السبت، 29 مارس 2014

الشك والإيمان، قصة قصيرة.

بسم الله الرحمن الرحيم

تبدأ القضية بالشك، والشك يجر الشك. على الشكوك أن نجد لها إجابات، والبعض لا يقبل إلا بالإجابات النهائية. ولكن عزيزنا اللا أدري يرفض وجود جواب أصلاً ضمنياً، سأبدأ بسرد قصة اللا أدري وسأقوم بطرح حججه، ولكن المفاجأة أنني لن أتكلم عن وجود الله بطريقة مباشرة أبداً، بل سأتكلم عن وجود العلم من عدمه. متابعة ممتعة.




يبدأ اللا أدري بسرد شكوكه حول وجود الله فيقول أننا لا يمكننا التأكد من وجود إله أبداً ولا يمكننا نفي وجوده، فإن تتبعت حججه ستجدها قائمة على بعض الأسس البلهاء أو بعض الأسس الذكية، حسب الملحد وعقليته. سأسمي ملحدنا العزيز "سامي" والمؤمن "مؤمن"، وسيكون هذا المقال نقاشاً بينهما وتطوراً بالأفكار، على أن سامي ومؤمن شخصيات وهمية من اختراعي فلا ينزعجن أحدكم من تطابق الأسماء. وكأساس للنقاش، فأنا أعتبر أي تيار يرفض أحد الأديان السماوية هو تيار إلحادي "مائل" فالإلحاد هنا موقف وليس اتهام. نبدأ بسمه تعالى.

==============

ذهب مؤمن ليزور صديقه سامي المتشكك، سامي دخل منتدى للملحدين وتعرف على بعض شخصياتهم، فتأثرت شخصيته وأفكاره بسببهم، ولأن مؤمن صديقٌ مخلص، قرر أن يقف بجانب سامي ويبدأ بالنقاش معه حول القضايا الفكرية. وصل مؤمن للباب، وطبعاً استقبله سامي ببشاشة معهودة، فهم أصدقاء العمر، ولكن شائت الأقدار أن يفترق نهر أفكارهما فلا يلتقيان إلا بمعجزة! بادر مؤمن التحية: كيف حالك سامي؟ ما أخبارك؟ مر وقت طويل لم نتكلم به، أتمنى أن تكون على خير ما يرام وعافية.
أطرق سامي رأسه وقال له: أنا بخير يا صديقي، أموري جيدة، شكراً على اهتمامك بي.

- سعيد لسماع هذا.

-تفضل يا صديقي، كالعادة، كوب الشاي وبعض الكعك الذي تحب، سيأتيك حالاً.

- شكراً سامي، تعرف ما أحب دوماً!

- بالتأكيد، فنحن "عشرة عمر" وبيننا "عيش وملح" كما يقال.

بدأ مؤمن يحتسي كوب الشاي ويتلذذ بالكعك، وبدأ معه سامي بطرح أفكاره، فهو لا يطمئن إلا لمؤمن الذي تقبل شكوكه وميوله وجاراه في أفكاره، قال سامي:
- هل تعلم يا مؤمن أن العلم لا يمكنه إثبات أو نفي وجود الله؟

- حقاً؟ لماذا برأيك؟

- الجواب بسيط جداً لو فكرت به، سأعطيك فرصة لتفكر.

أطرق مؤمن رأسه لحظات ثم رفعه مبتسماً وقال: لأن العلم قائم على التجربة والقياس والتكرار والاثبات الحسي بطريقة أو بأخرى.

نظر سامي لعيني مؤمن وهو مبتسم: عزيزي مؤمن، أنت تعلم أن ليس هذا كل الجواب، أليس كذلك؟
- علمني مما تعلمت، ها نحن جالسان نتسامر حول الموضوع، ولنرى ما جديدك فيه.

