حماما على الرقص, وعلى ممارسة لعب التنس, ويفهم العدد الى الرقم "8". سكنر يعرف اليوم بـ "ابو العلم السلوكي". وقد توصل في نهاية المطاف الى اثبات ان سلوك الإنسان يمكن تكييفه بالطريقة التي تتم مع الحيوان.
في جانب متصل, أجريت دراسة في بريطانيا في اواخر العام (1980) اظهرت ان التغذية تلعب دورا مهما في تحسن وتطور ذكاء الفرد. فقد اعطي اطفال بين سن الـ 12 و13 فيتامينات ومكملات معدنية لمدة ثمانية اشهر, وقد اخضع هؤلاء الاطفال لاختبار الذكاء قبل وبعد تناولهم للمكملات الغذائية. وقد تم مقارنة نتائج الاختبار مع اقرانهم ممن لم يتناولوا مكملات غذائية، وكانت النتائج بفارق جيد لصالح الاطفال الذين تناولوا مكملات غذائية. (هيرستن وماري 292) وهذه التجربة تبرهن على أن التغذية ـ والتي تعتبر جزءا من البيئة ـ تلعب دورا في الذكاء وفي الكفاءة العقلية.
الدراسات الاخيرة التي تمت على الاطفال في المؤسسات الرومانية, بينت ان طول الوقت الذي يقضيه الطفل في ظروف قاسية من الحرمان العاطفي الاسري والاجتماعي والإهمال يرتبط مع انخفاض معدل الذكاء, بالاضافة الى مشاكل سلوكية.
وقد نشرت دراسة حديثة بقيادة الباحثين في مستشفى الاطفال في بوسطن وجامعة تولين، تبين أن الحرمان العاطفي في وقت مبكر يؤثر على الكروموسومات, بحيث يقلل من طول عمر "تبز الكرومسومات" وهو ما يعرف بـ "التيلوميرات", المسؤل عن حماية الكروموسومات, وبذلك يعجل من سرعة هرم خلايا الجسم.
وهذه الدراسة نشرت على الانترنت في مجلة "الطب النفسي الجزيئي" وتعتبر الاولى التي وجدت ارتباطا وثيقا بين القسوة وطول التيلاميرات لدى الاطفال. والدراسة جزء من مشروع التدخل المبكر لاطفال بوخارست الذين تركوا من قبل ذويهم نظرا لعدم قدرتهم على الانفاق عليهم, والسبب يعود الى ان رئيس رومانيا الاشتراكي السابق نيكولاي تشاوشيسكو كان قد أصدر قرارا في العام 1960 يوصي فيه بإلزام كل اسرة بدفع ضريبة في حال عدم انجابهم 5 اطفال كحد ادنى. وتسبب هذا القرار في تشريد وضياع عشرات الآلاف من الاطفال.
ويعود اكتشاف "التيلوميرات" الى الفائزة بجائزة نوبل بالمشاركة في العام (2009) اليزابيث بلاكبيرن وايليسا ايبل, وكلاهما من جامعة كالفورنيا في سانفرانسيسكو. وقد نشرا تقريرا في عام (2004) يوضح ان الاطفال المصابين بأمراض مزمنة ما ادى الى قصر عمر "التيلوميرات" لديهم، وهذا يساوي فقدان 9 الى 17 سنة من أعمارهم الافتراضية في الحالات العادية.

