الأربعاء، 25 ديسمبر 2013

نافذة على الفلسفة - الدرس الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثاني

الفلسفة






(22)


جاءت كلمة الفلسفة من عبارة «فيلاسوفوس» أَي محبّ الحكمة، وهو اسم اختاره سقراط (1) لنفسه؛ وقد نقل مورّخو الفلسفة أن السبب في اختيار هذا الاسم شيئان:أحدهما: تواضع سقراط حيث كان يعترف دائماً بجهله، والثاني: تعريضه بالسوفسطائيين الذين كانوا يعدُّون أنفسهم حكماء (2)؛ أي إنه باختيار هذا اللقب أراد أن يوحي لهم، بأنكم لستم أهلاً لهذا الاسم «الحكيم»؛ لأنكم تستخدمون التعليم والتعلم لأهداف مادية وسياسية، وحتى أنا الذي استطعت ردَّ تخيلاتكم بأدلة محكمة، لا أرى نفسي أهلاً لهذا اللقب، وإنما أطلق على نفسي اِسم «محبّ الحكمة» (3).

وفي العهد الإغريقي القديم ومنذ أن سَمّى سقراط نفسه بهذا الاسم، صارت الفلسفة قديماً تستعمل في مقابل السفسطة المنكرة بأساليب مغالطاتها لحقائق الأشياء، كما إنها صارت شاملة لجميع العلوم الحقيقية كالفيزياء، والكيمياء، والطب، والهيئة، والرياضيات والإلهيات؛ وأما العلوم الاعتبارية كالنحو و
 

1. سقراط: «399 ـ 470 ق.م» فيلسوف يوناني، ولد في أثينا، عُرِفَ بأنه كان أستاذاً ذائع الصيت بالفلسفة والحكمة وعرف بـ «سقراط الحكيم». وينقل أن هتافاً كان يراود سقراط يرشده إلى الطريق الصحيح. و قد بلغ من العلم مرتبه فريدة.
2. حيث كان يطلق على كل منهم اسم «سوفيست» وهي كلمة يونانية تعني الحكيم.
3. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة: 1 / 14 ـ 15، الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي.
(23)


الصرف فهي خارجة عن حيز الفلسفة (1).

وبناءً على ما تقدم فإن الفلسفة قديماً كانت اسماً عاماً وشاملاً لقسمين رئيسيين من العلوم، النظرية والعملية، وبذلك فإن الفلسفة تنقسم إلى فلسفة نظرية، وتشمل تحت عنوانها ما ينبغي أن يعلم من المعارف كالرياضيات والطبيعيات والإلهيات. وإلى فلسفة عملية، وتشمل تحت عنوانها ما ينبغي أن يُعمل به من المعارف كالأخلاق وتدبير المنزل والسياسة.
وإليك مخططاً بيانياً للفلسفة وأقسامها المتفرعة عنها:

مخطط بياني للفلسفة وأقسامها 


1. تختلف العلوم الاعتبارية عن العلوم الحقيقية في أن العلوم الاعتبارية لا واقع لها سوى ما اتفق عليه المتفقون واعتبره المعتبرون، كما لو اتفق النحاة في لغة العرب أن يكون الفاعل مرفوعاً والمفعول به منصوباً. فلا وجود لأمثال هذه الأحكام في الواقع غير ما اتفق عليه المتفقون واعتبره المعتبرون وعلى خلاف ذلك، حال العلوم الحقيقية، فإنها تكشف عن حقائق ثابتة سواء علم الإنسان بها أم لم يعلم؛ فالجاذبية كانت موجودة ولها واقع ثابت ولم يكن لنيوتن من دور، سوى الكشف عنها.
(24)


بَيْدَ أن الفيلسوف لم يتمكن من مواكبة تطور العلوم واتساع رقعتها واستيعاب مسائلها وفروعها، فبعث ذلك على انحسار دوره وتقلص نشاطه في حدود بحث الإلهيات بالمعنى الأعم والأخص وتسمى بالعلم الكلي والفلسفة الأولى (1)؛ والأعم منها يبحث عن أحكام الموجودات بشكل عام ولا يختص بموجود دون آخر بينما تتناول الإلهيات بالمعنى الأخص إثبات وجود الله‏ الأقدس وصفاته جل وعلا.

