بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
اليوم أنقل لكم مقالاً وجدته في موقع البلاغ، وقد اعجبني جداً
طبعاً المقال من النوع الطويل فهو يصلح للقراءة على مراحل
قراءة ممتعة
أين الطريق؟
أمواج عاتية من الرمال تنقضّ على الطريق العام.. تتراكم عليه شيئاً فشيئاً.. في البداية كانت تبدو للناظر ملامحه العامّة، ثمّ ومع مرور الوقت وتزايد الرمال.. طمست معالم الطريق وتمّت تغطيته حتى يعد بسائقون يعرفون طريقهم.. فظلّوا وتاهوا..
سائقون آخرون ساروا على طريق أخرى متصورين أنّها الطريق الرئيسية ثمّ انتبهوا.. وعادوا..
طائفة أخرى من السائقين.. أوقفت السير لفترة حتى تتولى عملية تنظيف الطريق مما تكدّس عليه من رمال طمسته..
طائفة أخرى.. لم ترد أن تتعب نفسها في عمليات التنظيف الجارية.. فوقفت في الانتظار لحين فتح الطريق الجديد..
بعض السائقين اختار طريقاً أخرى غير مصمّمة لسياراتهم.. ظنّوها أسهل وأقصر.. فوقعوا في بعض المطبات والكمائن التي كان منصوبة لهم في الطريق الآخر.. فأسر بعضهم ولم ينج من الأسر.. وسقط بعضهم ضحية الاختيار الخاطئ.. وأصرّ البعض الآخر على السير في هذا الطريق حتى نهايته.
هذه هي – باختصار – قصتنا مع طريق الإسلام..
شقّه في البداية النبي محمد (ص).. حدّد منطلقاته ومعالمه ونهاياته.. وأوضح سبيل السير عليه.. ووضع علامات المرور التي تجيز العبور أو تمنعه، أو تسمح به أحياناً، ولا تسمح به أحياناً أخرى.. وكان يعمل على إزالة الرمال التي تعترضه أولاً بأوّل.
جرّب المسلمون الأوائل السير على الطريق التي شقّتها النبّي (ص).. ساروا بإيمان وأمان ووصلوا إلى مقاصدهم سالمين غانمين.
بعد رحيلة (ص).. راحت الرمال تجتاح الطريق بين الحين والآخر.. فانفسهم السائرون عليه إلى التصنيفات التي ذكرناها.
والطريق اليوم يشهد التصنيف نفسه: سائقون تائهون.. سائقون منتظرون.. سائقون متطوعون في حملات التنظيف.. سائقون اختاروا طريقاً لا يناسب سياراتهم.. فأصيبوا بحوادث مؤسفة كثيرة.
وكل سائق يريد السير على الطريق الرئيسية يحتاج إلى أن يعرف خريطتها وأن يحصل على الإجابة على أسئلة من قبيل: من أين الانطلاق؟ وكيف المسار؟ وإلى أين ينتهي الطريق؟ ما هي المشكلات التي تعترضني إذا سرت في هذا الاتجاه؟ كيف أحلّها؟ ماذا لو خرجت عن الطريق سهواً أو عمداً؟ كيف يمكن أن أعود إليه مجدداً؟ كم أحتاج من الوقود حتى أصل؟ بأيّ الزاد أتزوّد أثناء الطريق؟ هل هناك محطّات للتوقف والتزوّد؟ هل أحتاج إلى أن أصطحب مرافقاً يؤنسني في الطريق ويخفِّف عليَّ وحشته؟ ماذا لو عطلت السيارة؟ هل أحتاج أن أتعلّم كيف أعالج بعض الأعطال أم أبحث عن الميكانيكي الذي يتولّى ذلك؟ هل هناك ميكانيكي متوفر دائماً لهذا الغرض؟
أسئلة لابدّ لكل سائق أن يطرحها على نفسه.. أسئلة جوهرية وليست بَطَريّة أو ترفيّة، فليس المهم أن أسوق على الطريق العام بأي شكل كان.. المهم أن أعرف (قانون السير).. وأتابع النشرة الجويّة، وأحتاط للطوارئ، وأختار اللوازم الضرورية للرحلة، وأن تكون معي خارطة تفصيلية لتحركاتي وتنقّلاتي وإقامتي.
تجارب فاشلة:
بعض السائقين مصاب بمرض الغرور، يتصوّر أنّه بمجرد أن تعلّم السياقة وأدار مقود السيارة.. فهو قادر على اجتياز المسافات البعيدة، والمخاطر العديدة، بدون معرفة إشارات المرور ومسالك الطريق.. فيقع في المطلبات والمخالفات وربّما الحوادث المؤسفة.
بعضهم.. يعلمها جيِّدة.. لكنّه يخالفها إذا غاب شرطي المرور.. وقد يؤدي به ذلك إلى ارتكاب جريمة سير.. وبعضهم يراعيها حتى مع غياب الرقيب لأنّه يعرف أنّ في مراعاتها سلامته وسلامة الآخرين.
وبعضهم يراعيها تارة.. ويخالفها تارة..
والبعض الآخر يجهلها تماماً، ولا يريد أن يتعلّمها.. فكثيراً ما يوقعه جهله في المخالفات الشديدة، والحوادث الفظيعة، والأضرار الفادحة به وبسيارته وبالآخرين.
حال هؤلاء كحال الشباب المسلم اليوم.. سواء الذين لا يتعلّمون أصول دينهم.. ولا طرق السير من أحكامه، ولا المخالفات الشرعية التي توقعهم في الإثم والمعصية..
وكما أنّ القاعدة في قانون السير هي أنّ الالتزام بالقونون يكفل سلامة السائق، وسلامة الذين معه، وسلامة الذين يشاركونه السير على الطريق ذاتها.. كذلك هو قانون الإسلام..
وكما ينتفع السائق من تجاربه.. يستفيد أيضاً من تجارب القيادة والسائقين الآخرين فلا غنى له عنها إن أراد تحقيق المزيد من السلامة..
سعادات ناقصة؟
تقول (سعاد): جرّبت متعاً كثيرة.. حصلت على المال.. اشتريت ما أشتهي.. من ملابس وزينة وكماليات كثيرة.. سافرت وتنقّلت.. لقد أمّنت الكثير من حاجاتي المادية.. لكنني كنتُ دائماً أتساءل: هل أنا سعيدة حقاً؟ وهل المتع التي جنيتها جعلتني أشعر بالسعادة الكاملة؟
- إن شيئاً ما ينقصني.. لا أدري ما هو؟!
- هل سأعرفه أو أعثر عليه؟
- شيء ما في أعماق نفسي يقول لي نعم.
يقول (رياض): حصلت على الشهادة.. تخرّجت.. توظّفت.. تزوّجت.. أنجبت.. نلتُ من الحياة الكثير من أمنياتي.. هل هذا هو كل شيء في هذه الحياة.. هل المطلوب منِّي الآن أن أستزيد من ذلك الذي حصلت عليه مالاً وبنين ومناصب؟
وتقول (سميرة): قرأتُ عن الأثرياء فوجدت الكثيرين منهم ليسوا بالسعداء.. وشاهدت الكثير من الأصحّاء وهم يشتكون من غير علّة.. اطلعت على سيرة العديد من الجميلات اللواتي لم يحقِّق لهنّ جمالهنّ الشعور الداخلي بالسعادة.. كانت المرآة ونظرات الإعجاب تقول شيئاً.. والنفسُ تقول شيئاً آخر.. والتقيت بأُناس حقّقوا نجاحات ماديّة لا بأس بها في الحياة.. لكنّهم كانوا يشعرون في قرارات أنفسهم أن نجاحاً آخر لم يصلوا إليه بعد؟
- ماهو؟
- إنّهم يفتِّشون عنه هنا وهناك كلّما اصطدموا بالسعادة الناقصة.
مشكلة الشباب المعاصر:
- ما هي مشكلة الشاب المعاصر؟
- إنّه إنسانٌ محاصر.
- محاصرٌ بماذا؟
- محاصرٌ بـ:
1- الضغوط المادية: هناك حالة لهاث وراء المادة وطمع وجشع وقيم مادية استهلاكية لا تنتهي..
2- الضغوط النفسية: هناك قلق وكآبة وخوف إحباط وخيبة..
3- الأسئلة الحائرة: لماذا الحياة؟ لماذا الموت؟ ما هي الغاية؟..
4- الأنانية: شعار نسبة لا يستهان بها.. إذا متّ ظمآناً فلا نزل القطرُ!..
5- الواقع المرير: ضياعٌ بين الآمال والرغبات والتطلّعات، وواقع يزداد صعوبة وقسوة وجفافاً..
الشاب المعاصر تتطور (الحياة المادية) حوله بشكل سريع وهيب.. وتخبو شعلة (الحياة المعنوية) حتى أن زيت سراجها يكاد يجفّ..
أين (الألفة الإجتماعية)؟
أين (الحبّ النابع من أعماق القلب والذي لا يطالب بالتعويضات أو بالمقابل)؟
أين (الإكبار والإجلال لقيم مثل الصدق والتعاون والإخلاص وحسن الظنّ)؟
أين (الشعور بالدفء والأمن والرضا والقناعة)؟
أين (جرعة هدوء، ورشفةُ قبول، ونسمة استقرار)؟
الحياة المادية.. تجلبُ متعاً كثيرة.. تخفِّف من متاعب العمل والطبخ والتنظيف والتنقّل والبحث عن المعلومات، لكنّها تجلبُ أيضاً أوجاعاً كثيرة تطرحها أسئلة تصدّع الرأس:
- كيف لي أن أؤمِّن هذه المتطلبات لأكون مواكباً لعصري؟
- بالمزيد من الجهد والعمل.. فبدلاً من العمل لوجبة واحدة، أعمل لوجبتين.
- هل سيؤثر ذلك على صحّتي؟.. على علاقتي بأهلي والناس؟.. بثقافتي وتعليمي؟.. بديني والتزماتي؟
- هذه أسئلة تأتي ضمنية وعابرة وكأنّ المعني بها غيري.. وقد لا أجيب عليها.. فالجواب عليها سيأتي لاحقاً.. المهم الآن أنّ الحق بقطار عصري وإلاّ فاتني.. فلقد سبقني إليه كثيرون.