وفي دراسة نشرت في مجلة "المراهقة" (2002), وجد ان الاطفال الذين مروا بتجارب حرمان وايذاء جسدي واهمال ربما يبدون سلوكيات اندفاعية وعدوانية, ومثل هذه السلوكيات تكون في الغالب مرتبطة بارتفاع معدل الاكتئاب.
ليليان بيلمونت وفرانسيس مارولا (1973) نشرا دراسة تتعلق بعدد الاسرة وترتيب الولادة مقارنة بنسبة الذكاء, وقد جمعا معلومات تشمل الافراد في سن الـ 19 لمعظم سكان هولندا والمقدر بـ 386,114.
وقد وجدا ان الاطفال الذين ولدوا بكرا يتقدمون على اخوانهم الذين ولدوا بعدهم في مستوى الذكاء, وان الطفل المولود ثانيا يأتي اذكى من المولود ثالثا وهكذا. وقد وجدا ان الاسر ذات الاعداد الكبيرة يكون مستوى الذكاء فيها منخفض لكل الاطفال.
وفي دراسة راشيل ريتنر (2010), تناولت اهمية ترتيب المواليد في مستوى الذكاء, واتفقت مع نتائج دراسة بيلمونت ومارولا, واوضحت ان معظم رؤساء اميركا وغالبية العلماء الفائزين بجائزة نوبل كانوا من المواليد البكر, وان 21 من مجموع 23 من رواد الفضاء "ناسا" هم من المواليد البكر. بالاضافة الى اقتباسها للعديد من الدراسات التي اجريت على تلاميذ المدارس في اميركا والتي تتفق مع دراسة بيلمونت ومارولا.
وقد نسب ذكاء "البكر" الى ان الطفل البكر يجد العناية الفائقة والتغذية السليمة ويحاط بعاطفة وانتباه بصفته المولود الاول. وهذه الدراسة في الواقع تشرح أهمية التنشئة في المراحل العمرية المبكرة واحاطة الابناء بالرعاية والحب والاهتمام وكذلك في التغذية المناسبة.
تؤكد الباحثة ماريام فيرد (2010) أن دماغ الإنسان والشمبانزي يكونان بنفس الحجم عند الولادة. وان دماغ الشمبانزي ينمو بنسبة 28% عند سن البلوغ, بينما ينمو دماغ الإنسان بزيادة تقدر بنسبة 300%, وهذا يعني ان معظم اجزاء ادمغتنا تنمو وتكبر بعد الولادة وان البيئة هي المسبب لذلك.
• الجينات الوراثية واثرها في تحديد السلوك البشري
المواد الكيميائية العصبية في بعض مناطق الدماغ هي المسؤولة عن تفعيل الأنماط السلوكية والميول (اليوت 2000) وكذلك دراسة برينر واخرين, تربط بين السلوك الاجرامي والسلوك المعادي للمجتمع وبين المواد الكيميائية العصبية في الدماغ, وتشمل هذه المواد: ادرينالين، بافراز، السيروتونين، والدوبامين, وقد وجد أن لها تأثيرا على "الشخصية" - خاصة اثرها المباشر على القوى العقلية - مثل القلق والاكتئاب والانفصام. والحقيقة ان مناصري المؤثرات الجينية في تحديد السلوك البشري قد وجدوا في مثل هذه النظريات ضالتهم واعتقدوا ان مصدر كل السلوك البشري لا بد ان يكون جين وراثي.
طبعا بعض الدراسات تؤكد ترابط وتداخل الجينات الوراثية مع المتغيرات البيئية في تشكيل السلوك, ومع ذلك فإن الكثير من الباحثين يرون أن التاثير الجيني الوراثي يكون بنسبة اقل, فيعتقدون مثلا أن هناك جينات وراثية متخصصة في السرقة, غير ان هذه تعتبر ذات طبيعة جينية وراثية الا انها قد تكون منطمرة ولا تظهر الا بوجود عوامل بيئية محفزة ومثيرة, بمعنى أن نزعة الميول للسرقة او التعرض للاكتئاب يكون موجودا في جينات الإنسان لكن قد يظهر فقط اذا ما وجد المثير او الشرارة التي تقدحه للعمل.
