الجمعة، 3 يناير 2014

نافذة على الفلسفة - الدرس الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الرابع

تقسيمات الوجود (1)

 

(42)

 

إنَّ للأشياء وجودين حقيقييّن: أحدهما، الوجود الخارجي، والآخر الوجود الذهني، ويتمثّل الأوّل بوجود الأشياء خارج حدود الذهن، كأفراد الإنسان والحجر والشجر، بينما يتمثل الثاني بعلمنا المتعلق بصور تلك الأشياء.

ولا شك في أن انطباع صور الأشياء في الذهن ليس على شاكلة ارتسام صور الأشياء على لوحة أو ورقة، إذ أن الورقة لا تدرك ما يرتسم عليها من الصور، بخلاف ارتسامها في الذهن، لأنه مدرك لها، عالم بها، محيط بها.

والمشكلة التي أثارت الفلاسفة والعلماء منذ أبعد الآماد ولحدّ الآن؛ هي مدى مطابقة الوجود الذهني للوجود الخارجي، وقد عبّروا عن المطابقة بالصواب وعن عدمها بالخطأ.

ومن هنا اهتمّ الفلاسفة بالمعرفة الإنسانية ومصدرها وقيمتها، حيث جعلوها في طليعة المعارف الفلسفية وأهمها.

ولسنا الآن في صدد البحث عن نظرية المعرفة بتفاصيلها وخطوطها ومسائلها، إلا إنه يمكن وبصورة مجملة القول:

(43)

 

إن الفلاسفة وبعد أن اختلفوا في تحديد مصادر أفكارنا التصورية والتصديقية في أنّها حسِّية أو عقلية أو كلاهما معاً، أو شيء آخر، اختلفوا في قيمتها ومطابقتها للواقع الخارجي، ومن أجله ذهب جماعة منهم إلى إنكار الواقع الخارجي بكل تفاصيله منكرين أنفسهم، ومن هؤلاء «غورغياس» السوفسطي ومن المنكرين «جورج باركلي» (1)الذي لم يؤمن بوجود شيء ما سوى الأنا المدْرِكة والصورة المدْرَكة، ويُسمى باركلي وأنصاره بالمثاليين «ايده اليست Idealists»، بينما ذهب «أرسطو» ومدرسته وتلامذته ومن سار على خطاه، إلى الإيمان بالواقع مطلقاً العيني الخارجي منه وغيره ويُسمى هؤلاء بالواقعيين «رئاليست Realists».

وجنح جَمع آخر إلى الإيمان بالواقع الخارجي إيماناً نسبياً، فالصورة المدركة عندهم مزيجٌ من مادة الإدراك الخارجي والقوالب والمقولات الجاهزة في الذهن، فلا تمثل الصورة المدركة الخارجَ بصورة مستقلة ولا الذهن بصورة مستقلة، بل للخارج نسبة ونصيب من هذِهِ الصورة، وللذهن نصيب ونسبة منها أيضاً وهو ما ذهب إليه«عمانوئيل كانت» (2) في نظريته النسبية.

1. «جورج باركلي George Barckley» «1685 ـ 1753 م» فيلسوف إنجليزي مثالي مبكر النضوج، شاعر في طفولته، التحق بمدرسة «كلكني» فدرس فيها الرياضيات ثم التحقق بكلية «الثالوث Tinity» فأبدى فيها من الحماسة والخيال ما جعل الآخرين يعتبرونه أكبر عبقري أو أكبر مخبول، اشتغل مدرّساً للغة اليونانية عام 1712 م وكان قسيساً، و قد تأثّر باركلي في دراسته بـ «ديكارت» و «لوك».
2. «عمانوئيل كانت Emanuel Kant» «1724 ـ 1804 م» فيلسوف ألماني ولد في كينجسبرج، كان والده سرّاجاً مجتهداً في عمله صدوقاً، وكانت أمه متدينة، حريصة على سماع مواعظ (فرانس شولتس مدير معهد «فريدريك») ومن هنا ألحقت الأم ابنها بهذا المعهد ليدرس فيه، وبعدها التحق بجامعة كينجسبرج فدرس الرياضيات والفلسفة وأصول الدين. عُرف «كانت» بدقته الفائقة في تنظيم مواعيد عمله اليومي كالساعة في تحديد الوقت، من أشهر كتبه «نقد العقل العملي»، «نقد العقل النظري» ، «نقد الحكم العقلي».
(44)


ومال آخرون إلى الشك بوجود واقع خارج حدود الذهن البشري، فلم يحكموا بثبوته ولا بنفيه ومن هؤلاء «دافيد هيوم» (1) و«جون لوك» (2) وهكذا اختلفت آراء المفكرين في تقييم إدراكاتنا عن الواقع الخارجي باختلاف مذاهبهم ومشاربهم الفلسفية. (3)

ولا يمنعنا سعة البحث من الإشارة السريعة إلى المذهب الصحيح والرأي الحق فى المسألة آنفة الذكر، فنقول:

1. «دافيد هيوم David Hume» «1711 ـ 1779م» فيلسوف ومؤرخ إنجليزي ولد في مدينة أدنبره الواقعة في اسكتلندا شمالي بريطانيا، درس في ثانوية أدنبره والتي تحولت بعد ذلك إلى جامعة أدنبره، فدرس فيها الفيزياء الطبيعية وكانت له رغبة ملحة في دراسة كتب الفلسفة والأدب. أخفق هيوم في التأليف بدو الأمر لِما كان يعتمده من أسلوب جاف في عرض أفكاره، إلا إنه التفت إلى ذلك بَعدها فألف كتاباً تحت عنوان «مقالات أخلاقية وسياسية» لاقى فيه إعجاب الكثيرين مما أعاد له الثقة بنفسه، وقد كتب هيوم في التاريخ كتاباً تحت عنوان «تاريخ إنجلترا». ومن أشهر كتبه كتاب «بحث في الطبيعة الإنسانية» عرض فيه أفكاره الحسية، وأرجع مبدأ العلّية إلى عادة تداعي المعاني.
2. «جون لوك John Locke» «1632 ـ 1704 م» فيلسوف إنجليزي ومن المؤمنين بأصالة التجربة، درس في كلية «كنيسة السيد المسيح» في إكسفورد، إلا إنه لم ينخرط في مسلك رجال ‏الدين، مارس الطب التجريبي حتى عُرِف في تلك الفترة بالدكتور لوك، إلا إنه حصل بعد ذلك على شهادة البكلوريوس في الطب. لوحظ في فلسفة لوك تناقض بين رأيه في المصدر الأساسي للمعرفة وبين رأيه في قيمة المعرفة، ولذا فإن ما حازه لوك من شهرة كان أكبر من حجمه.
3. من أراد التفصيل فعليه بمراجعة كتاب «فلسفتنا» للشهيد السعيد آية ‏الله‏ السيد محمد باقر الصدر. وكتاب «الإيدولوجية المقارنة» للأستاذ الشيخ مصباح اليزدي.
(45)


إن الإيمان بوجود واقع خارجي قضية مسلّمة لا يختلف فيها اثنان ولو في حدود الأنا المُدْرِكة، إذ لو لم تكن «الأنا» موجودة فكيف أنكر المنكر أو شكك المشكك بوجود الواقع الخارجي، وحتى (باركلي) حينما أنكر الواقع الخارجي لم ينكر ذاته المدرِكة والصور المدْرَكه، والسرُ هو أن ذلك معلوم عنده بالعلم الحضوري، ومن أجله فقد ادّعى أنه ليس منكراً ولا شكاكاً بالواقع الموضوعي الخارجي، إلا إنه يؤمن بواقع الأنا المدرِكة والصورة المُدْرَكَةِ وينكر الوجود المادي للأشياء، فوضع لمذهبه قاعدة معروفة: «أن يُوجد هو أن يُدرِك أو أن يُدْرَك» ومن الواضح أن ما سوى الأنا المدرِكة والمَدرَكات المرتبطة بها غير معلوم لنا بالبداهة أو بالعلم الحُضوري، بل هو بحاجة إلى برهان ودليل، والعقل هو الحاكم بوجودها انطلاقاً من مبدأ العليّة العقلي الذي لا يشك فيه حتى المنكرون والشكاكون، لأنهم حينما رفضوا الإيمان بوجود واقع موضوعي خارج حدود الذهن البشري، فإنما استندوا إلى دليلٍ لإثبات مدّعاهم وهذا الدليل في واقعه علّة وسبب لإثبات منحاهم الفلسفي في إنكار الواقع أو الشك فيه.

ومبدأ العلّية يقرّر أن لكل حادثة سبباً انبثقت منه، فهناك كثير من الظواهر التي نتحسسها ونبحث عن سببها، فلو كانت نابعة من صميم ذاتنا، لكانت معلومة لنا بالعلم الحضوري، وحيث إنّا لا نجد علّة تلك الحادثة في صميم وجودنا فلابد وأن يكون مصدرها شيئاً خارجَ حدود ذواتنا، وليس ذلك إلا الشيء الخارجي، كما لو أمسكت شوكاً بيدك وشعرت بألم الوخز الذي يصيبها حين إمساكك له، فإنك ستبحث عن سببه وحينما تراجع نفسك لا تجد فيها سبباً وعلّة لذلك الألم، إذ لو كان لبان لك بالعلم الحضوري وجودهُ في نفسك، هذا من ناحية.

(46)

 

ومن ناحية أخرى فإن بعض الظواهر يشعر بها الإنسان على خلاف رغبته كما في المثال المتقدم، فكيف توُجِد النفسُ ما يبعث على انزعاجها وألمها؟! فلابد وأن يوجد سبب آخر خارج حدودها، كان باعثاً على ذلك الألم.

وفي الختام نقول:
إن الإنسان لا يجد في نفسه مبرراً يدفعه للبحث في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية التجريبية وغيرها ما لم تكن معرفته ذات قيمة تكشف عن الواقع الذي انبثقت منه، فلو كانت أفكارنا محض خيالٍ وصورٍ تتوالى في عالم الذهن ولم يكن لها علاقة من قريب أو بعيد بواقعها الخارجي، كما ادعى المنكرون والشكاكون والسوفسطائيون! لما أصبح للبحث والتحقيق والجد والسعي والمثابرة والخوف والرجاء ... معنى، إذ كل محاولة من هذا القبيل تغدو جزافاً وعبثاً.

(47)

1 ـ ما هو المقصود من الوجود الذهني والخارجي؟ وبماذا يمتاز الوجود الذهني عن وجود الصورة المنطبعة على اللوحة؟
2 ـ اشرح ما يلي: «تُعَدُّ نظرية المعرفة حجر الزاوية ومنطلقا لكل بحث علمي مهما كان لونه».
3 ـ وضّح بإجمال الآراء الفلسفية على صعيد قيمة المعرفة.
4 ـ لماذا لم ينكر «باركلي» نفسه المُدْرِكة والصور المُدْرَكة؟
5 ـ علّل ما يلي: «لا يمكن إنكار مبدأ العلية حتى للسوفسطي وغيره من المنكرين لواقع الأشياء ووجودها»؟