- هل سيدركه؟
- ربّما.. ولكن بعد فوات الأوان.. بعد أن يكون قد عجز عن تأمين الإجابات الشافية عن أسئلة، كان يعتبرها عابرة.. وأصبحت اليوم بعد أن تقدّم به العمر وتدهورت الصحّة.. ملحّة وضرورية.. ولكنّه عاجز عن تعويض ما فات، أو إصلاح ما فسد إلاّ ما رحم ربِّي؟
نظرات قاصرة:
مشكلة الشباب مع الدين ترجع في تقديرنا إلى طبيعة نظرتهم إليه، فمنهم:
* مَن ينظر إليه (نظرة تجزيئية) فهو ينظر إليه على أنّه مجموعة عبادات فقط.. والقصر الفخم الجميل لا يُنظر إليه من خلال غرفة واحدة، فهي لا تعطي الانطباع الكامل عن القصر.
* مَن ينظر إليه (نظرة سطحية) غير متعمّقة.. أي أنّهم ينظرون إلى الصورة والجسد والمظهر لا إلى المضمون والروح والجوهر، فلا يرون في الصلاة إلاّ حركات آلية فارغة المحتوى.. ولا في الصوم إلاّ الجوع والعطش وقائمة من الممنوعات، ولا في الحج إلاّ الدوران حول أحجار جامدة، ورمي جدران صخرية بحصى بلهاء.. وهكذا..
* مَن ينظر إليه (نظرة مقارنة) لكنها ليست موضوعية، فهو يقارن المادي عند غيرنا بالروحي عندنا، فيرجح لديه الماديّ الغارق في ماديته ومتعه وشهواته وإباحياته.
أو يرى الروحي المترهبن فيقارنه بالروحية غير العالية لدى المسلمين.
وربّما قارن آداب بعض المجتمعات بأخلاق المسلمين الواقعية فسخر من هذه وعظّم تلك.
وقد يقارن العلمي من خلال التقنية وينسى إبداعات العقل الأخرى.
* مَن ينظر إليه (نظرة نظرية) مجرّدة، أي أنّه جملة شعارات ونصائح ومواعظ وإشادات وأخلاقيات لاتمت إلى عالم الواقع بصلة، أي أنّه ليس (دين برامجي) يدعو إلى عمران الحياة بكلّ ما يحقِّق لها الازدهار والتنمية والتطور، ويضع الحلول للكثير من المشاكل التي تجتاح المجتمع أو تعصف بالفرد.
يقول المؤرخ الانجليزي ويلزم في كتابه (ملامح تأريخ الإنسانية):
"إنّ أوروبا مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية".
* مَن ينظر إليه (نظرة تأريخية) تراثية، فيرى أنّ الدين كان صالحاً لفترة مضت، لأنّه استطاع أن يحقِّق في تلك الفترة بعض الإنجازات والأمجاد والإبداعات، لكنه لا يرى لذلك أثراً في الوقت الراهن، فالدين لدى هؤلاء أصبح من مخلفات التاريخ، وينبغي أن يودع في (المتحف).
* مَن ينظر إليه (نظرة واقعية) ولا نعني بالواقعية الموضوعية، وإنّما تراه يطّلع على الدين الإسلامي من خلال واقع المسلمين أنفسهم، فيرى: البؤس والفقر والجوع والتخلّف والجهل والأُمِّيّة والخرافات والإزداوجية والإنكسارات العسكرية والأنظمة القمعية فيولِّي فراراً.
* مَن ينظر إليه (نظرة ترفية مصلحية) فهو قد يتزين بزي الدين إذا رأى أنّه يدر عليه مصلحة ما، فإذا وضع على محك الاختبار تكشّفت عوراته.. "الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون"!
لماذا واقع المسلمين بخلاف دينهم؟
ينظر بعض الشباب – كما ذكرنا – إلى الإسلام من خلال واقع المسلمين المزري فلا تعجبه الحال، ولا تشدّه الصورة، ولا تجتذبه الأعمال والتصرفات.
أين الخلل؟
لابدّ من تبيان الأُمور التالية:
1- التخلّف لدى المسلمين لا يعني أنّهم أدنى مستوى، وأضعف عقولاً وإرادات عن سواهم من الأُمم والشعوب وأبناء الديانات الأخرى، فهو ليس قدراً وإنّما هو حالة عارضة وإن طال بها الزمن.
2- للتخلّف أسبابه الداخلية والخارجية، فداخلياً ما تزال مناهجنا نظرية وقاصرة عن تفعيل الأسباب الأساسية للنهضة ومنها الدين.
وخارجياً، تعمل دوائر سياسة مخابراتية واستشراقية واستكبارية دولية وإقليمية على إبقاء الحال على ما هو عليه لتبقى الأمّة الإسلامية صيداً سهلاً.
3- التخلّف ليس تهمة تلصق بالإسلام، بل هو مسؤولية المسلمين، فالإسلام – بكل عقائده وشرائعه وأخلاقه – دين نهضة وحضارة ومدنيّة وحياة، لكن تقاعس المسلمين حشره في الزوايا الضيِّقة، فالعيب فيهم وليس فيه.
4- التأريخ يشهد أنّ المسلمين الذين يأخذون بأسباب العلم والقوة كما دعا إليها الإسلام، وفي أي عصر كان يمكن أن يبدعوا ويتفوّقوا على الأمم الأخرى في إنجازاتهم ونتاجاتهم الفكرية والعلمية والأدبية، وأن يحرزوا الانتصارات، ويحقِّقوا المكاسب الكبيرة.
5- في نظرة مقارنة إلى بعض آداب التعامل لدى الغربيين، يتضح أن السرّ فيما يعجبنا ويجتذبنا من تلك الأخلاق والسلوكيات قد قال به الإسلام فعلاً ومنذ وقت مبكر، حتى أنّك لا تحتاج أكثر من أن تضع تحت كلّ قاعدة سلوكية لديهم حديثاً شريفاً يناسبها لتعرف أنّنا (علّبنا) ثقافتنا، وأنّهم (سيّلوها) في الواقع، فصارت مواقف عملية وآداب سلوك، وجزءاً من التعامل اليومي، في حين أنّنا لا نتذكر قواعد السلوك إلاّ في خطب أئمة الجمعة، وأحاديث خطباء المنابر، وكتب السيرة، وكأنّ مكانها هناك تحديداً وليس على أرض الواقع!
النظرة المقترحة:
بدلاً من مناقشة كلّ نظرة أو رأي على حدة، لأنّنا نقدِّر الأسباب الموضوعية التي تقف وراءها، نفضِّل أن نقدِّم النظرة المقترحة التي يمكن أن نصطلح عليها بـ(نظرة الاحترام) للدين على اعتبار أنّه قائم على منظومة احترامات سواء للأفراد، أو الجماعات، أو للقانون، أو للحقوق، أو للتنوّع.. الخ.
1- احترام التنوع والتعدد البشري:
وذلك انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13)، فالناس إمّا أخ لك في الدين (مسلم) أو نظير لك في الخلق (إنسان)[1].
2- احترام الكرامة الإنسانية:
أي أنّ الدين الإسلامي يطالب بصيانة كرامة الإنسان وسمعته وشخصيته وهويته وشرفه وقيمه وحياته من العدوان أو الهتك أو المصادرة، أو التلويث والتدنيس: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الأسراء/ 70)[2].
3- احترام العقل:
لأنّه آلة اكتشاف الكون كلّه، والبحث في أسراره، واستنطاقه واستخراج كنوزه، والواسطة لمعرفة الله ومعرفة الإنسان لنفسه، ولذلك خاطب الله في القرآن أصحاب العقول للتأمل في العظمة لأنّهم الأقدر على فهمها، والإقرار بعظمة موجدها وخالقها، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ (الحج/ 46)، ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ (الروم/ 50)[3].
4- احترام الدين:
أي احترام الديانات الأخرى وطقوسها ومعابدها، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ (البقرة/ 285)، وعدم إكراه الناس على تبنّي أو اعتناق دين وعقيدة معينة، ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة/ 256)، ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس/ 99)[4].
5- احترام العلم:
فنحن أمّة (القراءة) حسب الأمر الإلهي الصادر من السماء، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق/ 1).. ونحن أمّة (الكتابة) أيضاً، ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ (العلق/ 4)، واعتبر الإسلام العلم ميزة وقيمة ثابتة للتفاضل بين الناس. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ﴾ (الزمر/ 9)[5].
6- احترام العدل:
الذي هو غاية كلّ الرسالات السماويّة، وقد اعتبره الإسلام أصلاً من أصول الدين اعترافاً بقيمته. وقد اشترط العدل في كل حقل اجتماعي أو أي موقع للمسوؤلية وليس في القضاء فقط. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ...﴾ (النساء/ 58)[6].
7- احترام أعمال البّر والإحسان:
لأنّها تحقِّق السعادة لكلّ إنسان وليس للمسلم فقط، وعدّ ذلك جزءاً من الإيمان، ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ (الماعون/ 1-7)[7].
8- احترام الحوار:
لأنّه الطريق الموصلة إلى الحقيقة، ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل/ 125)، ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ (آل عمران/ 64).
9- احترام القانون:
فالشريعة الإسلامية قانون، وهي تُعَلِّم أتباعها الانضباط والطاعة بالالتزام بتلك القوانين التي تحفظ سلامة الإنسان المسلم وسلامة مجتمعه، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾ (البقرة/ 187)[8].
10- احترام حقوق الإنسان:
فـ"لا ضرر ولا ضرار" في الإسلام، فكما لا يجوز أن يلحق بك الضرر في نفسك أو من غيرك، فلا يجوز أن تلحقه بغيرك، وعلى هذه القاعدة يتمّ احترام حرّيات وحقوق الآخرين[9].
11- احترام الآخر:
مهما كان جنسه، أو لونه أو دينه أو موقعه الإجتماعي، فهو إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، ولذلك فإن إيمانك يحتِّم عليك أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك، وتكره له ما تكره لها[10].
12- احترام العهد:
فمن كانبينك وبينه عهد أو ميثاق مكتوب أو غير مكتوبن فمن المروءة فضلاً عن الإيمان أن تحفظ ذلك وترعاه، ﴿أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا﴾ (الإسراء/ 34)[11].
هذه الإحترامات كلّها تنبع من إحترام كبير واحد وهو إحترامك لإنتمائك ولدينك ولإيمانك ولإسلامك.. "وهل الدين إلاّ المعاملة؟"، و"هل الدين إلاّ الحبّ؟".
وقد ورد في أمثال الشعوب:
"إفعل الخير تصبح مؤمناً".
و"آمن لتصبح خيِّراً".
و"الحرِّية هي الإيمان بالله".
و"إفعل الخير تجد الله أمامك".
و"آمن بالله تراه".
قارب النجاة.. قريب!