وبذلك يتضح أن موضوع علم الفلسفة هو: «الموجود بما هو موجود»، أي أنها تتناول دراسة الموجود بشكل عام، لتحدد أحكامه بغض النظر عن خصوصياته. فمثلاً: إن البحث عن العلّة والمعلول لا يختص بموجود دون غيره، بل هو شامل لكل موجود؛ بينما البحث عن تركيب الماء ودرجة انجماده وغليانه وبقية خواصه، بحث عن الموجود بما هو ماء، له وجوده الخاص. وأما الإلهيات بالمعنى الأخص فإنها تبحث عن وجود الله‏ تعالى وصفاته وتختص به ولا تبحث عما سواها.
ودراسة الموجود بشكل عام التي تتناول الموجودات مجردها وماديها، يُطلق عليها اسم «الميتافيزيقا» وقد تصور البعض خطأ، أنها تختص بالموجودات المجردة غير المادية، إلا أن الصحيح شمولها للموجودات المادية والمجردة على
 

1. والوجه في تسميتها بهذا الاسم، هو أنها تُعدّ في مقدمة كل العلوم؛ إذ أنها تبحث عن وجود الله‏ الأقدس وصفاته الحسنى، كما أنها تقوم بإثبات موضوعات العلوم، فما لم يثبت في الفلسفة الوجود المادي الخارج عن حدود الذهن لا يتسنى للفيزيائي أن يبحث عن خواص الأجسام، ولا للكيمياوي أن يبحث عن طبيعة تفاعلات العناصر وهكذا. بل إن جميع العلوم مدينة إلى الفلسفة في مبادئها التصديقية، كمبدأ عدم التناقض وأصل العلية وقاعدة الانسجام، وهي من مباحث ومسائل الفلسفة، ومن أجل ما تقدم يكون للفلسفة، شرف التقدم على بقية العلوم، ولا نبالغ إن قلنا أنها أم العلوم.
(25)


حد سواء. فالبحث عن العلة والمعلول، والوجوب والإمكان، والحادث والقديم، والقوة والفعل وما شابهها لا يختص بالموجودات المجردة غير المادية بل يشملهما معاً.

ومن الجدير ذكره أن الميتافيزيقا مأخوذة من أصل يوناني هو متاتافوسيكا أي ما بعد الطبيعة وحوِّرت بالعربية إلى (ميتافيزيقا) وحسبما يعتقده مؤرخو الفلسفة، فإن هذه الكلمة استعملت لأول مرة في قسم من فلسفة أرسطو المتناولة لأحكام الوجود بشكل عام، وحيث أن هذا القسم من بحث الفلسفة قد كتبه أرسطو حسب ترتيبه بعد بحث الطبيعيات، لذلك فقد أطلق عليه اسم ميتافيزيقا، أي ما بعد الطبيعة.

تراود الإنسان أحياناً وقد تلاحقه تساؤلات حول الوجود ومعناه؛ وهل هو متناه محدود أو مطلق لا محدود؟ وكيف وجد وهل هو في غنى عن علةٍ توجده أو مفتقر إليها؟ وهل لله‏ خالق أو هو في غنى عن كل خالق؟ ولماذا لا يُرى الله‏ جهرة؟!
ومن جهة أخرى فإن الإنسان، هذا الموجود العملاق الذى حَلَّق في آفاق السماء ونفذ إلى أعماق الأرض وقعر المحيطات وفلق الذرة وابتكر العجيب والغريب، تراه حائراً يعيش الضياع والسأم؛ إذ لا هدفَ حقيقي يصبو إليه ولا رؤية كونية واضحة يمتلكها إزاء الوجود ولا شمولية ولا انسجاماً يلمسه بين مفردات الكون وفصوله، ومن أجل ذلك فإنه لا يعرف لماذا وضع قدميه في هذا العالم؟ و

(26)


لماذا يُفرض عليه الخروج منه مرة أخرى؟ ولماذا تكون الحياة جميلة إبان الطفولة والشباب، ثم تغدو رذيلة منغصة عند الشيخوخة وأرذل العمر؟!