- جميل، حقيقة أنا أرى أن العلم لم يترك أي مجال للإله، سابقاً كانت فكرة الإله نابعة من الخوف غير المنطقي فتخيل الإنسان وجود عالم من القوى العلوية التي تتحكم بهذا العالم فكان يؤمن بها ويصلي لأجلها، والآن ومع تطورنا العلمي والفكري استطعنا أن نجيب عن هذه الظواهر ونتنبأ بشكل مقبول ببعضها بل وقد يمكننا مستقبلاً أن نتحكم بها. كل هذا لم يترك مجالاً للإله، فإله الفراغات هنا لا حاجة له أبداً.



- أوه فعلاً هذا الطرح يبدو في أول وهلة متماسكاً صلباً، ولكن هل هو فعلاً هكذا برأيك؟ إن كنت منصفاً مع نفسك، فأنت تعلم إنك قد اقترحت مسألة مهمة جداً: اكتفاء القوانين بذاتها أو بمعنى آخر جعلت الكون مكتفي بذاته، وبما أنك تتكلم بمنطق تجريبي أخبرني كيف توصلت لمفهوم أن الكون مكتفي بذاته؟

- إن المعادلات التي نحلها وحسب مبرهنة نويثر للتناظر تفترض أن القوانين هي هي في كل زمان ومكان، وحتى امتدادات هذه النظرية تشي بأن القوانين ثابته لا تتغير مع الزمن، وهذه النظرية لها برهان رياضي متين ومعتمدة ومعروفة، بل أن حفظ الطاقة يقوم عليها، وبالتالي فهي تقودنا إلى التالي: بما أن القوانين لا تتغير لا في الزمان ولا في المكان، فهي ضرورية بذاتها وأزلية.


- جميل يا صديقي، أراك بدأت تتجه للفرضيات العقلية، ولكن قبل أن أبدأ هل لديك أي شيء آخر تقوله؟

- لا، تفضل واطرح ما في جعبتك.

- جميل يا صديقي، حقيقة إن اطلاعك على المقومات الرياضية للعلم مهم جداً، ولكن هذه النظرة الأحادية للعلم لا تفيد دائماً، فشخص بمستواك وعقلك يجب أن يكون أكثر تواضعاً وأكثر جدية في البحث إن صح التعبير. مبرهنة نويثر تثبت أن هناك تناظراً وفي حال وجوده يوجد حفظ للطاقة. عموماً مطلق التناظر معرض للانهيار (http://plato.stanford.edu/entries/symmetry-breaking/#4)، وهذا يتكرنا أمام أمرين، إما وجود تناظر تقريبي وإما انهيار التناظر. وحتى الجامعات توافقني فتقول:

But there are deep philosophical questions below the surface of all this activity. For example, what if the laws of physics were different in the early Universe - could we still carry out meaningful research? The answer to this is that modern physical theories actually predict that the laws of physics do change, because of the effects of spontaneous symmetry-breaking.
http://ned.ipac.caltech.edu/level5/Glossary/Essay_lphys.html 

ولا يهم إن كان هذا التغير في بداية الكون أو في منتصفه أو في نهايته، ما يهمنا أن هناك تغييراً. وبالتالي فافتراضك ثبات القوانين يبقى افتراض عقلي بحت أملته عليك الضرورة وليس التجريب، أليس هذا سقوطاً بمعنى السقوط الكامل؟ كيف استطعت أن تفترض أن القوانين ثابتة ولم تتغير؟ هذا ليس تواضع العلماء. 

- ولكن يا مؤمن هذا ما لدينا، ويبقى أفضل من حشر الإله في المنتصف! هل كل جهل يوازي وجود الإله؟ هذا ما تفعلونه يا معشر الغيبيين، فأنتم تحشرون الإله في كل نقطة لم يكشفها العلم بعد! إله الفراغات خطأ يقع فيه جميع المؤمنين. 