قيلَ إنّ جندياً أسيراً كان قد أمضى الليل بطوله وهو يعالج فتح باب الغرفة التي هو فيها إلى الخارج.. في الصباح اكتشف أنّ الباب يُفتح من الداخل..
هذه ليست قصة من معركة خيالية.
هي قصتنا مع الحياة.
والباب الذي يفتحُ إلى الداخل هو بابُ عقولنا.. نفوسنا.. وقلوبنا.. وإرادتنا.. ومفتاحه بأيدينا لا بأيدي السجّانين، أو الذين يريدون إبقاءنا تحت الحصار.
وقد ينسى المسافر الذي يتعرّض إلى حالة خطر داهم بالطائرة أن حزام النجاة تحت مقعده.. أو أنّ قارب النجاة بالقرب من السفينة المهدّدة بالغرق.
إنّنا عادة نبحث بعيداً عن الأشياء القريبة منّا..
النظارات فوق رأسي.. وأنا أُفتِّش عنها في كلّ مكان..
هل الدين فعلاً قاربُ نجاة؟
البعض – رغم الإثباتات الكثيرة في كون الدين كذلك – مازالوا في شكّ؟
حتى أولئك الذين أحاط بهم الموج من كلّ جانب وكانوا يستقلون سفينة في عرض البحر، وكانوا سادرين في غيهم غارقين في ملذاتهم، حينما أدركوا إنّهم قاب قوسين من الموت وأدنى.. صرخوا من أعماق قلوبهم وبدون كلمات.. ربّنا هيِّئ لنا قارب نجاة برحمتك! وكانوا من قبل ذلك لا يعترفون به، ولا بقدرته على فعل المستحيل.
يقول (هنري برجسون": "إنّ الديانة الديناميكية (الحركيّة والمحرِّكة) هي نتاج للعودة إلى الإتجاه الذي تنبع منه الدفعة الحيوية، وهي إستشعار بذلك الذي لا تستطيع الكلمات أن تعبِّر عنه أو تدركه"!
قد لا تحتاج إلى قارب النجاة وأنتَ على اليابسة.. هكذا يُخيّل لك.. لكنك، لو تأمّلت في الأمر جيِّداً لأدركت أنّك بحاجة إليه في كلّ وقت.. حينما (تغرق) بالكارثة.. أو المرض.. أو المشكلة العويصة التي تبدو بدون حلّ..
قارب النجاة قريب.. مدّ يدكَ بضراعة إلى الله لتركب فيه..
فالدين هو (البحث) عن (المطلق)[12] و(تفاعل) الذات الإنسانية معه من أجل (الحرِّية) و(السعادة).
حينما يعجز الطبيب عن علاج مرض أصابك.. فإلى أي طبيب تتجه؟
وحينما توشك الطائرة التي تستقبلها أن تهوي على الأرض.. فأيّ شيء ينجيك مما أنتَ فيه؟ بعدما يعجز طاقم الطائرة عن توفير النجاة، ويفشل قارب النجاة في حمايتك من الكارثة المحقّقة حينما تتقاذفك أمواج البحر الهائج؟
لا يبقى إلاّ أمل واحد.. خيط واحد.. قارب نجاة واحد..
إنّه المطلق الذي بمقدوره أن يصنع كلّ شيء.. حتى المستحيلات.. حتى حرِّيتك لا تجدها كاملة إلاّ عند الله حينما تقرِّر أن تكون عبداً له.. لأنّه حينذاك سيحرِّرك من كلّ القيود.. فليس أكثر حرِّية من العبد المتدين المطيع لله[13].
دعنا نستعرض بعض الفوائد المترتبة على حُسن علاقتك به:
1- إنّه يُلبِّي حاجة فطرية في أعماقك، ويشفي غليلك إلى التعلّق به فتعيش الطمأنينة حتى وأنتَ في كبد الخوف.. (تذكّر قصة يونس (ع) في بطن الحوت.. وتذكّر النبي (ص) وصاحبه في الغار وقريش تتقصّى أثرهما لتقتل رسول الله (ص).. تذكّر أثر معيّة الله[14]).
2- يقوِّي روحَكَ.. ويُصلِّب إرادتك.. بحيث يمنحك قوى إضافية لا يمتلكها غيرك.. فمن كان مع الله كان معه ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ (الزمر/ 36)[15]؟
3- يأخذ بيدك إلى النور، ويقودك إلى المحبّة، وينقذك من شرور نفسك، ومن شرور الآخرين ﴿.. يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...﴾ (البقرة/ 257)[16].
4- يبعث على الأمل والمواصلة ويشيِّد لك بناء المستقبل.. لا يغلق الأبواب بوجهك لا في الليل ولا في النهار.. بابه مفتوح للراجين والطالبين على الدوام.. ويضيءُ لكَ الجانب الآخر.. إذا كان الجانب الأوّل مظلماً.. ويقول لك عند (التوبة).. استأنف! ﴿لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ (الزمر/ 53)[17].
5- يرتقي بكَ في سلم السموّ والتطوّر والنموّ والرقيّ والتكامل، ولا يقف بك عند حدّ.. فما دمت مُريداً (من الإرادة) أن تسمو وتتكامل فهناك دائماً فرصة بل فرص متاحة.. ﴿يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الإنشقاق/ 6)[18].
6- يضمن لك تلبية وتأمين إحتياجاتك الطبيعية كلّها.. ولا يحرمك إلاّ مما هو مضرّ بصحتك الجسدية أو النفسية.. مسيء لشخصيتك الفردية أو الإجتماعية.. مؤذٍ لغيرك من المسلمين وغير المسلمين.. فلك الطعام الهنيء.. ولك الشراب السائغ.. ولك الجنسُ المشروع (الزواج).. ولك الطيِّبات من الرزق والكسب الحلال والإقتناء والإستزادة من الخير، كما يضمن لك تأمين ما لا تدركه بالسعي والإجتهاد.. مثلما يضمن لك مستقبلاً آمناً رحباً (الجنّة) لكَ فيه (ما تشتهي) أي أن تنال ما تتمنّى وفق ما تتمنّى، وتلتقي فيها مع مَن أحببت وكنت تأمل أن تبقي معه إلى الأبد.. إنّه يمنحك الخلود[19].
7- يُقدِّك لكَ حلولاً عمليّة وموضوعية لمشكلاتك.. وقبل ذلك يحاول أن يقيك من مغبّة الوقوع فيها.. فبعض المشكلات سببه عدم الأخذ بالحيطة والحذر والإحتراس[20].
8- يحدِّد وينظِّم لكَ مسؤولياتك وواجباتك الحياتية الخاصة بكَ وبالآخرين.. فأنتَ أمام برنامج معدّ بعناية تامّة لإسعادك وإسعاد غيرك[21].
9- يقدِّم لك الحقيقة المطلقة التي تقيس على ضوئها سائر الحقائق الأخرى.. فهو (كشّاف) و(معيار).. فالحق ما كان منطلقاً أو قريباً منه. والباطل ما عداه[22].
10- علاقتك به ستكون منتجة، وفاعلة، ومبدعة.. تنتج كلّ ما هو خير وصلاح وفضيلة وجمال وحق وكمال، وهي بالضمن باعثة على الحركة والحيوية والنشاط والتغيير.
يقول (كريس موريسون): "إنّ الأخلاق والقيم والحبّ أمور لا يمكن أن يأتي بها الإلحاد". فَمَن ذا الذي يأتي بها إذن؟
الإيمان
كن واعياً واختر طريق الفلاح:
هذه هي رسالة الإيمان، وهذا هو وحي الدين، فلا تنصب لحجج غير المؤمنين، الذين غمضت أعينهم عن حقيقة الإيمان، وتأثروا بالظروف، وساروا مع الأهواء، فمنهم:
- مَن اتّبع العصبية (الذاتية أو القبلية أو المذهبية أو التاريخية) وهي نوع من أنواع العمى.
- ومنهم مَن اختار العمى القلبي (أي إختيار الغي والضلال دون الرشد والهداية) يقول تبارك وتعالى: ﴿.. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا...﴾ (الأعراف/ 146).
- ومنهم مَن يحتج بجفاف البيئة وانحرافها (وهو احتجاج أسقطه الأنبياء (ع) والمفاخر الإيمانية من الشباب المسلم الذين أضحوا قدوة لمن هم في سنّهم).
- وآخرون تأثروا بالعقل الجمعي (وهي التبعية السلبية للآخر الضال دون مناقشة أو سؤال) وقد نهى رسول الله (ص) أن يكون الرجل إمعة أي أن يقول أنا من الناس وأنا واحد منهم.
- وبعضهم سيطرت النوازع المادية عليه فلا يرى أبعد من هذه الدنيا بمتعها وملذاتها وشهواتها ومغرياتها وتفاهاتها)، وربّما لم يحصل بعض الشباب على العلم الذي يجيب على الأسئلة الحائرة والإشكالات المثارة في أذهانهم أو في الوسط الذي يعيش فيه.
ما هو الدين؟
يقول أحد الأدباء:
.. أُنظر إلى عين ما تنفجر ما جانب صخرة في واد.. وتجري ليلاً ونهاراً.. كأنّها فلذة من كبد اللحظات.. أو كأنّها – في حد نفسها – روح من أرواح الزمان، أو كلمةٌ قالها الوجود، وهي الآن تحكي دويّ تلك المقولة الأولى، فتجري هنا وهناك على العشب والحصى، ومن خلال عروق الأشجار، فتسقي شيئاً من النبات، ثمّ تنطلق في مجراها، فتصل إلى بركة أو نهر، فتقع عليها إشراقة القمر المنير في الليل، وهي تغوصُ في غمرات بركة أو نهر، وتنساب إلى أعماقها، أو إلى أعماق اللحظات والأبد الرهيب.!
- هل هذا خيال أديب؟
- هل هي لوحة فنّية رسمتها ريشة أدبية؟
- أم إنّها إحساس عميق مرهف بهذه (الروح) التي تفيض من عين الماء لتروي نبضات الزمن وعروق الكائن الحيّ؟
- هذه الحاسّة من أين تأتي؟
- من الموهبة؟ أم من التدريب؟ أم من التأمل؟
- هي كلّ ذلك.. ولكنّها تبدأ من النهاية.. (تذكّر إبراهيم (ع) وهو يتأمل في الكواكب والنجوم) تلك هي آفاق الإيمان.
الدين.. حب وحياة صالحة:
لنحاول أن نتعرّف على (طريق السير) و(قانون السير) و(مقصد السير) بطريقة أخرى..