ومن هنا فنحن بحاجة إلى ما يخفف قلقنا وينزع سأمنا ويبدل ضياعنا وضلالنا إلى هدى ونور ورَوْح وراحة، والفلسفة تؤدي هذا الدور؛ لأنها تعطي لكل ما تقدم من تساؤلات، إجابات مُبيَّنة وذلك بتحديد رؤية كونية واضحة عن الكون والوجود والحياة، لتتحدد لنا معالم المبدأ والمنتهى والسبيل بينهما. وبعبارة أخرى: إن الفلسفة تميط اللثام عن التوحيد والمعاد، والنبوة التي تُعد سَبيلاً للوصول إلى شاطئ المعاد بأمان بما تتضمنه من شرائع ومناهج وأحكام، فلا يغدو وجود الإنسان عبثاً ولا يُمسي كريشةٍ في مَهب الريح، بل يعرف نفسه ويعرف أنه من أين وفي أين وإلى أين.

وإذا كان دور الفلسفة الكشف عن‏ المجاهيل، وانتشال الإنسان من حالات الإبهام والضياع بحل شبهاته في ما يرتبط بأصل الوجود ومآله وحقيقته، فلا نبالغ إن أطلقنا اسم العلم عليها؛ لأن العلم يقوم بتسليط أضوائهِ الكاشفة على ظلمات المجاهيل ليُسفر عن هويتها وحقيقتها، وهذا بالضبط ماتؤديه الفلسفة لقرّائها ودارسيها.

نعم، إن أُريد من العلم حَصيلة الأفكار والنتائج التجريبية التي يتوصل إليها الإنسان في مختبره أو في مجال الطبيعة، فلا يصح حينئذٍ إطلاق اسم العلم على الفلسفة بهذا المعنى، بل وكذلك لا تصح تسمية كهذِهِ على التأريخ والجغرافيا، والفقه وبقية العلوم الإنسانية غير التجريبية.

 

(27)


تختلف أساليب التحقيق العلمي باختلاف ميادينها ومجالاتها، وذلك لأنك على سبيل المثال تجد فرقا واضحا بين البحوث التالية:
أ ـ البحث فى تاريخ نشوب الثورة ضد الإنجليز فى العراق.
ب ـ البحث فى أنواع الألوان.
ج ـ البحث في صياغة قانون عام فيما يرتبط بتمدّد الحديد بالحرارة.

فالبحث الأول يتناوله الأسلوب النقلي التاريخي بالدرس والتحقيق، ولا دور للأساليب العقلية والتجريبية في ذلك؛ إذ إن الإنسان الذي لم يعاصر حدث الثورة ضد الإنجليز في العراق مهما حاول بعقله وتجربته معرفة ذلك، فسوف يعجز عنه ولا يتوصّل إلى ما يريد. وأما البحث الثاني فإنه من مختصات الأسلوب التجريبي الحسي ولا دور للعقل والنقل فيه، فإذا حُرِم الإنسان باصرته فإنه لن ‏يحظى بمعرفة اللون الأحمر أو غيره من الألوان مهما وصفها الواصفون بنقلهم ومهما استدل أهل البرهان عليها بعقولهم؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى البحث الثالث فإنه وقْفٌ على الأسلوب العقلي، ولا نصيب للأسلوب التجريبي والنقلي فيه مهما جرّب المجرّبون ونقل الناقلون ذلك، إذ أن كل ما يجرّبونه وما ينقلونه لا يستوعب كل ما هو موجود أو مفترض من قطع الحديد المحكوم عليها بالتمدّد.
ومباحث الفلسفة تعتمد على الأسلوب العقلي في تحقيقاتها ودراساتها لمسائلها الفلسفية، إلا أنها قد تعتمد أحياناً على ظاهرة تجريبية لتجعلها منطلقاً لدراساتها العقلية والتأملية. (1)
 

1. ومن هذا القبيل النظر إلى بديع صنع الكون وعظمته ثم الانتقال بالتأمل والاستنتاج إلى وجود مبدع ومنظّم ومهندس من ورائه وهو الله‏ الخالق المصوّر، وهو ذات الأسلوب الذي اعتمده الأعرابي لإثبات وجود الله‏ جلّ اسمه حيث قال: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير؛ أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، لا يدلان على اللطيف الخبير؟!
(28)