طبعا المعسكر المناصر لأهمية الجينات في تحديد السلوك يبنى نظرياته حول تلك الأمراض "الاكتئاب والقلق والخوف" وهي اجتهادات بنيت على اساس ان الكائنات وخاصة الطيور والحيوانات، بقيت كما هي في سلوكها ونمط معيشتها ولم تتغير, وهذه هي أحد الاسباب التي جعلتهم يؤمنون بأهمية الجينات الوراثية في تحديد السلوك البشري - القيم والأخلاق والجريمة والصدق والكذب الخ.
"نظرية البلانك سلت" نظرية اشتهرت من خلال مقالة لـ جون لوك, وهو فيلسوف بريطاني واكاديمي, بعنوان "مقال يتعلق بالفهم البشري" (1689). لوك كان يؤمن بالمبادىء الامبريالية التي ترفض مقولة الافكار الفطرية بينما ترى أهمية تعزيز دور الإدراك الحسي والخبرات في تشكيل الفكر البشري. ويؤكد ان الإنسان يولد بعقل خالٍ من الافكار, صفحة بيضاء, وان الافكار والمعارف تتشكل بعد ان يتعرض للعالم الخارجي, وان كل فرد يبدأ بـ "بلانك سلت, او تابولا رازا" وان التجارب اليومية هي التي تملىء هذه الصفحة البيضاء.
بينما عالم النفس ستيفن بينكر، وصاحب كتاب "نظرية البلانك سلت: رفض الحداثة للطبيعة البشرية" يجادل في كتابه "ان الطبيعة او السلوك البشري قد تحدد قبل الولادة كجزء من الخريطة الوراثية البشرية التي تدعم بنيتنا الجينية" ورغم ان افكاره تراوح بين تداخل عوامل البيئة مع الجينات الوراثية في تحديد السلوك, الا انه لا يزال مصرا على فكرته الرئيسية: "التجارب لا تستطيع بشكل جوهري تغيير طبيعة بنية وعمل العقل البشري".
أصحاب الاتجاه الثالث: يرى ان سلوك الإنسان مصدره بيئي جيني, اي انه ينتج عن تفاعل العوامل البيئية مع الجينات الوراثية, وان أيا منهما لا يمكن ان يكون العامل الحاسم. ويتصورون ان الجينات الوراثية موجودة لكن فقط تظهر حينما تثار بعوامل بيئية, مثلا, الإنسان حينما يتعرض لضائقة مالية خانقة, فإن احتمال اصابته بنوبات اكتئاب كبيرة اذا ما كان احد اسلافه قد أصيب بنوبات مشابهة, او احتمال جنوحه لارتكاب سرقه قد تكون دافعيته للسرقة اكثر من غيره ممن لا يوجد لديه جين وراثي. لكن الحقيقة ان هذا يفسر اهمية البيئة في تشكيل السلوك البشري وان العامل الوراثي يأتي في مرتبة متأخرة.
• الخلاصة
وفق النظريات والدراسات التي ذكرناها آنفا, يتصور الكثير من الباحثين الاجتماعيين وعلماء النفس ان البيئة تلعب دورا مهما في تحديد سلوك وشخصية الفرد. وربما افضل من شرح هذه العلاقة هو عالم النفس الشهير, فرويد حيث يشير الى: "اننا مجرد ممثلين للدراما التي تعمل في ادمغتنا, تدفعنا رغباتنا وتجذبنا ضمائرنا". وان السنوات الخمس الاولى من مرحلة الطفولة تعتبر مهمة في تكوين سلوك وشخصية الإنسان, وان التجارب الايجابية او السلبية التي يمر بها الطفل خلال تلك المرحلة وبرغم انها اصبحت مطمورة في اللاوعي الا انها تبقى تسيطر على حيز جوهري من سلوكه وتفكيره ودرجة فهمه للعالم من حوله الى آخر عمره. بينما قد تلعب الجينات الوراثية دورا مؤثرا على بعض السلوكيات الا انها بحاجة الى مؤثرات بيئية لتفعيلها. وهذه تعود بنا للمربع الاول الذي يفيد بأن البيئة هي مصدر السلوك البشري.
د. سالم موسى ـ جامعة الملك خالد ـ السعودية