دعونا نتأمل في هذه الطائفة من الأحاديث الشريفة:
- (الدين.. الحب)،
- (الدين.. المعاملة)،
- (الدين.. النصيحة)،
- (الدين.. الرُّفق)،
- (الدين.. يسر)،
- (الدين.. يعصم).
- إنّ العابد من أتباع موسى (ع) كان إذا بلغ الغاية في العبادة صار مشّاءً في حوائج الناس، عانياً[23] بما يصلحهم.
- ويقول (أبو العلاء المعري):
ما الخيرُ صومٌ يذوبُ الصائمون له
ولا صلاةٌ ولا صوفٌ على الجسد
وإنّما هو تركُ الشرّ مطرحاً
ونفضك الصدر من غلّ ومن حسدِ
(يا حبذا نومُ الأكياس وفطرهم)
إشارات الضوء هذه تجمع على حقيقة واحدة، وهي:
أنّ الدين الحقيقي هو الحياة الصالحة!
فالدينُ.. يخلق الحبّ ويزرعه ويُنمِّيه بين الناس.. وهو في حرب ضدّ الحقد والبغض والقلوب السوداء، والمشاعر العدوانية، وأساليب الضعف، فالدين رباط وثيق يجمع القلوب ويصافيها.. ويدانيها.. ويؤنس بعضها ببعض.
والدينُ.. هو الأسلوب الغنيُّ في التعامل مع الآخر.. باللطف والمودة والإحترام والتسامح والتقدير والإنصاف والحبّ له.. ومساعدته على تجاوز ضعفه أو ظلمه (أُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)..
الدين.. أن تنصح أخاك الإنسان ولا تغشّه.. تقول له الحقيقة.. وتدلّه على الأشياء الجيِّدة النافعة.. وتشير عليه بالإختيارات الصحيحة.. وتحذِّره من نتائج التصرفات السلبيّة، والقرارات غير المدروسة والأحكام المشرّعة.. فكأنّه بوصلة تدلّ على الطريق وتهدي إليه.
الدين.. نسائم تهبّ على العائلة.. وحمائم السلام ترفرف على المجتمع.. وعبقُ الأخلاق ينعش النفوس أينما اتّجه بصاحبه، فكأنّه حديقةٌ عطرة متنقِّلة ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ (مريم/ 31).
الدين.. سهل.. وسمحٌ ويسير، فالمحمدية السهلة السمحة هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، والطاعة لله، وأداء حقوق الناس.
الدين عاصم.. يحفظ لك – بعلامات مروره وإشاراته الضوئية – سلامتك وسلامة الآخرين، ويقيك الحوادث المؤسفة.. وينجيك من المزالق والمطبّات والأخطار.. فهو صمام أمان.. وقارب نجاة..
الدين خدمة.. خدمة الناس.. ونفع الناس.. وإصلاح ما فسد من أمور الناس.. وتطوير دنيا وحياة الناس.. والتخفيف من الآم الناس "خير الناس مَن نفع الناس".
الدين.. ترك الشرّ.. فكلّ العبادات والأخلاق والأحكام تهتف بصوت واحد: كن يا أيُّها الإنسانُ إنساناً صالحاً!
بهذه المعاني.. كيف نفهم الدين؟
هل هو حاجة ثانوية؟ نحتاج إليها في بعض الأحيان، أو قد لا نحتاج إليها ألبتة، أي يمكن الإستغناء عنها؟ أم هو حاجة أساسية ودائمة وملازمة، أي مصاحبة لنا في كلّ الأوقات، ولا يمكن أن نتخلّى عنها.. لأنّنا نكون حينذاك كمن يُغمض عينيه ويتركه مقود السيارة يقودها بدون إرادة منه؟
هل ستسير السيارة في الطريق الصحيح؟ وكيف يمكن أن تكون النتائج؟
أنّ صلب الدين وحقيقة الإيمان ما تكشف عنه الطائفة التالية من الأحاديث التي تُعبِّر عن حقيقة أنّ الإيمان عمل كلّه..
خاطب النبيّ (ص) المسلمين قائلاً:
"ألا أُنبِّئكم لِمَ سُمِّي المؤمن مؤمناً؟
قالوا: بلى.
قال: لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم"!
* * *
وقال له رجل: أحبّ أن يكمل إيماني.
قال: "حَسِّن خلقك يكمل إيمانك".
ثمّ قال: "أكملكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً".
* * *
وقال (ص): "لا يؤمن عبدٌ حتّى يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه من الخير".
* * *
وعنه (ص): "لا يقبل إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان"!
* * *
وورد عنه (ص): "إنّ من حقيقة الإيمان، أن تؤثر الحق، وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك"!
* * *
وقال (ص): "رأس الإيمان الصدق"!
* * *
وجاء عنه (ص): "مَن سرّته حسنته وساءته سيِّئته فهو مؤمن".
* * *
وقال (ص): "إذا أردت أن تعرف أنّ فيكَ خيراً والله يحبّك، فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله، ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَن أحبّ"!
الوصول إلى القناعة الدينية:
للوصول إلى قناعة الإيمان لابدّ من:
1- أن نقرأ كتاب الكون (الظواهر والعجائب والسنن) ونفكِّر فيها ونتدبّرها.. إذا أردت أن تحبّ شيئاً.. أعرفه جيِّداً.
2- اعرف نفسك.. فأنت عالمٌ قائم بذاته.. فيك أسرار عجيبة، وقوى هائلة، وقد اختارك الله لتكون خليفته في الأرض، وأعطاك صلاحية إعمارها، وزوّدك بكافة القوى التي تمكنك من أداء هذه المسؤولية العظمى، ولم يقطع سبيل التواصل معك، فأرسل لك الأنبياء (ع) والرسالات لتكفل لك حياة منظّمة ومنتجة وسعيدة.
3- أعرف أنّ الإيمان علاقة ذات بعدين:
أ) علاقة مع الله تعالى، وهي علاقة (الفقير) إلى (الغني)، وعلاقة (المحدود) بـ(اللاّمحدود) فهل تستقيم حياتي أنا الفقير المعدم من غير مدد وسند ونصرة ومعونة وحماية دائمة؟ وهل أكتفي بالقليل الذي لديّ من التفكير والعقل والعلم لأرى العالم من خلاله.
قيلَ إنّ نملة سقطت في بئر.. وهناك في قعر البئر وجدت ضفدعاً.. فجرى بينهما حوار:
الضفدع: من أين أتيت؟
قالت النملة: من العالم الخارجي!
قال الضفدع: وما هو العالم الخارجي!
قالت النملة: عالمٌ واسع.. واسع.. جدّاً.. جدّاً.
ولمّا لم يكن الضفدع بقادر على تصوّر سعة العالم الخارجي.. فكّر قليلاً بما قالته النملة، ثمّ قفز من مكانه في هذه الطرف من البئر إلى الطرف الآخر منه، وقال للنملة: هكذا هو واسعٌ لهذه الدرجة؟
ضحكت النملة ولم تعقّب.. لأنّها أدركت أنّ الضفدع يعي العالم الخارجي من خلال محيطه الذي يعيش فيه، فلا يمكنه أن يتصور أن هناك عالماً أوسع من عالمه!
ب) علاقة مع الآخر.. تبني لي وله عالماً من الودّ والإحترام والتعاون، فبالإيمان يمكن أن نقيم (أنا والآخر) (جنّة أرضية) مؤقتة قبل أن ننتقل للإقامة الدائمة في (الجنّة الفردوسيّة) التي أعدّها الله تعالى لعباده المؤمنين.. من خلال الأخوة الإيمانية التي تربطني به.
4- عليَّ أن أطرح أسئلتي حتى التي تبدو محرجة وأن أناضل وأواصل البحث من أجل الإجابة عنها.. فالإيمان حركة البحث عن القناعة.. فذاك العالم الذي كتب عن (قصة الإيمان)[24] والذي كتب عن (رحلتي من الشك إلى اليقين)[25] وقبلهم رحلة إبراهيم (ع) الحوارية مع قومه في البحث عن الإله في الكواكب والنجوم، تعني أنّ الإيمان (نقلة نوعية) تحتاج إلى إعمال العقل، ومحاورة العلماء أهل الخبرة والإختصاص، واستنطاق الآيات الكونية التي ترشد إلى الإيمان العميق.
5- دراسة الآراء التي تناقش موضوع الإيمان دراسة مقارنة للوصول إلى الرأي الأرجح.. هناك مَن ينكر دوره وضرورته، وهناك مَن يؤكد ذلك ويثبته.. اقرأ هذا.. واقرأ هذا.. وقارن.. لتكن على وضوح تام في إختيارك.
6- أُدرس سيرة وتراجم وتجارب المؤمنين في مختلف العصور.. كيف أصبحوا مؤمنين.. وكيف التزموا بمتطلبات الإيمان.. وما هي الآثار والنتائج التي تركها السير في طريق الإيمان على نفوسهم وحياتهم وعقولهم وعطاءاتهم وإبداعاتهم.
7- إقرأ كتاب الإيمان الأوّل.. كتاب الله (القرآن) قراءة تدبّر وتمعّن واستنطاق.. واقرأ إلى جانبه سيرة النبيّ (ص) وسنّته لأنّه كتاب آخر يترجم الإيمان بالعمل والحركة والموقف.
8- تذوّق حلاوة الإيمان بنفسك، فلا يكفي في معرفة حلاوة شيء أن أقول لك أنّه أحلى ما تذوّقته في حياتي.. جرِّب أن تتذوّق طعم الإيمان وحلاوته في (الإرتباط) بالمطلق) وفي (حبّ الله) وفي (مردود العبادات النفسية والإجتماعية) وفي (الطاعة والإخلاص) لله ورسوله وفي حاجتك الماسة إليه..
يقول أحد أشدّ الناس إيماناً بالله[26]: "الرائح إلى الله كالظمآن يردُ الماء".
ويقول مؤمن راسخ الإيمان[27]: "إلهي مَن ذا الذي ذاق محبّتك فرام عنك بدلاً، ومَن ذا الذي آنس بقربك فابتغى عنك حولاً".
آفاق الدين:
هل الإيمان مجرد إنتماء؟
كانتمائك لعائلة معيّنة مثلاً، أو لمدرسة ما، أو لجمعية معروفة، أو لخط سياسي؟ أو لمذهب من المذاهب؟
هو إنتماء بالطبع، لكنّه أكثر من ذلك.. أو هو إنتماء يغطي الحياة بأسرها، وإليك الدليل:
الإيمان.. قاعدة:
فالأساس الذي يشاد عليه بناء الإيمان هو الإرتباط بالله تعالى من خلال شهادة التوحيد (لا إله إلاّ الله) التي تتضمن نفي أي إله سواه مما تصنعه المخيلة أو الواقع من آلهة طغاة أو منحرفين أو ضالين.
