الجمعة، 11 أبريل 2014

بين العقل والإيمان.

بسم الله الرحمن الرحيم

لم تعد الأمور بتلك البساطة المعهودة ولم تعد بتلك السهولة المتوقعة.
مع تطور الفكر يتغير الموقف ويتذبذب الرأي
فتتغير العلاقة بين المفاهيم من شكلٍ لآخر

اليوم أقدم وجهة نظر جديدة بالنسبة لي ولا أظنها جديدة في واقع الفكر والاطلاع

والله من وراء القصد


قد قال المتنبي 

                             وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً     تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

فغاية المرام، ورغبة النفس أن تصل إلى اليقين. وقد لحقت اليقين منذ سنوات طويلة، ربما منذ أكثر من 9 سنوات، تقلبت فيها بين بطون الكتب العلمية، في عدة تخصصات علمية فلم أجد يقيناً في العلم، فتوجهت إلى علم الاجتماع، ومنه انطلقت في فضاء المعرفة الفكرية والنظريات العقلية، وإنشاء الاطر الفكرية التي تطابق الواقع، فوجدت نفسي استحساناً ومحبة له، لأن الفكر هو عشق قبل أن يكون عمل. 

وتطور البحث، فدخلت في الفلسفة، وهي نتيجة ضرورية لمن يدخل في متاهات علمي الاجتماع والنفس، فالفلسفة رديف وأساس لتلك العلوم، لأن الفلسفة ستحددك وتحدد اطارك، ولهذا دخلنا الفلسفة. 

ونظرت للمسألة، فوجدتها استدلالات عقلية ونقاشات معمقة، يُسهَب فيها ويتشعب الحوار، ولا أشك في أن القارئ إن فتح كتاب فلسفة إسلامية، ولا أقصد مقالاً، أو كتاباً تعليمياً، بل كتاباً من تلك الكتب التي يدرسها ويدرّسها المختصون سيجد الأمر شاقاً لا بل مملاً وغريباً. فجاهدت النفس وارغمتها على قبول الفلسفة، فحصل المرام وتعمقنا بها. 

ومع الأيام، أخذ قارب العقل بالسباحة مع التيار، وتركنا التجديف فالتيار أقوى، وفي الرحلة تأملنا، ووجدنا اختلاف المناظر وتضارب التيارات وعصف الرياح. إنها رحلة جميلة، ولازلت بلا شك بعيد كل البعد عن المصب، ولكن الفارق الآن، فإني اعدت المجذاف، وأسبح مع التيار. فتركي للمجداف جعلني أسبح مع كل تيار، وأدور حول نفسي، فكنت بلا حول ولا قوة، وكان النهر أقوى مني. والآن مع السباحة مع التيار، وبوجود المجذاف استطعت ان استفيد من قوة النهر في دفع نفسي وتوجيهها. 

وقفت على مفاهيم وأفكار، ووجدت اتفاقات واختلافات، ورأيت دعاوي لا تستطيع حمل نفسها، فاضطررت للعودة إلى الأساسات. وكما قيل، أصعب الأمور تفسير التفسير! وأن تصل إلى مسألة لا يوجد لها تفسير، فعندها يتوقف عقلك، أو لنقل يصطدم بحدوده. وهذا ما حدث معي. 

ولأن مرامي كان اثبات وجود الله والوصول إليه عقلياً، تبين لي أن براهين وجوده العقلية تقوم على البديهيات والمسلمات، فما السبيل لإثبات تلك البديهيات؟ ولو تقفيتم أساطين المفكرين وعلمائهم، لوجدتم النزاع حول تلك المواضيع يقع في كتب من مئات الصفحات، وجل اهتمام تلك الكتب اثبات عدد بسيط من الأفكار أو دحضها. 

