الثلاثاء، 14 يناير 2014

نافذة على الفلسفة - الدرس السادس

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السادس

الواجب والممكن والممتنع

 



(56)


إن نسبة أيّ محمول إلى أيّ موضوع إما أن تكون ضرورية لا يصح فيها الانفكاك كنسبة الزوجية إلى الأربعة في قولنا: «الأربعة زوج»؛ وإما أن لا تكون ضرورية كنسبة الاحتراق إلى الورقة، في قولنا: «الورقة محترقة»، أو أن تكون ضرورية السلب كما في قولنا: «الثلاثة زوجٌ». ففي المثال الأول يعبّر عن النسبة بالوجوب، أي وجوب نسبة المحمول إلى الموضوع، كما ويعبّر عن النسبة في المثال الثاني بالإمكان، أي إمكان نسبة المحمول إلى الموضوع وإمكان عدمه، وأما النسبة في المثال الثالث فيُعبّر عنها بالامتناع، أي امتناع نسبة المحمول إلى الموضوعوالنسب الثلاث هذِهِ يُعبّر عنها في علم المنطق بمادة القضية. (1)

وعلى غرار ما تقدّم من أنماط نسبة المحمول إلى الموضوع، ذكر الفلاسفة أن الوجود حينما يحمل على موضوع من الموضوعات فإنّ نسبته إليه قد تكون واجبة كنسبة الوجود إلى الله‏ في قولنا: «الله‏ موجود». حيث ثبت في برهان الإمكان، كما سيأتي الحديث عنه،(2) أن الوجود بالنسبة لذات الحق تعالى واجب


1 ـ راجع بحث الموجهات ـ مادة القضية ـ في كتاب المنطق للعلامة محمد رضا المظفر، ص 146، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ، لبنان، 1980 م.
2 ـ في الدرس العشرين.
(57)

ويُسمى هذا الموضوع بواجب الوجود.

وقد تكون نسبة الوجود إلى الموضوع ممتنعة فيسمى الموضوع بممتنع الوجود، كما لو قيل بأن شريك الباري موجود، فإن النسبة هنا ممتنعة إذ لا يمكن أن يُنسب الوجود إلى الشريك المفترض لله‏ جَلّ ‏وَعلا كما هو ثابت في أدلة التوحيد.

وقد لا تكون نسبة الوجود إلى موضوع واجبة ولا ممتنعة، فيسمّى بالممكن، كالإنسان مثلاً، حينما يُقال إنه موجود، فإن الوجود بالنسبة إليه غير ضروري الإيجاب ولا ضروري السلب، بل ممكن.

والواجب قد يكون واجباً بالذات كوجود الله‏ جَلّ‏ وَعلا فإنه واجب الوجود بالذات، بخلاف المعلول الذي يجب وجوده لوجود علته، فهو واجب بغيره، إذ إن المعلول يجب وجوده حين وجود علته، فالإنسان مثلاً إنما يجب وجوده بوجود علته، ومن هنا قيل: «الشيء ما لم يجب لم يوجد». والممتنع أيضاً قد يكون ممتنعاً بذاته كشريك الباري، وقد يكون ممتنعاً بغيره، كالمعلول الذي يمتنع تحققه بسبب عدم وجود علته، فالزجاج يمتنع انكساره بسبب عدم وجود علة لانكساره.

ذكر الفلاسفة أقساما للإمكان، نجمل ذكر بعضها بما يلي:

1 ـ الإمكان الخاص (الذاتي):
وهو سلب الضرورتين؛ ضرورة الوجود وضرورة العدم من موضوعٍ ما،

(58)


فحينما نقول: «الإنسان ممكن»؛ نعني به سلب ضرورة الوجود وضرورة العدم منه، وبعبارة أخرى أنه بحد ذاته مجرداً عن أي شيء، فلا يقتضي الوجود ولا العدم ولا التقدم ولا التأخر ولا البياض ولا السواد... .
وإنما سمِّيَ هذا الإمكان بالخاص؛ لأنه أخص من الإمكان العام الذي هو المعنى اللغوي للإمكان والدارج بين الناس.