تذكّر.. إن شعار الإسلام الأوّل الذي رفعه رسول الله (ص) كان: "قولوا لا إله إلاّ الله، تفلحوا"!
فالإيمان بالله: يعني الإيمان بالخير المطلق والرحمة الواسعة والعلم والعدل اللاّمنتهي، فليس كمثله شيء ولا يشرك في عبادته أحداً.
والإيمان به يعني الإيمان بكل قيم الخير التي توفِّ{ للإنسان أسباب النجاح والفلاح.
الإيمان.. حركة:
والإيمان إرتباط بين أفراد الجماعة المؤمنة على أساس القاسم المشترك، بينهم، وهذا الرباط هو رباط فكري وروحي وسلوكي، أي أنّ له حركة تنتقل به من العقل إلى الوجدان، وهذا ما تُعبِّر عنه مشاعر المودّة والإخاء والإخلاص.. إنّه الحب الذي يحمله المؤمن لسائر الناس الطيبين: يتمنى لهم الخير ويعمل من أجل سعادتهم.
الإيمان.. قضية:
فالإيمان الذي ينطلق من قناعة ثابتة لا يتزعزع ولا يرتدّ ولا يتمرّد ولا يخالطه الشك ولا تداخله الشبهة، واضح تماماً كما الشمس.. يدفع صاحبه إلى (العمل من أجل رفعة الإسلام) وإلى (الجهاد في سبيله) سبيل نشر الخير في العالم ودعوة الناس إلى الهدى والسلام.. أي أنّ المؤمن بعد أن (يختار) و(يريد) و(يطالب بالبرهان) يصبح صاحب قضية يستميت من أجل حملها والدفاع عنها.
الإيمان.. موقف:
فالإيمان ليس قوة كامنة في الأعماق، بل موقف عمليّ يترجم إلى سلوك ومواقف وقرارات توحي بعمق الإيمان ورسوخ جذوره.
لقد رفض النبيّ (ص) عروض قريش المغرية.. حينما قال لعمه أبي طالب: "يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"!
ولم يكن ذلك الخيار إلاّ عن وعي ومعرفة بالإيمان بالله تعالى: نور السماوات والأرض، وأنّ دعوة الكافرين لم تكن سوى دعوة للجهل والظلم والتخلّف.
الإيمان.. قوة:
فالإيمان الراسخ قوة تهزم الخوف فلا يتراجع المؤمن ولا يستسلم ولا ينسحب من الساحة، لأنّ إنتماءه إنتماء إلى الله القويّ القادر العزيز الذي لا يعجزه شيء، ولجوء المؤمن إلى الله في أوقات الشدّة والتحدِّي يمدّه بقوّة هائلة تزيد في صبره وثقته بالنصر.. وهذا هو سرّ الإرتباط بالمطلق.
الإيمان.. عطاء:
فالمؤمن كالنحلة يأكل طيباً ويخرج طيباً، وهو كالنبع لا يرتضي لنفسه أن يترك الناس عطاشى، وكالشمس لا يروق له أن يدعهم في الظلام.. إنّه يروي عطشهم بجوده وكرمه، ويضيء لهم الطريق بعلمه وأخلاقه.. وقد يضحِّي بحياته من أجل خلاصهم[28].
الإيمان.. إلتزام:
فالمؤمن الحقيقي الصادق الإيمان يلتزم ويتعهد بتنفيذ وتطبيق ما جاء عن الله في كتابه وعن رسوله في سنّته من أحكام وتعاليم ومفاهيم، وكلّ مؤمن يراعي الموازين الشرعية في عمله ممّن يحملون ثقافة الحلال والحرام، فهم مرجعيته التي يرفض الرجوع لغيرها.
الإيمان.. معيار:
فالإيمان يحدِّد لأتباعه أو معتنقيه المعيار بين العمل المراد به القربة إلى الله وطلب رضوانه، والعمل المرائي الذي يطلب به وجه الناس وثناؤهم، أي هو الذي يحدِّد قيمة العمل لا حجمه وشكله وأثره الخارجي، فالإيمان يجعل حبّ الخير مغروساً في مشاعر الإنسان المؤمن، فيتدفق بها تلقائياً كالينبوع.. والأعمال المخلصة دافعها مرضاة الله لا رضا الناس، ومنها إحسان المحسنين الذين ينفقون سرّاً وعلانية في سبيل الله تعالى.
الإيمان.. روحيّة:
أي أنّ المؤمنين يعيشون جوّاً من الصفاء والتسامح والتعاضد والتكافل والتسديد، بما يحسِّس كلّ واحدِ منهم بأنّه مسؤول عن الآخر في السرّاء والضرّاء وفي الحياة بعد الممات.. إنّ المؤمن يبدأ بعائلته، ويتعامل معهم بود واحترام ولا يظلم أحداً منهم، ثمّ بنفس هذه الأخلاق الفاضلة يتعامل مع الآخرين: في المدرسة والعمل وعموم المجتمع.
الإيمان.. عهد:
إذا عاهدت شخصاً ما على الوفاء، فالوفاء بهذا العهد واجب عليك وإلاّ اعتبرت خائناً.. فالمؤمن الذي آمن بالله ورسوله يقدِّم عهداً بالإخلاص في طاعته لله، وأن يلتزم بالإسلام في مناشط حياته كلّها، وأن يؤدِّي الأمانات إلى أهلها سواء الإلتزامات الشخصية بينه وبين أبناء أُمّته، أو التشريعات الإلهية في مسؤولياته التي حمّلها الله إيّاه.. تذكّر دوماً نماذج المؤمنين الصادقين الذين وفوا بعهد الله، تذكّر أنّ محمداً (ص) كان يسمّى: الصادق الأمين، قبل أن يكون نبياً ورسولاً، تذكر المؤمنين الذين عاهدوا الله وصدقوا في عهودهم كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري ومصعب بن عمير.
الإيمان.. سلوك:
المؤمن هو النموذج الإنساني الذي يجسِّد الخير في حرته وعمله ونشاطه وفكره وعطائه، فالناس يلمسون إيمانه لا من خلال صلاته وصيامه فقط، بل من خلال صدقه وأمانته أيضاً، وقد جاء في الأثر: "لا تغرّنكم من الرجل كثرة صلاته وصيامه فربّما كانت عادة اعتادها حتى إذا تركها استوحش ولكن اختبروه بالصدق وأداء الأمانة".
الإيمان.. مضمون:
الإيمان ليس زهرة اصطناعية لا عطر فيها، وليس هيكلاً ضخماً تلعب الريح فيه، ولا هو جسد خالٍ من الروح، ولا شعارات فارغة المحتوى.. إنّه جوهر وروح وقيمة ومضمون، فالعمل الذي يقوم به المؤمن يُعبِّر عن جذور إيمانية وروح طيِّبة، ونيِّة صالحة، وتفكير عميق، وقلب سليم.
فـ"الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل".
الإيمان.. طهارة:
إنّ سرّ النقاء والطهر في حياة الإنسان المؤمن أنّه كنسَ داخله ونظّفه من نجاسة (الأصنام) المادية والمعنوية، ومن غفونة الرواسب الجاهلية والمادية، ومن قذارة المعاصي والذنوب والسيِّئات والشرور.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة/ 222).
الإيمان.. سكينة:
الإيمان يترك بصماته على المؤمن عميقة، أي أنّه يشعُّ عليه بالطمأنينة والأمن والسكينة فلا يشعر بالخوف والهلع والضياع أو الإهتزاز، لأنّه يستند في ثباته إلى قوة عظمى تدعمه وتحميه وتدافع عنه، ويذكر الله في مواقفه كلّها.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد/ 28).
الإيمان.. عملٌ كلّه:
المجتمع الإيمانيّ كالجسد الواحد.. وكخيلة النحل التي تعمل بشكل تضامني.. فكل مؤمن له وظيفته التي تتكامل مع وظائف الأسرة الإيمانية الكبيرة، ولذلك فإنّ أي إنحراف أو إرتباك أو فوضى أو تناقض (ازدواجية) تفضح الخلل الذي قد يعتري الجماعة المؤمنة.
فـ"الإيمان عملٌ كلّه".
الإيمان.. وضوح:
فلا غموض ولا التباس ولا شبهات ولا شكوك.. فالمؤمن لا يخدع أو يجرّ إلى ساحة الإيمان معصوب العينين بالإكراه.. بل يأتي إليه وهو على بيِّنة من أمره.. لا يخالطه ولا يخالجه ريب فيما هو مقتنع به وعامل من أجله.
﴿وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ (الأنفال/ 42).
الإيمان.. توازن:
فهو إيمان عقلي.. يعطي الفكر قيمته.. وإيمان قلبي.. يعطي للمشاعر والأحاسيس مكانتها.. وإيمان واقعي.. يعطي لكلّ شأن من شؤون الحياة حقّه، ولا يكلِّف الإنسان فوق ما يطيق.. وهو إيمان يحقِّق الجسد وللروح إحتياجاتهما، وللدنيا والآخرة مسؤولياتهما، وللفرد والمجتمع نظامها، وللحقوق والواجبات مساحتهما المناسبة، وللعلم والعمل إرتباطهما وتلازمهما.
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة/ 143).
الإيمان.. أمل:
الإيمان واليأس ضرّتان.. بل نقيضان لا يجتمعان.. الإيمان مدعاة للتفاؤل والأمل لأنّه يستمدّ روحه من القدرة الإلهية وليس من الحسابات المادية الظاهرية، فاليأس والإيمان متنافران، والإيمان يعني أنّ الكون ربّ لطيف بعباده، وهو يقدِّر الأمور بما فيها خير الإنسان، بشرط أن يختار الإنسان الخير ويسعى له.
الإيمان.. تخطيط:
فحركة الإيمان في حياة الفرد لا تسير بشكل عشوائي.. أي أنّها ليست كالأشجار البرّية التي تنمو لحالها، بل لابدّ من عوامل مساعدة لنموها وحركة المجتمع الإيماني تتم وفق نظام وتخطيط مدروس تراعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير وفق منهج معين.
الدين.. الإسلام:
الإسلام: هو التسليم والتصديق والعمل، وهو دين الله وأعلى شرف يمكن أن يحصل عليه إنسان. وهو وإن كان يُطلق على الدين الذي جاء به النبيّ محمد (ص) لكنّ مضمون الرسالات الأخرى هو الإسلام بمعنى التسليم والإقرار والعمل.