وبالتالي فهذا الأمر يعزز نظرتنا الإسلامية الداعية لتبني معيار صريح وواضح تربوياً حتى نستطيع تنمية الأفراد بشكل طبيعي وأكبر دليل قوله تعالى:
وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {24} لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ {25} سورة النحل
فالأثر التربوي يُحاسَب عليه الإنسان شاء أم أبى. 


2) الحتمية الاجتماعية: بصراحة لم أجد كلاماً أفضل من هذا الكلام حتى أنقله ففيه الخلاصة الوافية، وهو يعتبر التشريع الإسلامي عبارة عن دستور اجتماعي، وهل هناك أفضل من القرآن ككتاب تربوي اجتماعي؟ لا أظن. اقرأوا معي كيف ننقد المناهج الاجتماعية باستخدام القرآن:




  الحتمية الاجتماعية
تصور بعض علماء الاجتماع الوضعي، وعلى رأسهم أميل دوركايم، إن الفرد مجبور بإزاء المجتمع، فاقد لحريته، مسلوب لإرادته. غير أن النظرية الاجتماعية القرآنية ترفض هذا التصور. إن المجتمع، في التصور الإسلامي، وأن كان له قدرة غالبة على قدرة الفرد، إلا أن ذلك لا يستلزم (إجبار) الفرد في الأمور الاجتماعية الإنسانية. فالجبر الذي يقول به دوركايم وغيره إنما منشأه الغفلة عن الفطرة التي أودعها الله في الإنسان والتي تمنحه نوع من الحرية والتمكن والإرادة أمام مقتضيات المجتمع.
والقران الكريم في الوقت الذي يقول باستقلال المجتمع في طبيعته وشخصيته وعينيته وقدرته وحياته وموته وأجله ووجدانه وطاعته وعصيانه، يصرح أيضاً بأن الفرد قادر على العصيان أمام مقتضيات المجتمع،. ويستند القران في ذلك إلى (فطرة الله) وقد ورد في سورة النساء آية 97 إن قوماً يعتذرون عن عدم قيامهم بمسؤولياتهم الفطرية بكونهم مستضعفين في مجتمعهم (المجتمع المكي)، وفي الواقع يريدون أن يعتذروا عن ذلك بكونه مجبورين أمام مقتضيات المجتمع فلا يقبل منهم هذا العذر،إذ كان بإمكانهم على أقل تقدير أن يهجروا، ويتركوا ذلك الجو الاجتماعي الفاسد إلى مجتمع صالح، قال تعالى:(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً). (النساء: 97).
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (المائدة: 105).
والمراد إصرار الآخرين على الضلالة إذا كنتم مهتدين.
وقال تعالى في آية الذر التي وردت إشارة إلى الفطرة الإنسانية بعد أن أشار إلى أخذ العهد من الناس على توحيد الرب وإيداع هذا العهد في الفطرة الإنسانية قال: (أو تقولوا إنما أشرك آبائنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم...) (الأعراف:173). فأشار إلى أن هذه الفطرة تمنع من دعوى الجبر والإلجاء في اتباع سنن الآباء.
والتعاليم القرآنية كلها مبتنية على مسئولية الإنسان بالنسبة إلى نفسه وإلى مجتمعه. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرار يحكم بطغيان الفرد على الفساد الاجتماعي. وأكثر القصص والوقائع المذكورة في القران الكريم تتضمن خروج الفرد على مجتمعه وثورته على الجو الاجتماعي الفاسد كقصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحاب الكهف ومؤمن آل فرعون وغيرهم.
فالإنسان – وهو الجزء الذي يتركب منه المجتمع – حيث أنه يتمتع بعقله وإرادته الفطرية في وجوده الفردي والطبيعي، قبل وجوده الاجتماعي، وحيث أن الاستقلال النسبي للأجزاء في المراتب الراقية من الطبيعة محفوظ، فهذا الإنسان غير مجبور وغير مسلوب الاختيار تجاه الروح الاجتماعية، وإنما بينه وبين المجتمع نوع من الأمرين: (لا جبر ولا تفويض)[2].
بل إن ما بين الفرد  والمجتمع علاقة تأثير وتأثير متبادل. حسب طبيعة الفرد، وحسب طبيعة المجتمع، وحسب طبيعة موضوع التأثير.