ثم إن عملية الكشف عن مجهول بواسطة معلوم آخر تتم عبر طرق ثلاثة من الاستدلال:
1 ـ القياس:
وهو قولٌ مؤلفٌ من قضايا متى سُلِّمت لزم عنه لذاته قولٌ آخر، كما لو نقلت حكم الموت الثابت للإنسان إلى سقراط الذي هو فرد من أفراد الإنسان. فتقول:
سقراط إنسان.
و كل إنسان فان.
فسقراط فان.
ومثل هذه الحركة الفكرية يطلق عليها فى المنطق اسم «القياس» وهو مفيد لليقين في ظل شروط معينة وهي فيما إذا كانت مقدمات القياس يقينية، وقد تم تنظيم القياس بشكل صحيح. وقد خصص المنطقيون جانباً مهمّاً من المنطق الكلاسيكي لبيان شروط مادة وصورة القياس اليقيني وهو (البرهان)(1)

2 ـ الاستقراء:
وهو الانتقال من حكم جزئيات إلى حكم كليّتها، وهو على نحوين: استقراء تام واستقراء ناقص؛
أما الاستقراء التام: فهو من قبيل الحكم بالجد والمثابرة على كل من هو موجود
 

1. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة؛ الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي، دار التعارف للمطبوعات ـ 1418 ه ـ 1998م : 1 / 100 .
(29)


في المدرسة بعد إجراء اختبار لجميع من كان فيها من الطلاب.
وأما الاستقراء الناقص: فهو من قبيل الحكم على جميع أهل البلد بالاستقامة وحسن السيرة من خلال معاشرة عدد منهم.

3 ـ التمثيل:
وهو الانتقال من حكمِ جزئيٍ إلى حكمِ جزئيٍ آخر لاشتراكهما في معنى جامع بينهما، بحسب الظن أو الوهم، كما لو منع الوالد ولده عن معاشرة صديق من أصدقائه، إلا أنَّ الولد لم ‏يُعرِض عن معاشرة هذا الصديق فحسب، بل إنه أعرض عن صديق آخر له ظناً منه أن العلّة في المنع هي عنوان الصداقة، فانتقل من حكم الأول إلى الثاني لمشابهتهما في عنوان الصداقة.
وقد صرَّح أهل المعقول أن القياس البرهاني بكل أشكاله المنتجة يُفيدُ اليقين والقطع، كما أن الاستقراء التام يفيد ذلك أيضاً، وأما الاستقراء الناقص والتمثيل فلا يفيدان سوى الظن؛ ومن الواضح أن المفيد في الاستدلال هو اليقين لا الظن، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً.

(30)

1 ـ ما هو وجه تسمية الفلسفة بهذا الاسم؟
2 ـ يقال: أنَّ الفلسفة شملت في العهد الإغريقي القديم جميع العلوم الحقيقية، وضّح هذه العلوم بمخطط بياني.
3 ـ لماذا لم يتمكن الفيلسوف في مقطع من الزمان استيعاب جميع العلوم؟ وفي أي حدود انحصر بعد ذلك دوره ونشاطه الفلسفي؟
4 ـ ماذا يُقصد من الإلهيات بالمعنى الأعم والإلهيات بالمعنى الأخص؟
5 ـ ما هو موضوع علم الفلسفة؟
6 ـ ما هو وجه تسمية البحث عن الإلهيات بالميتافيزيقا؟ وما هو ردّك على توهّم البعض في أن البحث الفلسفي مختص بالموجودات المجردة دون الموجودات المادية، بدعوى أنّها لا تمتُ إلى البحوث الميتافيزيقية بصلة؟
7 ـ ماذا يُراود الإنسان أحيانا أو يلاحقه من تساؤلات حول مبدأه ووجوده ومصيره...؟ ولماذا يشعر بالسأم والضياع في حياته؟
8 ـ ما هو دور الفلسفة في إضفاء الروح والراحة والاطمئنان على حياة الإنسان؟
9 ـ هل الفلسفة علم من العلوم؟ ولماذا؟ و ما هي حجة من رفض إطلاق اسم العلم عليها؟
10 ـ اذكر مع المثال أساليب وطرق التحقيق في المعرفة الإنسانية؛ وبيِّن الأسلوب المعتمد في تحقيق المسائل الفلسفية.

11 ـ إن للاستدلال طرقا ثلاثة، اذكرها مع أمثلتها ثم بيِّن المفيد منها للقطع.