والإيمان بالدين الإسلامي ينشأ من الأسباب التالية:
أ) إنّ هذا الدين سهلٌ وواضح ويسير.. يقول الرسول (ص): "أرسلت بالشريعة السهلة السمحة".
ب)إنّ هذا الدين قويّ متين، أي أنّه منهاج كامل وشامل ومتماسك ليس فيه أيّة عيوب أو نواقص، وهو قائم على الدليل والبرهان ويرفض كل الخرافات والأساطير والأفكار المتخلِّفة، يقول النبيّ (ص): "إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق".
ت)إنّ هذا الدين مستوعب لحاجات الإنسان وتطلّعاته.. أي أنّ فيه الكفاية: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء/ 9)، "إنّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق".
ث)إنّ هذا الدين هو خاتم الأديان وأكملها وأشملها وأبعدها عن التحريف ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر/ 9). وأقدرها على الدوام والإستمرار واستيعاب حاجات العصور كلّها.
ج) إنّه دين عمليّ.. ففكره للعمل.. وقوانينه للعمل.. وأخلاقه للعمل.
ما هي غاية الإسلام؟ أي إلى أين يريد أن يصل بالإنسان؟
أ) إلى (رضوان الله تعالى) خالقه وربّه وسيِّده الذي أراد أن يختبره بالطاعة والعبادة والعمل من أجل الناس: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ (الملك/ 2).
ب)إلى (الكمال) فالإيمان بالله ليس مرتبة جامدة.. بل هو مراتب متصاعدة أعلاها إيمان الأنبياء (ع) ثمّ يأتي المخلصون بعدهم بمراتب كلٌ حسب درجة إخلاصه. ﴿يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الإنشقاق/ 6).
ت) إلى (إعمار الأرض) وإصلاحها ليتنعّم البشر عليها: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود/ 61).
ث)إلى (الوفاء بالعهد والأمانة) فالإيمان عهد وميثاق، فإذا أمنت فأنّك تكون قد أعطيت عهداً وميثاقاً بالعمل وفق ما يتطلبه الإيمان، إنّه أشبه شيء بالإلتزام بتعليمات المعهد أو المدرسة، التي اخترتها لتتعلّم وتتربّى فيها.
ج) إلى (ذروة السعادة) فالمؤمنون هم السعداء حقاً.. لأنّهم أكثر الناس إستقراراً نفسياً[29].
ح) إلى (التعارف) والتواصل بين بني الإنسان في كلّ مكان وإلى (خدمة) بعضهم البعض و(نفع) بعضهم البعض، ونشر السلام فيما بينهم، وتوفير فرص الحياة الكريمة للجميع.
النظرة التكاملية للعبادات:
العبادات كلٌّ متكامل.. منظومة أخلاقية تربويّة ذات آثار إجتماعية.. جهاز ذو قطع متناسقة كل قطعة منه موضوعة في مكانها الصحيح والدقيق ولو رفعت منه لتعطل، أو انخفض منسوب إنتاجه.
والنظر إلى العبادات طلٌّ على انفراد إجحاف بحقّها وتقليص من قيمتها، وسوء فهم للمراد منها.. فجمال وقيمة أيّة عبادة ذاتي كامن فيها، لكنّه يتجلّى أكثر باقترانه بجمال وقيم عبادات أخرى.. وهذا هو السرّ الإلهي في الربط بين العبادات ربطاً عضوياً، فهي كالجسد الواحد لا يعمل بكامل طاقته إلاّ بسلامة أعضائه كلّها وأدائها لخدماتها بشكل متكامل.
وإليك بعض الأمثلة التي تربط العبادات بعضها ببعض:
أ) ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة/ 1-4).
ب) ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (التوبة/ 71).
ت) ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ (البقرة/ 83).
ث) ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج/ 78).
ج) ﴿إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ (التين/ 6).
ح) ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة/ 45).
لنقف قليلاً عند الربط العضوي بين أربع عبادات، وهي:
1- الصلاة.
2- الصوم.
3- إيتاء الزكاة.
4- العمل الصالح.
إنّ معنى (إقامة الصلاة)، هو أن تؤدِّي الصلاة دورها في (البناء) و(التغيير) بناء شخصية المصلِّي إيماناً، وتغير واقعه وواقع مجتمعه نحو المزيد من الإستقامة على خط الله.
ومعنى الصوم.. تربية إرادة وعزيمة الصائم على تحدِّي الضعف ومقاومته من خلال الإمتناع عن الحرام، أو ما يغري بالوقوع في الحرام.
وإيتاء الزكاة.. يعني إعطاء حق كل نعمة وطاقة أو موهبة أنعم الله بها عليك، في أن تسخِّرها في الخير والمنفعة الشخصية والعامّة.
والعمل الصالح.. الناتج أو الحصيلة المرتقبة من تفاعل الإيمان مع العقل والنفس، أو الترجمة العملية والسلوكية لشعار الإيمان.
فإذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فمعنى ذلك أنّها تدعو في المقابل للأمر بالمعروف والإحسان بين الناس، وهذا يتطلب إرادة قوية تجابه المنكر، وعزيمة عالية لنصرة المعروف والعمل به، سواء كان إيتاء للزكاة في معناها الذي ذكرناه، أو في القيام، بالعمل الصالح الذي يهدف إلى (مصلحة) الإنسان و(رضا) الله سبحانه وتعالى.
إنّ تفاعل هذه العبادات كتفاعل الأطعمة المختلفة مع أجهزة الجسم، فكما لكل نوع من الأغذية قيمته الغذائية الخاصة فلكل عبادة كذلك مفعولها وطاقتها وأثرها، ودورها التكامليّ وقيمتها الخاصّة.
والشخصية المؤمنة هي التي تتناول من أصناف المائدة الإسلامية كلّها، وإلاّ فقد تصاب بضعف أو نحول، أو فقر دم، أو نقص مناعة إذا تناولت غذاء واحداً وتركت باقي الأغذية.
فلو كانت الصلاة وحدها كافية لما شرّع الله تعالى الصوم إلى جانبها، ولما أمر بالزكاة، ولما دعى إلى الحج، أو العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين.
إنّه لم يرد أن يثقل كاهلنا بالتكاليف.. بل وضع لنا منظومة عبادية متكاملة لا غنى فيها بمفردة عن مفردة ولا لوحدة عن وحدة، وبالعمل بها جميعاً تكتمل اللوحة الإيمانية، وإلاّ فسيكون العيب أو النقص أو الخلل فيها واضحاً فاضحاً.
وسائل الدين في إشباع الحاجات:
نقول – عادة – عن الشيء الذي يلبِّي حاجاتنا ويشبع رغبتنا أو طمعنا أنّه حقّق رضانا، أي أنّه استوفى تلك الحاجات والرغبات والمطامع بشكل كامل.
* هل الدين – بهذا المعنى – يشبع حاجتنا ويجلب رضانا؟
* هذا يتطّلب معرفة أمرين:
- ما هو نوع الحاجات؟
- وما هو مستوى الرضا؟
الحاجات إمّا (مادية) كالمال والطعام والشراب والمتع المادية والحسّية والجسدية الكثيرة كالزواج والتملّك وغيرهما.
وإمّا (معنوية) كالحب والاحترام والتسامح والصدق والوفاء والعدل والرحمة والشكر وغيرها.
على صعيد القائمة الأولى من الحاجات، هناك قاعدة عامّة، وهي أنّ المحلّل من الطعام والشراب وسائر المتع الحسّية، كثير ومجاز ومباح، بل إن مساحته أوسع – ما لا قياس معه – من مساحة المحرمات والممنوعات، مع التنّبه إلى أنّ الممنوع ما كان ليمنع لو لا ضرره الملحوظ أو غير الملحوظ.
الطبيبُ أحياناً يمنعكَ عن تناول أطعمة صحّية ليس فيها أي ضرر – في الوضع الطبيعي – لكنّه يحجبها عنك أحياناً لمصلحتك من أجل أن تتماثل للشفاء وتستردّ عافيتك، فتمتنع عنها بطيب خاطر من دون أن تسأل أو تعرف السبب في منعها، لأنّ الطبيب خبير مختصّ ولا يمنع إلاّ لمصلحة!
الحاجات المادية في الإسلام إذن مؤمّنة[30] ولا شكوى في ذلك.
أمّا القائمة الثانية من الحاجات المعنوية أو الروحية فالدين هو أكبر وأقدر مَن يوفِّرها لك، لأنّه مبنيّ عليها، ولأنّه يهدف إلى إنشاء وإرساء القيم والمثل والفضائل والأخلاق الإنسانية، وإلى تحقيق مجتمع السعادة والتكافل والتضامن والتوادد والتسامح والتراحم والتصافي.. الخ.
وإذا جئنا إلى (الرضا) من السؤال المطروح، أيّهما يحقِّق لي مستوى من الرضا والقبول أعلى: هذا الذي يؤمِّن لي حاجاتي المادية والمعنوية معاً؟ أم ذاك الذي يوفِّر لي الماديّ منها فقط، وربّما جلب لي التعاسة والكآبة والشرور والمآسي واليأس من الحياة؟!
(هناك): نموٌ.. وانطلاقٌ.. وتسامي.. ورفعة.. وتكامل.. واطمئنان.
(هنا): تسافل.. وانحطاط.. وهبوط.. واتضاع.. وحيرة.. وقلق.. وجشع.. وخوف.
(الدين): يحقِّق لي رشفة الرضا، وجرعة الهدوء، ونسائم الطمأنينة الرضيّة في وقت الدعة والسلم والاستقرار.. ويبعث لي عبقات العزاء والصبر والتحمل والسلوى عند الشدائد والأزمات.. وما عداه يسلمني للخيبة لأكون نهباً لها وللإحباط والتشاؤم فتغيم الآفاقُ بعيني!
(الدين): يعطيني خارطة الطريق.. يأخذ بيدي.. يدلّني.. يرشدني إلى أفضل الأشياء وأرقاها.. ويحذِّرني من مغبّة المخالفات وسوء عاقبتها.
(غيره): يسلمني للضياع والتيه في الدوّامة.. أتخبّط.. كمن يمشي في غابة كثيفة في ليلة غاب قمرها.
(الدين): يفتح لي آفاق رحبة.. أزداد فيه بكلّ يوم سعة.. ينطلق بي إلى خارج الحدود، وإلى الفضاءات اللاّ نهائية.. لأنّه يربطني دائماً بـ(المطلق) اللاّ متناهي، فكيف ينفد وقودي وأنا أستمدّ الطاقة منه؟!