فالفرد العادي، ذو الهموم الشخصية والاهتمامات العادية المحدودة الأفق، تكون معادلة التأثير المتبادل في علاقته مع المجتمع لصالح المجتمع دائماً. حيث لا رأي له ولا دور في مقابل رأي المجتمع ودوره وتأثيره. وأمثال هذا الفرد هم الذين يسميهم الإمام علي (ع) بالهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق، ويصفقون لكل زعيم. وهؤلاء هم الذين يقصدهم الحديث الشريف: الناس على دين ملوكهم. ويكثر مثل هؤلاء الناس في المجتمع الفرعوني – الذي سنتحدث عنه في فصل لاحق من هذه الدراسةـ لأن السلطة الفرعونية يهمها أن تتسع قاعدة الهمج الرعاع حتى تستطيع أن تباشر الحكم بلا اعتراضات واضطرابات ومعارضة!.
إن شخصية الفرد من الهمج الرعاع هي في الحقيقة نتاج مجتمعه بكل ما فيه من أعراف وتقاليد وعادات وموروثات، وهي نتاج السلطة السياسة لهذا المجتمع بكل ما تملك من إعلام ومؤثرات نفسية ووسائل ضغط وإرهاب وإغراء وترغيب وترهيب. وعادة يكون الوعي الاجتماعي والسياسي لدى الهمج الرعاع في أدنى درجاته لأنه انعكاس للعقل الجمعي الذي هو بحد ذاته المحصلة الدنيا لمجموع عقول أفراد المجتمع الذي يشكل الهمج الرعاع الأغلبية فيه على رأي العالم الاجتماعي غوستاف لوبون.
وهكذا نجد أن الفرد من هذا النوع يدخل المجتمع ويخرج منه بل ويدخل الحياة ويخرج منها دون أن يترك فيهما(المجتمع والحياة) أثراً يذكر!.
أما الإنسان ذو العقيدة والمبدأ، أي الإنسان الهادف، فوضعه مختلف، حيث تميل معادلة التأثير المتبادل الى صالحه. إن مثل هذا الإنسان ـ ونحن لا نقصد الآن الإنسان المسلم فقط وإن كان هذا يجسد أرقى صور الهدفية في الحياة – يعي دوره وواجبه ومسؤوليته إزاء حركة المجتمع ومسيرة التاريخ، ولهذا فإنك تجده، أولاً، صاحب موقف. وهو إضافة إلى هذا صاحب دور فاعل ومؤثر بقدر ما يتوفر لديه من الإمكانيات الفعلية، الذاتية الموضوعية. وتشهد المجتمعات البشرية على امتداد تاريخها الطويل العديد من هؤلاء الأشخاص النابهين والفاعلين والمؤثرين، الذين لا تصنعهم الأحداث، إنما هم الذين يصنعونها، ولا يقولبهم المجتمع، وإنما هم الذين يقولبونه.
إن الإسلام يؤكد على ضرورة أن يقف الإنسان موقفاً إيجابيا ًمن الحياة والمجتمع والتاريخ، ويحارب السلبية في نفسه وفي غيره. وفي قول الرسول (ص) توجيه خالد لكل المسلمين: (لا تكن إمعة!‍) من أجل أن يكون الإنسان عموماً والمسلمون خصوصا، هم المؤثرين في مجتمعاتهم، نحو الأحسن والأفضل وهم القوة المحركة لمسيرة التاريخ نحو الاقتراب أكثر فأكثر من غاياتها وأهدافها العليا.
إن الإنسان المسلم يساير مجتمعه ويواكبه متى ما كان ذلك تعبيرا عن الانسجام مع عقيدته ورسالته وموقفه التاريخي، ولكنه يرفض ويتمرد ويثور ويتحرك من أجل الإصلاح أو التغيير كلما ظهرت حالات الانحراف عن منهج الرسالة.
كما أن طبيعة المجتمع تؤثر على معادلة التأثير المتبادل. فالمجتمع الشمولي Totalitarian society كالمجتمع النازي،والمجتمع الشيوعي، والمجتمعات التي تسيطر عليها أنظمة حكم دكتاتورية (فردية، أو عسكرية، أو حزبية. الخ) تكون أكثر هيمنة على الفرد، الذي تتضاءل فرص قيامه بدور فاعل أو مؤثر في المجتمع، على عكس المجتمعات المخضرمة، أو المفككة أو التي تمر بمراحل انتقالية أو حالات من الفوضى والانهيار السياسي ففي مثل هذه المجتمعات تكون قدرة الفرد على الانفلات من الطوق الاجتماعي وممارسة التأثر، سلبياً أو إيجابياً، أكبر ولهذا نلاحظ أنه في مثل هذه المجتمعات تنشط الحركات السياسية، السرية أو العلنية والفعاليات العامة، وأساليب التعبير عن الرأي، وحتى الأعمال اللصوصية والعصابات.
إن الحتمية الاجتماعية، بناءاً على التحليل السابق، عبارة مجازية، تحمل مفهوماً نسبياً، ولا تشكل خطاً ثابتاً أو حالة مطلقة في علاقة الفرد والمجتمع.