وقد قلت سابقاً بأني من جنس الفلاسفة، ولازلت، ولكني اليوم، ابتعدت عن يقيني أن الفلسفة ستقود لأجوبة! فقد وجدت أن الفلسفة تفتح باب الاحتمال وتضع لنا الحدود وتبين لنا المشاكل الفكرية عن طريق اعادة فهم الأوليات والأساسيات وصياغة المفاهيم بطريقة محبوكة بيّنة. ولا أعلم إن كان المستقبل قد يقودني للعودة عن آرائي ولا استبعد حصول هذا. فتوجهت إلى علم الكلام وفهم بعض أسسه، فلم أجده يختلف عن الفلسفة إلا في أمر جعله مميزاً في نظري، فبعد أن كنت أحسب أن المتكلم هو فيلسوف آخر، تغيرت معرفتي به بعد أن أدركت أن المتكلم سخّر الفلسفة في اثبات قضيته ولم يتبعها مطلق الاتباع. وهذا هو فيصل الفرق بين الفلسفة والتكلم.

فالمتكلم ينطلق من إيمانه بالله وباستخدام الأدوات العقلية ليصل إلى مفاهيم أعلى وأعمق، دون التنازل عن مجموعة الأفكار التي يقرّها الدين وتتلائم مع النفس الإنسانية. نعم إن منهج المتكلمين أفضل وأعمق وأدق من منهج الفلاسفة برأيي، فالمتكلم راسخ الأساس متين الاعتقاد، ينطلق باستخدام أدوات العقل لاثبات أسسه الفكرية. ولا يعني هذا أن مطلق المتكلمين هكذا، ولكن عمومهم هكذا. 

إن قضايا مثل صفات الله ووجوده وعلمه وقدرته هي مسائل لا تستطيع الفلسفة البت بها من قريب أو بعيد، ولكن وعلى العكس، فعلم الكلام يستطيع الاستفادة من الأداة الفلسفية في اثبات أن ما تقوله الأديان هو أمر عقلي قابل للتصديق. وبالتالي فالفيلسوف إن أراد الاعتراض على المتكلم، فالاعتراض يجب أن يكون حول الأسس العقلية المستخدمة وليس حول النتيجة التي وصلنا لها، مع تذكر أن الفيلسوف إن طبق منهج اللاأدرية فتحول للسفسطة لن يثبت أي شيء. 

وأتذكر، ومن كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، أن المتكلمين المسلمين نسبوا نفسهم للفلاسفة وأنا لا أوافقهم على هذا حالياً، إنما نستطيع القول إننا من جنس الفلاسفة والفلاسفة أجناس! وميزة الفلاسفة عموماً هو استخدام البديهيات للوصول للاجابات. فهل في هذا إشكال؟ 

ونحن نعلم الآن، أن العقل محدود ولكنه قابل للتوسع، ونعلم أيضاً أن الإنسان مفتقر للمعرفة ذاتاً، ونعلم أن توصله للمعلومة والتجريد يتطلب وجود الحواس، ونعلم أيضاً أن ثبات المعرفة وجمودها أمر ممتنع، ونموها وتغيرها أمر حتمي، ونعلم أيضاً أن العلم لا يحذف ما قبله إلا إن كان خطئاً، فالعلم يتوسع ويكبر. ومع هذا فالعلم يفند الوصول إلى يقين بالشيء وحقيقته، ولكنه يطور مفهومنا للشيء، وإن قلنا تجاوزاً أن كل ما يثبته العلم هو وجود "الخارج" فلن نكون قد ظلمناه أو بخسنا حقه!

ولأن العلم منهج عقلي أيضاً، فهو يقوم على افتراضات عقلية رياضية، وهذا كلام يدركه من يتابع الرياضيات ويفهم بها، فهو أيضاً يطابق الفلسفة في النشاط العقلي ولكن مع اختلاف المنتج، فالعلم يهتم بالجزئيات والفلسفة بالكليات. العلم يهتم بوصف الوجود والفلسفة بأقسام الوجود. ومن العقل توصلنا إلى مفاهيم كثيرة ومعقدة جداً واستطعنا أن ندمجها مع فكرنا الإسلامي.

على أن، وهذا اعلان مني، الفكر الديني بشكل عام يقوم باستغلال الأداوت الفلسفية لاثبات زعمه، كما يستخدم المخالف لنا الأدوات الفلسفية لاثبات زعمه، فأين يتركنا هذا مع الفلسفة؟ لمن تتبع الفلسفة والعلم؟ لمن نستطيع الاحتكام؟ من يحمل الجواب؟ ومن يملك مفاتيح الحل؟ 

وهنا يدخل المنهج الثالث بعد الفلسفة والكلام: العرفان. فلا معنى أبداً للإيمان بدون عرفان. الإيمان منهج قلبي يتبع العرفان! العرفان يعني أن تعرف الله تعالى وتدركه، ولا شك لمن بحث وقرأ أن يكتشف أن من أساطين العارفين بالله من المتكلمين! وأقصد بالأساطين ملا صدرا والغزالي، فهل هذه مصادفة؟ لا طبعاً. ليس لأن الأمر كما يتصوره البعض من عجز الفلسفة وعدم قدرتها مع علم الكلام أن تنتج يقيناً، بل لابد من وجود معرفة بالله كي يتم اليقين! 

ولهذا فأنا ولأني كنت مخطئاً في تصوري حول طرق معرفة الله ووجود اليقين، وكنت اعتبر المسائل الفكرية تأتي بالبناء التدريجي اثبات الحقائق واحدة تلو الأخرى، والآن أقول كلا. مع إني سأحتفظ بتلك المنهجية في تأسيس من لا يملك أساساً وتعليم من يبحث عن العلم، ثم سأقوم بإفهامه بكل بساطة أن المناهج مترابطة مثل العقد، ولا يمكن فكها عن بعضها البعض. فالطالب يحتاج اولاً لاثبات الله واثبات انه واحد وانه فاعل مختار وانه حكيم وانه  يريد خلق البشر والاتصال بهم، مع أن هذه القضايا ليست متدرجة، بل مترابطة وليست احداها نتيجة للأخرى، كما كنت احسب سابقاً، بل هي القضية كلها هكذا تؤخذ كقالب واحد! التجزئة والتبسيط هدفها تعليمي بحت كما ارى الآن، وليس أن الحق متدرج ومتسلسل.

ولعل أفضل ما أوضح به قصدي هذه الصورة التي تجعل الله مركزاً لكل الأفكار والبحوث والمحاور الخلافية:



وبالتالي فهذا يجعل المؤمن والملحد والفيلسوف والعالم والمخالف والانسان العادي كلهم يدورون في حلقة مركزها الله، واجب الوجود! وليست القضية بهذه البساطة وبتلك الصورة الساذجة التي قد يتخيلها البعض، فأنا لست من دعاة المنهج الإنساني ولا ربوبي ولا متعصب، إنما أنا من دعاة التفاهم والتعايش والبحث عن الحقيقة في المنهج! 


اذن شاء الملحد أم لم يشأ، فهو يدور في تلك الحلقة التي مركزها وجود الله والإيمان به، ولا يستطيع الملحد أن يخرج من هذه الحلقة الا باستبدال الله بشيء آخر مبني على أزلية المادة، أو يتبع منهجا لا أدرياً فيرى الله مجهول ولا يمكن اثباته، أو يتبع منهجاً ربوبياً فيرى صفات الله مشكلة!

إن المناهج القلبية هي الأسلم عموماً بعد دمجها بالمناهج العقلية في الوصول إلى الله، فمن يسير خلف قلبه لن يصل ومن يسير خلق عقله لن يصل. نحن نحتاج لدمج الاثنين، ولا مانع من تغليب أحدهما على الآخر حسب الظروف والاقتضاء. هذا ما أراه حالياً وفق المعطيات التي قرأتها من تجارب السابقين، ولعل من المفيد أن أسير في هذا الاتجاه، وهذا ما أنوي فعله في المرحلة القادمة. نسأل الله السداد والتوفيق لنا.

اذن حياة المؤمن كلها رحلة تعلم ونمو ونضوج، وليست قوالب جامدة يفكر بها ويعيش بها. فالمؤمن كما قيل المؤمن كيّس فطن، وهو للعلم حديث موضوع على شرط علماء الحديث. فما أعلمه الآن أن المناهج تتكامل لا تتعارض، ولا نكتفي بمنهج دون منهج ولا يمكن للعقل وحده ان يجيب ولا القلب وحده أن يحل المسألة. نحن عالقون في تلك الدائرة ولا يمكننا الخروج منها بسهولة! ومن خرج منها فقد فرط العقد وضاع ولن يستقر على شيء. 

في البحث عن الحقيقة يجب أن لا نستخف بعقل أو منهج شخص مطلقاً. 

والله ولي التوفيق.