(غيره): يجرّني إلى الوحول والمستنقعات والدوائر الضيِّقة الخانقة.. يحبسني داخل ذاتي وفي زنزانات (رغباتي وشهواتي)..[31].
(الدين): يشعرني بحرّيتي أكثر.. يحرِّرني من الكثير من القيود التي تريد أن تحدّني.. تحجّمني.. تكبّلني.. تشلّني.. يعلِّمني كيف أقول: (لا) لكلّ ما ينقص حرّيتي أو يعبث بها، أو يسيء إليها.. به أعرف نفسي أكثر.. أكتشفها.. أطلع على أسرارها.. ونقاط ضعفها وقوتها.. وكيف أستكمل نواقصها!
(غيره): يوحي لي بالحرّية الزائفة.. ويضع في معصمي أكثر من قيد.. يفتحُ لي باب الرغبات السائبة، وإذا بها تذلّني وتأسرني وتحقّرني في نظر ذاتي أوّلاً وفي نظر الآخرين.. به أفقد كياني.. أشعر أنِّي غيري.. أو كأنِّي دمية في مسرح العرائس تحرّكني خيوط بيد ممثل يتلاعب بي كيف يشاء.
يقول المفكِّر (آنون): "عندما أضعنا الله، لم يكن الله هو الذي ضاع"!!
مَن الضائع إذن؟
إنّنا.. نحن الذين ضعنا.. وبقينا هكذا نجوب في قارب مثقوب.. ضائعين لا منارة نهتدي بها، ولا ساحلٌ قريب يومئ إلينا.. وسنبقى بأيدي الموج العاتي وأيدي الرياح الهوجاء تتقاذفنا وتتلاعب فينا كقشة، حتى نستشعر فداحة الخسارة التي نحن فيها!
هل ستنتفي الحاجة إلى الدين يوماً ما؟
هذا سؤال مطروح بأشكال وصيغ مختلفة، منها أنّه سيزول تدريجياً، أي أنّه يأتي زمان على الناس يستغنون فيه عن الدين بعدما تتطور الحياة تطوراً نوعياً هائلاً.
القائلون بهذا، يتصورون الدين كقطعة أثاث أو ثياب تبلى مع مرور الأيام فيجب رميها في القمامة، أو سيارة قديمة أصبحت خارج الموضة (الموديل) فلابدّ من استبدالها بغيرها..
الماديون لا ينظرون إلى (الروحي) إلاّ بنظرة مادية، وهذا خلاف المنطق العلميّ.. فالأدوات والأجهزة والمختبرات والأنظمة المتوفرة مهما قفزت في التطور النوعي سوف لن يكون بمقدورها أن ترصد لنا صدق الإنسان وكذبه، أو تُميِّز لنا بين وفائه من خيانته، أو تقيس لنا درجة إخلاصه وطاعته وما إلى ذلك، لأنّها – أساساً – أشياء غير قابلة للقياس والوزن.
رغم كل التنبؤات العلمية في ذلك، فإنّ الدين آخذ بالتطور وبالحضور القويّ حتى في الأوساط التي تعاديه، وقد يأتي عصر يلبِّي حاجات الإنسان المادية وربّما النفسيّة، لكنّه كيف سيشبع حاجته أو نزعته إلى (المطلق) وخروجه من رداء المحدودية إلى العالم اللاّ نهائي؟
إنّ الحاجات الأساسية ومنها (الدين) هي التي لا تنتهي ولا تتوقف ولا تقتلع، فلقد أثبت تأريخ الحضارة الإنسانية أنّه ما من زمن مرّ على الناس وهو يخلو من دين أو عبادة معيّنة صحيحة كانت أو غير صحيحة.
وقد يستغني الإنسان عن بعض (ضرورياته) أو يتوقف – لسبب أو آخر – عن التعاطي معها، كما يحصل في الصوم أو في الإضراب أو الممانعة أو المقاطعة أو ممارسة رياضات معيّنة، لكنّه لا يمكن – بأيّ حال – أن يستغني عن الدين لسبب بسيط ووجيه أيضاً، وهو أنّ الدين هو الضرورة القصوى التي لا تقوم الحياة الصحيحة والصحيّة والصالحة بدونه.
لا تصدّق إذا قيل لك إنّ الملحدين والكافرين والوجوديين في غنى عن الجانب الروحي.. نعم، هم قد يبحثون عنه في غير (الدين) لكنّه لا يؤمّن لهم إلاّ الفتات والقشور.
يقول الروائي الروسي (تولستوي): "الإيمان هو قوة الحياة"!
ويقول الروائي الأمريكي (ارنست همنغواي):
"ما هو الأخلاقي؟
هو تلك الراحة التي تشعر بها فيما بعد.
وما هو اللاّ أخلاقي؟
هو ذلك السوء الذي تشعر فيما بعد".
إن أغلب العقد النفسية ضدّ الدين ناجمة إمّا من:
(الجهل).. (الإنسان عدو ما جهل).
أو (النظر إلى الشكل الخارجي).. طقوس وعبادات وشعائر.
أو (الالتفات إلى الجانب الغيبي).. لا علاقة للدين بالحياة.
أو (اعتبار الدين عقبة).. قيود مفروضة على الحرّيات والعلوم والسياسة.
أو (تصوره شيئاً من مخلفات الماضي).. لا يساير الواقع الحضاري.
أو (الاحتجاج بالنماذج السلبية المنحرفة).. الاحتجاج بالثمرة ونسيان الشجرة.
وهذه وغيرها لا تنفي الحاجة إلى الدين بل تؤكدها لأنّه يكافح الجهل ويطالب بالبحث عن الجوهر، ويربط بين الحياة وما فوق الحياة وما بعد الحياة ويحرر الإنسان من القيود التي تكبّله، وهو منهج الله المعدّ للزمن كلّه وللمكان كلّه، وهو حجة على المسلمين وهم ليسوا حجّة عليه.
الإنسان الجديد:
في مجتمع ماديّ غارق بالمادّة حتى شحمة أذنيه قد نسي الله فأنساه نفسه.. يجري البحث عن (الإنسان الجديد).. الذي يحاول استعادة شخصية الروحية في جوانبها المعنوية التي أتت عليها (المادية) المعاصرة كما تأتي أمواج البحر لتطمس رمال الشاطئ وتدفنها.
أحد علماء النفس (اريك فروم) – وهو غير مؤمن – قدم أطروحة للعلاج في كتاب اسمه (الإنسان بين الجوهر والمظهر) نلتقط منه النقاط الأساسية راجين توجيه العناية إلى كلّ نقطة ومقارنتها بما لدينا من أطروحة علاج سابق بوقت طويل على هذه الأطروحة.
صفات الإنسان الجديد الذي يطالب به (فروم) هي:
1- الاستعداد لنبذ التملّك بكلّ أشكاله لكي يحقق (الإنسان الجديد) كينونته تحقيقاً كاملاً..
ألا يلتقي هذا مع مقولتنا الإسلامية: "أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك"؟! وهو مفهوم الزهد الذي يتعالى على أيّة حالة أسر أو عبودية للممتلكات وللمقتنيات.
2- الحاجة إلى الانتماء، والإحساس بالأمان، وتكامل الشخصية أو الثقة القائمة على الإيمان، والشعور بالشغف والحبّ والتكافل.
أنظر.. كمن يقترب هذا من الأخاء الإنسانيّ الذي ورد في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات/ 10). ومن شرط الإيمان "أن تحبّ لأخيك ما تحبه لنفسك".
3- الحضور الكامل من خلال الفرحة التي تغمر الإنسان حين يعطي ويشارك، فلقد جرّب الإنسان الاستغلال والاحتكار والأنانية فما زاده ذلك إلاّ جشعاً وطمعاً وحسداً وطغياناً.
إنّنا نفهم من (الحضور الكامل) الشعور بالغيرية لا بالأنانية، ولا يحقِّق ذلك غير الدين الذي يبني ويرسِّخ العلاقات الإجتماعية على أسس ثابتة ومتينة كالحب في الله، والعمل في سبيل الله يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (الحشر/ 9).
4- لا أحد غير الإنسان يستطيع أن يعطي للحياة معنى، أي يعطيها معناها الدقيق والعميق في أنّ الإنسان – وهذه هي وجهة نظرنا – أكرم مخلوقات الله وأعظمها ولذلك جعله الله خليفته في الأرض، وليس هناك مَن يجعل الحياة صالحة أو جنّة أرضية سواه.
5- محبة الحياة واحترامها في كلّ مظاهرها[32].
6- محاولة الحدّ من الشراهة والكراهية والأوهام بقدر الإمكان.
وهذا – في تقديرنا – لا يتأتي بالشعارات، فالمربيّ الإسلاميّ الذي يشبِّه حبّ الدنيا بماء البحر، كلّما ازددت شرباً منه ازددت عطشاً، وأنّه إذا كان بعض ما فيها لا يكفيك فكلّ ما فيها لا يكفيك، لا يتحدّث فقط عن الإنسان وضرورة وضع كوابح لجموحه وطمعه الذي قد يصل به إلى القتل، وإنّما يصف طبيعة الدنيا أيضاً.
7- وحين يتحدّث عن (الحب) ونبذ (الكراهية) فلأنّه يعرف تماماً النتائج المترتبة على كلّ منهما، وما ثبت بالتجربة الإنسانية الطويلة من أثر الحبّ والكراهية على المجتمع، تراث هائل لا نحتاج معه للدلالة على أنّ (الحبّ) يدعو إلى السلام، وأنّ الكراهية داعية الحرب والجريمة والفساد.
8- وأمّا الأوهام فقد بدّدها الدين الإسلامي بطريقين: إبراز قيمة العقل والعلم والتفكر والتأمل، ومكافحة الخرافات والأساطير والجهل.
9- الحياة بغير عبادة الأصنام، سواء الأصنام البشرية (عبادة الطواغيت والمستكبرين) أو عبادة مخترعات وتقنيات العصر الحديث، أو عبادة وعشق الذات (النرجسيّة) لأنّها كلّها توقع الإنسان فيو مطبّ الجمود والمحدودية، فما لم يؤمن (الإنسان الجديد) بربّه الخالق الوحيد.. يعبده لا يشرك به أحداً ولا شيئاً.. يبقى مختنقاً في إطار عباداته السفلية التي تشدّه إلى الأرض شدّاً!