المصدر: http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/akhlagh/almojtamaa/books/mogtama/2.htm


الآن قد يقفز مستظرِف ويقول: إن حركة الأنظمة إلى الفوضى حتمية: فنقول له أنت قد خالفت التعريف في بداية المقال بكل تأكيد. ثم إننا وبالخبرة قد عرفنا هذه الحتمية وهذا وإن دل على شيء فإنه يدل على قدرة الإنسان على التعلم وتوقع الأمور، أليس هذا دليل على القدرة على التصرف والاختيار؟ فإن قال لك أن الإنسان محتوم عليه أن يتعلم، فقد حصل المراد واعترف بأن الإنسان مفطور على الاختيار، بل هو يختار من ذاته. كأن أقول: أنت مُجبر على أن تختار. طبعاً يقودنا هذا لمفهوم أعمق وهو أن الله خلقنا ووضعنا في هذا العالم وبالتالي فنحن لسنا مخيرين بالكامل (لا جبر ولا تفويض)، بل لدينا حدود معينة لا أكثر. نلاحظ أن المناقشين في هذا الأمر يريدون اثبات الجبر دائماً وأبداً. 

3) الحتمية الفيزيائية: وقد تكلمنا عنها في البداية ومنظورها عند نيوتن ولابلاس، وكيف أن العلوم الحديثة لا تقوم على الحتمية، وأنقل لكم من موقع العلوم الحقيقية (ذا الميول الإلحادية) جزءاً من مقال الفيزيائي المشهور اعلامياً على قناة BBC جيم خليلي هذا الجزء من كلامه:





الان جوابي على السؤال: هل لدينا أرادة حرة ؟ سيكون نعم رغم ما سردناه اعلاه حول الحتمية. والسبب الذي يضمن لنا الارادة الحرة هي ليست ميكانيكا الكم وسلوكها التصدافي كما يروج الكثير, انما نظرية الفوضى وعدم القدرة على التنبؤ. فبحسب تأثير الفراشة ممكن لاي قرار نتخذه او ظرف نمر به ان يغير مستقبلنا وطريقة تفكيرنا بشكل جذري ؛ لذا فان عدم القدرة على التنبؤ تعطينا خيارات مستقبل مفتوحة.
هكذا وبفضل نظرية الفوضى نحن نملك ارادة حرة. افعالنا وقراراتنا تحدد اي من الاحتمالات الانهائية التي ستحصل لنا في المستقبل. ان نظام عمل ادمغتنا المعقد يجعل من عدم التنبؤ امراً لا مفر منه مع كل عمليات الفكير , الذكريات , والحلقات التي تربط بينها وبتغدية راجعة, كل ذلك يعطي لنا ارادة حرة.
سواء كانت هذه الحرية حقيقية ام مجرد زيف ووهم, فانك لا تستطيع ان تتنبأ على الامد البعيد بطريقة عمل الدماغ بسبب ما ذكرناه من تعقيد. هذا بفرض ان عمل الدماغ يخضع لحتمية مطلقة اما في حال كان بعض نشاط الدماغ يخضع لقوانين ميكانيكا الكم فالامر سيكون اكثر تعقيداً مما تناولناه.


خلاصة الكلام، لقد نقدنا الحتمية من وجهة نظر كل من:

البيولوجيا
 الفيزياء 
علم الاجتماع 
 وكان نقد الحتمية الاجتماعية باستخدام القرآن توضيحاً للمنهجية القويمة وفق الدين الإسلامي. فإن قال المتنطع بالحتميات بأن الإسلام هو حتمية، فهذه سخرية الأقدار تتكلم بأن جعل الإسلام "حتمية". 

نعم إن الإنسان يتفاعل مع البيئة، فالبيئة تفرض عليه أموراً حتماً لا فرضاً، ولكنه أيضاً يستطيع أن يختار كيف يتأثر وينتج عموماً. نعم يجب أن لا ننكر المسؤولية الاجتماعية التي تقودنا وتدفعنا باتجاه حماية المستضعفين وتبيان الطريق لمن ضلّ عنه، فهذه من تكاليف الله وأوامره. وحتى لو حاول الملحد أو المشكك أن يلزمنا بالحتمية فوجوده هو أكبر دليل على انهيار الحتمية، لأنه خالف مجتمعه الإسلامي وأمسى متشككاً. 
مرة أخرى، نحن لا ننكر أثر البيئة ولكننا لا نفرض أن البيئة تقود لحتميات، ولكن الدنيا قائمة على المتناقضات، فكما هناك عادل، هناك ظالم، وكما هناك كريم، هناك بخيل، فالحتمية الوحيدة في الدنيا (برأيي) هي التزاحم والاختلاف. 

خلاصة الأمر: لا يمكن للملحد أن يثبت أو ينفي الحتمية، كل ما يستطيع أن يقوله: إني لا اؤمن، ولا دليل على إيمانه مطلقاً.