2 ـ الإمكان العام:
وهو سلب الضرورة عن الطرف المقابل مع السكوت عن الطرف الموافق، فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا وقد لا يكون كذلك.
بيان ذلك: إن الإمكان العام على نحوين: فقد يكون سلباً لضرورة السلب كما في قولنا: «الإنسان ممكن الوجود»، و «الله‏ ممكن الوجود»، ففي المثال الأول والثاني سلبت ضرورة العدم، أي أن العدم غير ضروري بالنسبة للإنسان وبالنسبة لله‏ جلّ ‏وعلا. وأما الطرف الموافق وهو الوجود فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا، كما في المثال الأول، إذ إن الوجود بالنسبة للإنسان غير ضروري كما أن العدم بالنسبة إليه ليس ضروريا. وأما بالنسبة للطرف الموافق في المثال الثاني، فإن ضرورة الوجود غير مسلوبة عنه، إذ إن الوجود بالنسبة لله‏ تعالى ذاتى لا ينفك عنه.
وقد يكون سلبا لضرورة الوجوب كما في قولنا: «الإنسان ممكن العدم»، و «شريك الباري ممكن العدم»، فإن ضرورة الإيجاب مسلوبة في المثالين، بمعنى أن الوجود غير ضروري بالنسبة إلى الإنسان وشريك الباري، وأما الطرف الموافق فمسكوت عنه، فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا كما في المثال الأول،

(59)


فإنه مسلوب لضرورة الوجود والعدم معاً؛ فلا الوجود ولا العدم ضروريان بالنسبة إليه. وقد لا يكون مسلوبا للطرف الموافق كما في المثال الثاني، فإن ضرورة العدم غير مسلوبة عن شريك الباري، بمعنى أن العدم ضروري بالنسبة إليه، وهو مقتضى أدلّة التوحيد النافية لوجود آلهة غير الله‏: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» (1)
تجدر الإشارة إلى أن وجه تسمية هذا الإمكان بالإمكان العام يعود إلى أن هذا المعنى للإمكان هو المعنى الأعم له، كما يُسمى عاميا لأن الإمكان بهذا المعنى هو الدارج حين الاستعمال عند عوام الناس.

3 ـ الإمكان الوقوعي:
ويعني إمكان وقوع وتحقق شيءٍ من الأشياء، فلا يلزم من فرض وجوده محال، كإمكان وجود إنسان له رأسان، وكإمكان اصطدام القمر بالأرض. وإنما يمتنع وقوع الشيء إما لكونه محالاً في ذاته كاجتماع النقيضين وارتفاعهما في شيءٍ واحد، أو لكونه محالاً لغيره، كاستحالة وجود المعلول لعدم علته. فالمعلول في حد ذاته ممكن إلا أنه استحال تحققه لعدم تحقق علته المفيضة له، إذ من الواضح أن المعلول عدم عند عدم علته.

4 ـ الإمكان الاستعدادي:
وهو قابلية مكنونة في شيءٍ تؤهّله لأن يكون شيئاً آخر كقابلية النطفة أن تكون إنسانا، وهذا الاستعداد ينحصر وجوده في الموجودات المادية، إذ إنها في حركة ونمو دائبين، فالنطفة تتحول إلى علقة والعلقة تتحول إلى مضغة، إلى أن تكون
 

1 ـ الأنبياء / 22.
(60)

إنسانا، والإنسان يتطور ويتغير من مرحلة إلى أخرى ... وهكذا.

ويختلف الإمكان الاستعدادي عن الإمكان الوقوعي في أن الأول مختص بالماديات ولا يشمل المجردات؛ لأن المجردات توجد وهي كاملة فلا تغيّر ولا تطوّر فيها، وأما الماديات فإنها في حالة تطور وتغيُّر، بخلاف الإمكان الوقوعي، فإنه شامل للماديات والمجردات على حد سواء.

(61)

1 ـ عرِّف ما يلي:
أ ـ الواجب. ب ـ الممكن. ج ـ الممتنع.
2 ـ اذكر مثالاً لكلٍ من الواجب بالذات وبالغير، والممتنع بالذات وبالغير.
3 ـ اشرح العبارة التالية:
«الشيء ما لم ‏يجب لم ‏يوجد»
4 ـ ما هو الإمكان الخاص؟ وضّح جوابك بمثال، وما هو وجه التسمية فيه؟
5 ـ ما هو الإمكان العام؟ وضّح جوابك بمثال، وما هو وجه التسمية فيه؟
6 ـ بيّن معنى الإمكان الوقوعي.

7 ـ ما هو المقصود من الإمكان الاستعدادي؟ وما هو الفرق بينه وبين الإمكان الوقوعي من حيث الشمول أو عدمه للموجودات المادية والمجردة؟