يقول (إنشتاين): "إن أروع شعور يملأ الإنسان وهو يتطلّع إلى السماء أنّ هناك سرّاً هائلاً وراء كلّ شيء، وأنّ هذا السرّ هو المصدر الحقيقي لكلّ علم، وكلّ إنسان لم يشعر بجلاء هذا السرّ هو إنسان أعمى"!
10- اعتبار النضج الكامل للذات وللجماعة هو الهدف الأسمى للحياة، ومن منظورنا فإنّ الإنسانية المتدينة تسير سيراً تكاملياً: ﴿يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الإنشقاق/ 6)، وربّما عبّر بعض الكتاب عنه بـ(التسامي) فيما عبّر عنه آخرون بـ(الاستقامة ووحدة الاتجاه).
شهادات:
هذه أقوال وشهادات علماء لم يطلقوا الكلمات على عواهنها في معرفة الله والدين.. نترك لك دراستها وتقييمها:
يقول (ماركوس أوراليوس):
"إلى الذين يسألون أين رأيت الله؟ أو كيف تتأكّد من وجود الله بحيث أنّك ورعٌ جدّاً في عبادته؟
أجيب: إنّني لم أرَ (روحي) أبداً.. ومع ذلك فأنا أجلّها وأحترمها"!
ويقول (ياسنري كاوبيت): "لأنّك لا تستطيع رؤيته.. هو في كلّ مكان"!
ويقول (بول فروست): "الله ليس اعتقاداً، إنّه إحساس".
ويقول (كلفن سلون): "بالنسبة لي (الله) هو تلك العظمة المبدعة التي تتجلّي في العالم كطاقة، حياة، نظام، جمال، فكر ضمير وحبّ"!
ويقول (ماري بيكر أدّي): "الله لا مادي، رائع، سيِّد، لا محدود، عقل، روح، مبدأ، حياة، حق وحبّ"!
ويقول العالم الفيزيائي (باسكال): "القلب هو الذي يحسّ بوجود الله وليس العقل، ما هو الإيمان؟ هو الله في القلب..!".
ويقول أيضاً: "ما كنت لتبحث عنِّي، لو لم تكن قد عرفتني".
ويقول محرِّر الهند (غاندي): "الحياة بلا دين حياة بلا مبدأ، وحياة بلا مبدأ كمركب بلا دفّة"!
ويقول المؤرِّخ (ارنولد توينبي): "ظاهرة التديّن هي أعظم ظاهرة بشرية في الوجود، وأعمقها تأملاً في الكيان الإنساني".
ويقول (توماس فولر): "حياة صالحة.. هو ذا الدين الحقيقيّ"!
ويقول (لامارتين): "إنّ ضميراً خالياً من الله كالمحكمة الخالية من القاضي".
ويقول (ليك والس): "الإيمان العميق يزيل الخوف".
ويقول (أنون) في عدم اجتماع الإيمان مع الخوف: "قرع الخوف الباب فأجابه الإيمان، ثمّ نظر فلم يجد هنالك أحداً"!
ويقول (ابن حزم): "ثِق بالمؤمن وإن كان على غير دينك، ولا تثق بالمستخفّ وإن أظهر أنّه على دينك"!
تعريفات يحتاجها الإنسان الجديد:
(الثقافة): هي التقدّم العقليّ في الاعتقادات والمواقف والقدرات، والعادات، وهدفها تحسين الحياة.
(الإنتماء): هو علاقة هويّة ومصير وارتباط داخلي بينك وبين الخط أو الجماعة، وهو نماء وزيادة، أي حافز للانطلاق والتحفّز.
(اليقين): اتحاد (العقل) مع (الإرادة) اتحاداً عضوياً.
(الإرادة): كلّ نشاط يهدف إل تحقيق غاية معينة، ولا ينفصل الفعل الإرادي عن البواعث والحوافز والدوافع اليت تكمن وراءه، أمّا مكونات ومراحل الفعل الإرادي، فهي:
1- اتخاذ القرار (القصد).
2- تنفيذه (العمل).
3- الرضا والقبول (تتويج الجهد).
(الدين): إذعان (عقلي) و(قلبي) للمطلق وهو الله تعالى.
(التكامل): كلّ عملية ينتج عنها درجة أعلى من الاتحاد والاندماج، وتتطلّب السيطرة على النزعات البدائية.
(السعادة): انسجام (الداخل) و(الخارج) في أن تعيش حالة وفاق مع نفسك ومعطيات هويتك.. إنّها الحياة المنسجمة المتوافقة.
(المقدّس): كلّ ما لا يمكن تلويثه أو تدنيسه كالإله تعالى والنبيّ (ص) والرسالة السماويّة.
(الوعي): المعرفة الموجّهة للإنسان.. البوصلة التي بها يستدل على (الصواب) و(الخطأ).
(الضمير): الرقيب الداخلي.. التقوى!
(الفضيلة): حبّ النظام والاستعداد الدائم لإرادة الخير.
(الخير): القيمة العليا التي تنظِّم سائر القيم!
(الحرِّيّة): الاختيار بين عمل الخير وعمل الشرّ!
(الحبّ): دافع نحو الخير الكليّ!
(الحرام): نظام قوة لمنع الأضرار والمفاسد والشرور والخبائث والمظالم.
إشارة ضوئية!
مَنْ يخسر (المال).. يخسر القليل،
مَنْ يخسر (الاحترام).. يخسر الكثير،
مَنْ يخسر (الإيمان).. يخسر كلّ شيء!!
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1]- انظر إلى دعوة النبيّ (ص) بطلب العلم ولو في الصين، وفي دعوة القرآن إلى الحوار مع أهل الديانات الأخرى.
[2]- انظر إلى احترام كرامة المرأة واستقلالية شخصيتها في آيات القرآن وأحاديث النبيّ (ص).
[3]- انظر إلى اعتبار العقل أداة من أدوات استنباط الأحكام الشرعية في الإسلام.
[4]- انظر إلى تاريخ العلاقة الإيجابية والتعامل الإنساني من قبل الدولة الإسلامية مع أتباع الديانات الأخرى.
[5]- انظر إلى الدعوة إلى طلب العلم من المهد إلى اللحد، وإلى اعتبار طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
[6]- ذهب بعض فقهاء المسلمين إلى تفضيل الكافر العادل على المسلم الظالم، وقولنا مسلم ظالم أي أنّه مسلم باللسان، فقط، دون أن يملأ نور الإسلام قلبه، والنور والظلمة متناقضان ولا يجتمعان في كل واحد.
[7]- انظر إلى ما أوحى به الله تعالى لإبراهيم (ع): يا إبراهيم ابن لي بيتاً.. فبنى له بيتاً.. ثمّ جاءه النداء.. يا إبراهيم ابن لي بيتاً.. فبنى بيتاً.. ثمّ جاءه النداء ثالثة.. يا إبراهيم ابن لي بيتاً.. فقال إبراهيم (ع): يا رب بنيت لك بيوتاً، فقال الله: يا إبراهيم هل أطعمت جائعاً؟! هل كسوت عرياناً؟!
[8]- انظر إلى دعوة فقهاء المسلمين إلى احترام قوانين الدولة سواء كانت اسلامية أو غير اسلامية.
[9]- انظر إلى احترام حقوق الرجل والمرأة والطفل والأقليات بل حتى الحيوان.
[10]- انظر إلى النتائج الباهرة لفنّ التعامل الإنساني الذي جعل من غير المسلمين الدخول في الإسلام.
[11]- انظر إلى فتاوى الفقهاء في وجوب احترام العهد الذي يقطعه المسلم مع المسلمين أو غير المسلمين.
[12]- الأشياء إمّا نسبية محدودة كالإنسان والحياة، وإمّا مطلقة لا نهائية كعلم الله وقدرته.
[13]- انظر إلى أبعاد كلمة التوحيد –لا إله إلاّ الله – كيف تنفي وتطرد كل العبوديات التي تحد من كمال الإنسان وحرِّيته وانعتاقه.
[14]- (معية الله) مصطلح إسلامي قرآني يُعبِّر عن حالة التلازم بين (المحدود) وهو الإنسان وبين (المطلق) الذي هو الله وكيف أنّ الإنسان المؤمن يستشعر قوة المطلق ومدده وعونه وحضوره معه في كل وقت لاسيما في أوقات الضيق والشدة والأزمات فلا يضعف ولا ينهزم ولا ينهار.
[15]- تذكر كلمات الحق التي قيلت في وجوه الظالمين من قبل مسلمين شجعان لم يخافوا إلاّ الله.
[16]- تأمل في قصص الذين ضلّوا وانحرفوا ثمّ اهتدوا وحسن إيمانهم.
[17]- إقرأ قصص الذين ارتكبوا الكثير من الذنوب والمعاصي والموبقات ثمّ لجأوا إلى الله تائبين نادمين، وكيف فتح لهم ذراعي الرحمة لإحتضانهم.
[18]- إقرأ وراجع قصص الأبرار من علماء الأُمّة وشهدائنا وأخيارها الذينوصلوا إلى درجات عالية من الإيمان والتقوى والعلم والعمل.
[19]- تأمّل في السعادة القصوى التي يعيشها المؤمنون المطيعون لله ولرسوله.. إنّ سعادة الملوك لا توازي ولا تعادل تلك السعادة.
[20]- إقرأ ما كتب من أطروحات للحل أو معالجة مشكلات الفقر والإنفتاح على الآخر والعلاقات الجنسية وما إلى ذلك.
[21]- تأمل في دعوة المربي الإسلامي تقسيم الوقت، ورعاية شؤون العائلة والأُمّة، وبناء علاقات إنسانية متينة.
[22]- فالقرآن كتابك المرشد والهادي إلى الحق، والأنبياء (ع) والأولياء والمؤمنون الصالحون تراجمة هذا الحق على أرض الواقع.
[23]- عانياً: من العناء والتعب.
[24]- الشيخ نديم الجسر.
[25]- الدكتور مصطفى محمود.
[26]- وهو الإمام علي (ع).
[27]- وهو الإمام علي بن الحسين (ع).
[28]- تذكر شهادات البذل والسخاء ونكران الذات ومنها: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ (الإنسان/ 7-8).
[29]- كشفت الكثير من الدراسات النفسية أن بعض المعمرين ممّن امتدّ بهم العمر لأسباب إيمانية بحتة.
[30]- لا يعني تأمينها أنّها مبذولة بلا سعي وكد وعناء.
[31]- راجع قصص توبة الفنانات اللواتي اهتدين بعدما كنّ غارقات في المجون والفحشاء.
[32]- راجع ما ذكرناه من – نظرية الاحترام – القائمة على شبكة احترامات للإنسانية وللحياة.
مصدر المقالة: