الجمعة، 27 ديسمبر 2013

نافذة على الفلسفة - الدرس الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثالث

الوجود و الماهية

(34)

 

تقدم في الدرس الثاني أن موضوع الفلسفة هو: الموجود بما هو موجود. والموجود هو الشيء الذي ثبت له الوجود، سواء كان ذلك الشيء نفس الوجود أو شيئاً آخر متصفا به، وأما الوجود فمفهومه بديهي مستغنٍ عن التعريف، وما قد يُقال في تعريفه: «أنه الثابت العين» أو «الذي يمكن أن يُخبر عنه» فهي تعاريف لفظية، (1) تُستخدم للتنبيه والإشارة إلى ما في الذهن من المفهوم البديهي وليست بتعاريف حقيقية، إذ ليست بأعرف من الوجود بل لا شيء أجلى من الوجود.

وأما الماهية فقد قيل في تعريفها بأنها: الواقعة في جواب ما هي أو ما هو؛ فإذا قلت: ما هو زيدٌ؟ وجاءك الجواب بأنه إنسان، أو قلت: ما هو الإنسان؟ وجاءك الجواببأنه حيوان ناطق، كان الجواب على هذا السؤال بذاته ماهية الإنسان. وبعبارة أخرى: أن الماهية بيان لحقيقة الشيء وذاته التي تميزه عمّا سواه.

1. والتعريف اللفظي ليس تعريفاً حقيقياً؛ لأن المعنى الدال عليه اللفظ واضح، ولم يؤدِ اللفظ المُعرِّف من دورٍ سوى دور الإيضاح للفظ آخر استعمل في ذلك المعنى، كما لو قيل: الغضنفر ما هو؟ فيقال: أسد، فمعنى الأسد لا يحتاج السامع إلى تعريفه، بل يحتاج إلى معرفة لفظ الغضنفر الذي دل على معنى الأسد، فالتعريف اللفظي تبديل لفظ مكان آخر.
(35)


وأنت حينَ تواجه موجوداً ما كجبل أبي قبيس، فتقول: «جبل أبي قبيس موجود»، فقد أشرت بالموضوع «جبل أبي قبيس» إلى ماهيةِ الشيء الذي واجهته، كما أنك أشرت بالمحمول «موجود» إلى وجوده. وهكذا بقية الأشياء التي تواجهنا، فإن لها ماهية كما أن لها وجوداً.

وبما تقدّم يظهر أنّ الماهية تختلف عن الوجود مفهوماً، أي أنّ ما يفهم من معنى الوجود غير ما يفهم من معنى الماهية، فكل منهما يختلف عن الآخر في الذهن وأمافي الخارج، أي خارج حدود الذهن فلا يوجد اختلاف، فهما متحدان في شيءٍ خارجي واحد، فنستطيع أن نشير إلى زيد الخارجي بالقول: هذا إنسان وموجود.

ولنا أن نسأل عن الشيء المتحقق في الخارج والذي سميّناه زيداً، هل هو مصداق لمفهوم الوجود أو إنه مصداق لمفهوم الماهية؟ وبعبارة أخرى: هل إن الوجود أصيل فيالخارج أم الماهية؟ فلو كان لكل منهما مصداق، لكان في الخارج مصداقان اثنان لا مصداق واحد، وبما أن الواقع الخارجي لا يوجد فيه إلا مصداق واحد، فلابدّ أن يكون هذا المصداق لأحدهما دون الآخر وإن انطبقا عليه، إلا أن أحدهما واقعي أصيل والآخر اعتباري، أي أن المصداق الخارجي المتمثل بزيد، يكون لأحدهما بالذات ومصداقاً للآخر بالعرض، وبعبارة أخرى: إنه مصداق للوجود دون الماهية، وإليك مثالاً يوضح المراد:
لو كان عندك ورقة بيضاء وشرعت بتلوين مساحة منها بلون أخضر، فإن

(36)


حاصل هذا التلوين سوف يكون شكلاً معيناً ولنفرضه شكلاً مربعاً، فإنك وبعد النظر إلى ذلك سينعكس في ذهنك مفهومان: أحدهما اللون الأخضر والآخر عبارة عن الشكل المربع الذي يُعدّ حداً للّون الأخضر، فمفهوم اللون الأخضر له مصداق حقيقي وهو اللون الذي ارتسم على اللوحة، وأما مفهوم الشكل المربع فليس له مصداقحقيقي في الخارج. نعم اللون الأخضر حيث ينتهي عند حدود خاصة فلابد وأن يكون له شكل معين وقد اتخذ هنا شكلاً مربعاً، وهو ليس إلا حداً فاصلاً يفصل وجود اللون الأخضر عن اللون الأبيض للّوحة، وأما الشكل المربع فلا عينية له في الخارج؛ بمعنى إنه لا يوجد في الخارج إلا اللون الأخضر؛ لأن الحدّ نهاية الشيء التيتميّزه عن غيره ونهاية الشيء لا تمثل شيئاً، وأما الشكل فلا مصداق له يمثله، بل إنَّ الذهن قد اِنتزعه من الوجود الخارجي للّون الأخضر.

وهكذا يتضح حال الوجود والماهية، فإن الواقع الخارجي للأشياء ليس سوى مصاديق لمفهوم الوجود، إلا أنّ ذهن الإنسان يرسم لهذا الوجود حدّاً يميّزه عن غيره من المصاديق العينية الخارجية التي تشترك معه في الوجود، فالإنسان مثلاً من أجل تشخيصه عن غيره من المصاديق الخارجية التي تشترك معه في الحيوانية يوضع له مائز يميّزه عنها وذلك المائز هو كونه ناطقاً، فيقال بأنه: «حيوان ناطق» أي أن هذا الإنسان يمتاز عن غيره من الحيوانات بأن له قدرة على التفكير وإدراك الكليات.
حصيلة ما تقدم هي: إن العينية الخارجية ليس فيها سوى الوجود ولا سهم للماهية فيه سوى أنها تنطبق عليه ويُنسب إليها اعتباراً، وهو ما يعبّر عنه بأصالة

(37)


الوجود واعتبارية الماهية.
وإلى ما تقدم أشار المرحوم الملاّ هادي السبزواري (1) في منظومته الفلسفية:
إن الوجود عندنا أصيل ** دليل من خالفنا عليل

وعلى خلاف هذا الرأي، ذهب آخرون إلى أصالة الماهية واعتبارية الوجود وأُنشِدَ لهم:
إن الأصيل عندنا ماهية ** دليل من خالفنا واهية

ولا نجد لزاماً بعد توضيح الفرق بين الماهية والوجود، لذكر الأدلّة على أصالةِ الوجود واعتبارية الماهية، ومن هنا ذهب البعض إلى بداهة المسألة وعدم الحاجة إلى إقامةِ البرهان عليها. (2)

وإذا اتضح ما تقدم، يظهر بجلاء إن الذي له تحقق خارج حدود الذهن ليس إلا الوجود، وأما الماهية فلا تحقق خارجي لها في ذلك. وبعبارة أخرى: إن منشأ الآثارللإنسانِ ـ مثلاً ـ هو الوجود لا الماهية، فالإنسان حينما يأكل ويشرب ويتحرك ويفكر ... فإنما يقوم بكل ذلك بوجوده الخارجي لا بماهيتهِ.

تجدر الإشارة إلى أن الفلاسفة المشّائين ذهبوا إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهية وفي طليعتهم «أبو علي ابن سينا» وقد تبلور رأيهم وتعزّزت أركانه بقوة في عهد الملاّصدرا حيث أقام عليه حججه الساطعة وبراهينه القاطعة. وعلى

1. الملاّ هادي السبزواري «1212 ـ 1289 ه» وهو الشيخ هادي بن المهدي السبزواري، حكيم وفيلسوف عارف، وفقيه ورع، شاعر بالعربية والفارسية، له كتب كثيرة، عدّها البعض (29) كتاباً، منها كتابه المعروف بـ «المنظومة» الذي تناول فيه بيان الفلسفة وأدلتها وردودها بأسلوب شعري بارع وجميل.
2. من أجل مزيد توضيح راجع الكتب المفصّلة كالبداية والنهاية للعلاّمة الطباطبائي حيث استعرض فيهما آراء الفريقين وأدلتهما وردودهما.
(38)


خلافهم ذهب الإشراقيّون إلى القول بأصالةِ الماهية واعتبارية الوجود، وكان في طليعة هؤلاء شيخ الإشراق «شهاب‏ الدين السهرَوَرْدي».

إنّ إحدى الفروق التي يمكن الوقوف عليها في مجال تمييز الماهية عن الوجود هو: أن الماهية تختلف وتتعدّد باختلاف الأشياء، فماهية الإنسان تختلف عن ماهية الشجر، وهما يختلفان عن ماهية الحجر...، بينما الوجود في كل الأشياء واحد مهما تكاثرت وتعدّدت، إلا إنه قد يختلف شدّةً وضعفاً من موجود إلى آخر، فنور الشمعةأضعف من نور المصباح ونور المصباح أضعف من نور الشمسِ وهكذا؛ فإن الوجود يبدأ بأضعف موجود وينتهي بأكمل موجود وهو الله‏ ـ جل اسمه وعلا مكانه ـ إلا أن الوجود واحد.

وبما أسلفنا يظهر أن الماهية تحدّد حقائق الأشياء وتميّز بعضها عن البعض الآخر بعد اتحادها في الوجود، فلولا الماهية لم يتحقق التحديد والتشخيص في الموجودات ولم تتضح حقائقها. ومن أجل معرفة الفارق بين الوجود والماهية تصوّرْ أن الوجود عجينة وضعناها في قوالب مختلفة، فإنها تتشخص بحسب القوالب التي صُبّت فيها، فتكون اسطوانية أو مكعبة أو مخروطية ...، فالعجينة بمثابة الوجود المتحد في الجميع، والقوالب بمثابة الماهيات المختلفة فيما بينها بحسب اختلاف مواردها ومشخصاتها.
(39)

1 ـ ما هو تعريف الوجود والموجود والماهية؟ مَثّل لكل من الماهيةِ والوجود بمثال؟ ثم بيّن لماذا اعترض البعض على تعريف الوجود والموجود؟
2 ـ وضّح ما يلي: «إن الماهية تحدّد حقائق الأشياء وتميّز بعضها عن البعض الآخر بعد اتحادها فى الوجود» واشفع توضيحك بمثال مقرّب للمطلوب.
3 ـ ما هو المقصود من أصالة الوجود واعتبارية الماهية؟ عزّز جوابك بأمثلة بيانية؟
4 ـ من هم القائلون بأصالة الوجود واعتبارية الماهية؟ ومن هم القائلون بأصالة الماهية واعتبارية الوجود؟


(40)