- آه يا صديقي، كلامك يؤلم القلب والعقل، فقد عممت، فكيف تقول أن جميع المؤمنين يقعون في إله الفراغات؟ ربما هناك من لديه إيمان من تجربة روحية ولا يمكنك احتقار او تسفيه تجربته! لا يجوز. ولكن ومع هذا سأستمر معك، فأين إله الفراغات؟ لاحظ إني لم أنجر معك لإله الفراغات بل جعلتك تتكلم بالعلم والأسس التي تدحض فيها الإله، فلم تخرج إلا باعتراض وفرضية وليس دحض كامل ونفي لوجوده عز وجل. وبما أن الكلام تحول من علم حقيقي إلى فرضية، فبالتالي تبقى "فرضية" وجود الإله صامدة ولا يمكن دحضها أبداً وفق المعايير التي احتكمت لها. 

- اذن يا مؤمن، لنرى ما لديك من أدلة، وأتمنى أن لا تتضمن السببية، فهي "ساقطة" عندي. 

- حقاً؟ أخبرني كيف سقطت السببية؟ أنا مهتم جداً لأن قلة من يتكلمون بهذا المستوى. هات ما عندك.

- لقد اطلعت على كلام ديفيد هيوم وتبين لي أن كلامه صائب، حيث أوضح أن السببية هي نتيجة للاستقراء، أي استنتجناها من الظاهرة الطبيعية وتتابع الحوادث، وبالتالي لا يمكن أن نثبتها تجريبياً ولا نثبت وجودها دائماً فهي مسألة عقلية بحتة ناتجة من الاستقراء الناقص وليست ضرورية، بمعنى أنه لا يمتنع على النار أن تعطي ثلجاً وعلى الماء أن يشعل ناراً وعلى الإنسان أن يتنفس تحت الماء ويمشي عليه. فالسببية مفهوم خدعنا به نفسنا. يقول برتراند راسل في مقالته لماذا لست مسيحياً:



برهان المسبب الأول:

حجة المسبب الأول هي الأسهل للفهم، هي تعني: كل شيء نراه في هذا الكون له سبب و عندما نذهب في سلسلة المسببات سنصل إلى المسبب الأول و هو الرب. هذه الفرضية لا تحمل ثقلا كبيرا هذه الأيام و لا تحمل نفس المعنى كما في الأيام الماضية. تطرق الفلاسفة و رجال العلم إلى هذا الموضوع و لذلك فقد هذا المصطلح (المسبب الأول) الكثير من صلاحيته. و لكن و بغض النظر عن ذلك يمكن أن نرى أن حجة المسبب الأول لا تحمل حاليا أي معنى. أعترف أنه خلال وقت شبابي عندما كنت أعطي هذه الأسئلة الكثير من الجدية و الأهمية كنت أعتقد بصحة حجة المسبب الأول إلى أن قرأت ، في عمر ال 18 سنة، سيرة حياة جون ستيوارت ميل حيث وردت الجملة التالية: "علمني والدي أنه لا توجد إجابة عن السؤال: من خلقني؟ لأن السؤال التالي سيكون: من خلق الرب؟" هذه الجملة القصيرة هي التي أوضحت لي مغالطة هذه الحجة. إذا كان لكل شيء مسبب يجب أن يكون للرب مسبب أيضا. إذا وجب وجود شيء بدون مسبب، يستطيع هذا الشيء أن يكون العالم (الكون) كما الرب في هذه الحجة التي بدون معنى. تتشابه هذه الحجة مع حجة الهندوسي الذي يقول أن العالم موجود على ظهر فيل و هذا الفيل يقف على ظهر سلحفاة و عندما سُئل هذا الهندوسي عن السلحفاة، أجاب: لنتحدث عن شيء آخر. حجة المسبب الأول ليست أفضل من ذلك. لا يوجد سبب يمنع الكون من أن يكون وجوده بدون سبب و لا يوجد سبب يجعلنا نقول أن الكون له بداية. الفكرة أن لكل شي بداية هي نتيجة فقر قوة خيالنا. لذلك لن أضيع المزيد من الوقت على حجة المسبب الأول.

البرهان عبر القانون الطبيعي:

بالإضافة إلى ذلك توجد حجة القانون الطبيعي التي كانت سائدة خلال القرن الثامن عشر و ذلك تحت تأثير نظريات اسحق نيوتن و آراءه عن نشوء الكون. لاحظ المرء أن الكواكب تدور حول الشمس حسب قانون الجاذبية، لذلك ظن الناس أن الرب أعطى الأمر بالتحرك بهذه الطريقة. كان هذا التفسير سهلا و بسيطا أراح الناس من شروح إضافية لقانون الجاذبية. حاليا نشرح نحن قانون الجاذبية بشكل أكثر تعقيدا و ذلك حسب الطريقة التي وجدها آينشتاين. لن ألقي عليكم الآن محاضرة حول قانون الجاذبية كما يشرحها أينشتاين لأن ذلك سيأخذ وقتا طويلا.يكفي القول أن القوانين الطبيعية التي كانت حسب نظام نيوتن و لأسباب لا يفهمها أحد واحدة في كل مكان هي الآن بالنسبة لنا مجرد قناعات بشرية. أنتم تعرفون أن 1 متر يساوي 100 سم في أظلم بقعة في الكون. بدون شك هذه نتيجة تستحق الملاحظة و لكن هذا الشيء ليس قانونا طبيعيا. الكثير مما كان يُعتقد انه قانون طبيعي هو على هذه الشاكلة. من جهة أخرى عندما يتطرق المرء إلى الذرة و تصرفاتها يستطيع أن يربح وجهة النظر بأن الذرة تتصرف وفق قوانين أقل مما يعتقده. أي أن القيم المتوسطة التي نأخذها منها تتشابه مع القيم التي تأتي عن طريق الصدفة. معروف وجود القانون بأن رمي نردين (حجري زهر) يعطي الرقم 6 معا بمعدل مرة كل 36 رمية و لكن ذلك لا يمكن اعتباره قانونا (أي التحكم بالنتيجة من قبل من يقوم بذلك). على العكس من ذلك لو حصلنا في كل رمية على الرقمين 6 لاستطعنا القول بأن هناك تحكم و رغبة من قبل الفاعل في الحصول على النتيجة. أغلبية قوانين الطبيعة هي على هذه الشاكلة. حسب وجهة النظر الإحصائية هي قيم إحصائية متوسطة تنبثق عن قانون الاحتمالات و بهذا يظهر لنا أن مسألة القانون الطبيعي أقل إدهاشا لنا منها في الماضي. بغض النظر عن هذه الأفكار التي هي الآن المستوى العلمي الحديث و الذي يمكن أن تتغير مستقبلا فإن الفكرة الأساسية لهذه الحجة هو أن هناك صانع قوانين لهذه القوانين الطبيعة و هذا ما يدخل الاضطراب بين القوانين الطبيعية و القوانين البشرية. القوانين البشرية تأمرنا بتصرفات معينة و لكننا نستطيع أن نتبعها أو نتجاهلها بينما القوانين الطبيعة تصف الكيفية الحقيقية لتصرف الأشياء. و لذلك لا يمكن وجوب وجود من أمر الأشياء حسب هذه الطريقة لأنه في حال افتراض ذلك سيأتي السؤال: "لماذا أمر الرب بهذه القوانين الطبيعية و لم يأمر بغيرها؟. عندما تقولون أن ذلك حدث بدون سبب ما، أي لأن ذلك أعجبه، يجب أن تعترفوا بأن هناك شيء ما لا يخضع لهذه القوانين و بالتالي فإن سلسلة القوانين الطبيعية لن تكتمل. و إذا قلتم ، كما المتدينون الأرثوذكسيون: بأن الرب لديه أسبابه الخاصة في ذلك ، و هذا السبب سيكون في هذه الحالة خلق الكون في أحسن صورة، رغم أن المرء و عبر بعض التأمل و التفكر لن يكون على هذا الرأي،أي في حال أن الرب لديه أسبابه الخاصة في خلق الكون فإن هذا الرب سيكون خاضعا لهذه القوانين. و لذلك لا توجد لكم أي فائدة من إعطاء الرب مركز الوسيط بين الطبيعة و القوانين. لأن في هذه الحالة لديكم قانونا خارج القانون الإلهي و الرب في هذه الحالة لا يخدم قضيتكم لأنه ليس صانع القوانين الأول. باختصار فإن حجة القانون الطبيعي ليست أكبر حجما مما سبقها.
وبالتالي فإن حتى استدلالك بالقوانين السببية وتنظيم الكون ودقة الحياة لا يبرر وجود الخالق أبداً فبرتراند راسل وديفيد هيوم قد أنهيا هذه المعضلة الفكرية منذ أمد بعيد. لم يعد هناك مكان لإلهك إلا في قلبك وأوهامك يا صديقي مؤمن، فهو مجرد فكرة من أيام الجهل الإنساني الأولى، فكرة تتمسكون بها مراراً وتكراراً حتى تبررون أموراً عجز العلم عن تبريرها. 


- برافو، لقد طرحت كلاماً عميقاً جداً يا عزيزي، ودعني أقول لك بكل فخر: من حقك أن تلحد إن ثبت صحة هذا الكلام وتعارضه مع الإيمان، فكيف سيكون رد فعلك إن علمت أن من أوائل العلماء الذين أنكروا السببية ووجدوا طريقة للإيمان بالله هو الغزالي رحمه الله؟ حقيقة كل هذا الكلام الذي قلته لا ينفي وجود الله أبداً بل يضع حواجز أمام العلم أصلاً كي يصل إلى الله، وحسب كلام راسل وهيوم فإن العلم لم ولن يمكنه أبداً تقرير مسألة والوصل إلى اليقين، هل كنت تعلم هذا؟ هناك قصة مشهورة حول إثبات أن 1+1=2، سأنقلها لك:



لماذا احتاج عالم الرّياضيّات والفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل لأكثر من 350 صفحة ليثبت صحّة الحقيقة الرّياضيّة: 1+1 = 2؟

|ما هو الدّافع من وراء شروعِهِ، بالتّعاون مع أستاذِهِ ألفرد نورث وايتهيد، لإشتقاق جميع أسس علم الرّياضيّات من مجموعة صغيرة من الفرضيّات المنطقيّة؟
وهل حقّق الأستاذان أهداف مشروعهما الإستثنائي؟
في المؤتمر الدّولي للرّياضيّات سنة 1900،
وقف عالم الرّياضيّات الشّهير دافيد هيلبرت (David Hilbert) أمام الملأ وصرّح بكلّ ثقة بأنّه في علم الرّياضيّات لا يوجد “لا نعرف ولن نعرف”، منتقدًا الرّؤية التي تقدّم بها الفيزيولوجي الألماني إميل ريموند (Emil du Bois-Reymond) والتي تنصّ أنّ العلم محدود وأنّ قدراتنا البشريّة ستقف عاجزة أمام بعض المسائل العلميّة.

في نفس الفترة، كان عالم الرّياضيّات والفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل (Bertrand Russell) عاكفًا على دراسة علم المنطق الرّياضي وأصولِهِ، تحت إشراف أستاذِهِ ألفرد نورث وايتهيد (Alfred North Whitehead) في جامعة كامبريدج في إنجلترا. ولكن الفترة التي عاش فيها راسل لم تكن فترة زمنيّة إعتياديّة – على الأقلّ من منظور علميّ الرّياضيّات والمنطق. فقبل ذلك بـ 20 سنة فقط، تقدّم الفيلسوف وعالم الرّياضيّات الألماني جوتلوب فريجة (Gottlob Frege) بتعديلات وإضافات ثوريّة على علم المنطق الذي بقي جامدًا لأكثر من 2000 عام. كما أنّ نفس الفترة الزّمنيّة شهدت تطوير نظريّة المجموعات (Set Theory)، على يد جورج كانتور وغيرِهِ، وهي النّظريّة التي احتلّت وتحتلّ مكانةً مركزيّة في علم الرّياضيّات وعلم المنطق الرّياضيّ حتّى يومنا هذا.
ولكنّ جهود فريجة وكانتور لم تكن كاملة متكاملة، بل على العكس، فكما أظهرت مراجعات راسل وغيره تبيّن أنّ هنالك عددًا من المشكلات المنطقيّة والمفارقات (Paradoxes) في أعمال الرّجلين. أحد هذه المشكلات عرفت لاحقًا بإسم مفارقة راسل – Russell’s Paradox، نسبة إلى راسل نفسه. هذه المفارقة وغيرها حفّزت راسل ليشرع، بالتّعاون مع أستاذِهِ ألفرد نورث وايتهيد، بالعمل على مشروعٍ إستثنائيّ يهدف إلى إشتقاق جميع الحقائق الرّياضيّة من مجموعة محدّدة من الفرضيّات المنطقيّة (Axioms)، بالإضافة إلى قواعد الإستدلال والإستنباط المنطقيّ (Inference rules).

هذا المشروع تتوّج في سنة 1910 بنشر كتاب “مبادئ الرّياضيّات – Principia Mathematica” في ثلاثة مجلّدات. الكتاب يُعتبرُ من قبل كثيرٍ من المختصّين أحد أهمّ الكتب في علم المنطق الرّياضي والفلسفة منذ كتاب المنطق الأرسطيّ – Organon. إذا كنت متلهّفًا لقراءة الكتاب وفهم أسس أحد أجمل العلوم البشريّة، فعليك أن تقلّب أكثر من 350 صفحة من الرّموز الرّياضيّة الغامضة والمعقّدة حتّى تصل إلى أبسط الحقائق الرّياضيّة التي نلقّنها أطفالنا، حيث يخبرنا راسل في الصّفحة 362 من المجلّد الأوّل، الطّبعة الأولى باللّغة الإنجليزيّة:

“من هذه الفرضيّة، سيتبع، عندما نعرّف معنى الجمع العددي، أنّ 1 + 1 = 2.”

مع أنّ جهود راسل ووايتهيد تثير فينا مشاعر مختلطة من الدّهشة والإعجاب، إلاّ أنّ السّؤال المركزيّ الذي سيبقى عالقًا في أذهاننا هو: يا هل ترى ماذا حقّق مشروعهما فعليًّا؟ هل نجحا ببناء صرح شامل لعلم الرّياضيّات، كما حَلُمَ دافيد هيلبرت؟
للأسف، على الرّغم من الطّموح الجامح الذي ميّز مسيرتهما، إلاّ أنّ المشروع لم يحقّق الكثير فعليًّا. بحسب البروفيسور إيفور جراتين-جينس (Ivor Grattan-Guinness)، باحث في تاريخ علم الرّياضيّات والمنطق، “إنّ الذي حقّقه راسل ووايتهيد في كتاب مبادئ الرّياضيّات كان نوعًا ما مجرّد التّحضير لإستعمال الرّياضيّات، بدون أن ينجزا ما قد يؤهّلنا لممارسة الرّياضيّات الحقيقيّة. وبشكلٍ أو بآخر، الكتاب يشبه التّمهيد الموسيقيّ الضّخم لقطعة أوبرا لم تُكتَب أبدًا.”

ولكن المفاجأة الحقيقيّة التي كانت تنتظر راسل، وايتهيد، وحتّى هيلبرت لم تكن سارّةً أبدًا. ففي الثّلاثينات من القرن العشرين (أي بعد قرابة الـ 20 سنة على إصدار الطّبعة الأولى لكتاب مبادئ الرّياضيّات) تقدّم عالم المنطق والرّياضيّات النّمساوي كورت جوديل (Kurt Gödel) بمبرهنات عدم الإكتمال، ساحبًا البساط من تحت أرجل هيلبرت ومحطّمًا أهداف مشروع راسل ووايتهيد إلى شذرات. المبرهنات أثبتت، بما لا يدع مجالاً للشكّ، أنّ إيجاد مجموعة متكاملة ومتناسقة من الفرضيّات المنطقيّة التي من الممكن إستخدامها لإثبات صحّة جميع الحقائق الرّياضيّة هو ضربٌ من المستحيل.
بعد هذهِ الصّدمة الشّديدة التي وجّهتها مبرهنات عدم الإكتمال نحو مشروعِهِ الشّخصيّ، كتب راسل: “لقد أردتُّ أن أتحصّل على يقين مشابه لليقين الذي يطلبه النّاس الذي يودّون التحصّل على الإيمان الدّينيّ. لقد ظننت أنّ اليقين من المحتمل أن يكون موجودًا في علم الرّياضيّات أكثر من أيّ مكانٍ آخر. ولكن بعد قرابة العشرين سنة من الكدح، المشقّة، والتّعب، توصّلت للنّتيجة أنّه ليس بإستطاعتي أن أقدّم أكثر من ذلك.”
Russell wrote (in Portraits from Memory, 1956) of his reaction to Gödel's 'Theorems of Undecidability':
I wanted certainty in the kind of way in which people want religious faith. I thought that certainty is more likely to be found in mathematics than elsewhere. But I discovered that many mathematical demonstrations, which my teachers wanted me to accept, were full of fallacies ... I was continually reminded of the fable about the elephant and the tortoise. Having constructed an elephant upon which the mathematical world could rest, I found the elephant tottering, and proceeded to construct a tortoise to keep the elephant from falling. But the tortoise was no more secure than the elephant, and after some twenty years of arduous toil, I came to the conclusion that there was nothing more that I could do in the way of making mathematical knowledge indubitable.


كل هذا سيطرح شكاً حول يقينك أصلاً بالعلم وبوجود نفسك وذاتك، ولا يمكنك برهنة أو اثبات أو الثقة بأي شيء بعد الآن، فهل هذا ما تريده يا عزيزي؟ تفضل وقل ما عندك.

- ههههههههه هل ترى يا مؤمن؟ كل ما قلته باختصار يدعم وجهة نظري فأنا لا أملك أي يقين لأي شيء ولا استطيع اثبات أو نفي أي شيء الآن. كل ما نملكه هو من خبرة سابقة وبالتالي فالإيمان بأي شيء "باطل" جملة وتفصيلاً. ما رأيك؟

- رأيي مخالف لرأيك جملة وتفصيلاً، هل تعلم لماذا؟ لأن صاحب نظرية عدم الاكتمال نفسه، أي Kurt Gödel، أوضح أن في كل نظام رياضي متسق لابد أن توجد مسلّمة لا يمكن اثباتها، وهكذا فلا أنا أستطيع اثبات السببية ولا أنت تستطيع اثبات العشوائية المطلقة في الانتصار لنفسك، بل ولا تستطيع أن ترينا سوى أن هناك احتمالات أخرى كاملة! فأين المشكلة؟ هل هي معي أم معك؟ 
هروبك من التأسيس الفكري الذي يفيد التقدم ويتسق مع العلم. فالعلم له طبيعة كاشفة عن الواقع وكيفية تصرفه، ولا أحد ينكر أن العلم صالح في حدود ويبطل في حدود أخرى! أي أنه محدود ذاتياً، ولهذا فإدعاء البعض، ولا أقصدك يا سامي، أن العلم سيخبرنا يحتمل على افتراض مبطن أن العلم سيكون مطلقاً وسنعرف كل شيء. وهذا بحسب استقراء هيوم أيضاً باطل! اذن ما الحل؟ هل نجلس ونقول لا علم ولا يمكن؟ ام نبدأ من أسس عقلية معتبرة تبينا جدواها وقدرتها، فتقدمنا. أنت لا تشكك بأن 1+1=2 ، وتعرف أن هذا الشيء صالح في عالمنا، وتؤمن بأننا نستطيع التحكم بالذرة والعالم وننتج ما ننتج، وبنفس الوقت تعلم أن هذا الأمر محدود، وأنا اؤمن بالسببية التي هي مثل 1+1=2، هي تعمل لأنها صحيحة! لأنها بديهية! وليس لأنها شيء آخر! أما السببية الطبيعية التي يتكلم عنها هيوم وراسل، فتذكر كلامي عن الغزالي، لأنه نفى السببية الطبيعية! ونحن ننفيها لا بمعنى أنها غير موجودة، ولكن بمعنى عدم ضروريتها، وعدم استمراريتها. نحن لا ننكر السببية وبنفس الوقت لا نؤمن بأنها مطلقة، فهي ليست قانون طبيعي تام! 
قد يدعي الملحد أو اللاأدري على أنه صاحب عقل ومنطق ويثق بالمنهج العلمي، متناسياً أن المنهج العلمي يحتاج للمنهج العقلي والتسليم، فمثلاً الملحد يؤمن أن هذه الفكرة إما صحيحة وإما خاطئة وأنه إن قام بالعمل الفلاني سيحصل على النتيجة الفلانية، هو لا ينكره أبداً، ولكن عندما تناقشه بخصوص الإيمان، فستجد الرفض والتشكيك منه يا سامي العزيز. فهل تظن أن كلام برتراند راسل وهيوم هو صحيح وخطأ بنفس الوقت؟ هناك فرق بين المحدود والخطأ. فحتى ادعاءك عن عدم امكاننا معرفة أي شيء، يدخلك في تناقض ذاتي! فهل أنت تعلم أنك لا تعلم؟ أم أنك لا تعلم إنك لا تعلم؟ وكلامك يشي بكون الأخيرة هي الصواب فينقلب حالك جهلاً بالجهل، والجهل بالجهل ليس بعلم. اذن الوصول لمعرفة الله متأتي وممكن في ضوء التأسيس الفكري المتوافق مع الواقع، والتوافق مع الواقع يأتي من الخبرة مع التصحيح، كتغذية راجعة عكسية. أنا أزعم بأنكم يا معشر الملحدين لا تملكون سوى الإنكار والنكران، ولا تمتلكون حججاً حقيقية سوى الجهل، والجهل لا يجعل كلامك حجة علي، بل يجعل نظريتي لا يمكن انتقادها من جنابك كونك لم تقدم أي نظرية بالمقابل، وأي نظرية تحاول تقديمها لي على اساس أنها حقيقة يقف بوجهها استقراء هيوم الذي تؤمن به، فليس لك حل سوى ان تترك استقراء هيوم وتنطلق معي في فضاء العقل والتفكير. 

- نعم يا مؤمن، أرى كلامك فيه نوع من المنطق، ولكني لا أزال أشك! فكيف تعلم أن الله يتواصل معنا؟ 

- يا سامي الغالي، يا صديقي، ليست الأمور بهذه البساطة، فبعد أن نتفق على السببية وعلى وجود واجب الوجود، وعلى عدم كافية المادة واكتفائها بذاتها، سنصل إلى واجب وجود متعالي، هذا واجب الوجود حي عليم مريد، فيكون الاتصال به نتيجة لما سبق وليس سبباً لما بعده فقط! أنا أوضحت لك، أنت تتبع ما تضعه كأساس فكري، وستكون نتائجك ضحية لأساسك! وقلت لك، ملاك الأساس ايمانك بصحة فكرتك، فأنت لا يساورك الشك بخطأ فكرتك، ولهذا يجب عليك تمحيص كل أساس بشكل جيد. ولا بأس باتباع القلب والخبرة، لا بأس أبداً.

- أتبع قلبي؟ لابد أنك تسخر مني!

- لا أبداً، فالوصول إلى الله يتطلب قلب وليس منطق رياضي مجرد محدود! الوصول إلى الله عملية ورحلة بحث، وتأسيس فكري بسيط ومنطقي. لاحظ إنك عندما تضع أساس تراه صحيحاً ومتسقاً مع كل شيء، ستصل لنتائج جيدة وغير متناقضة. 

- ومع هذا فمشاكلكم كثيرة، القرآن والانجيل والاخطاء العلمية و.. 

- توقف! هل يعني هذا إنك آمنت بوجود الله؟

- لا طبعاً، ولكني أذكر مشاكلك. 

- صديقي إن كل ما سبق هو نتيجة لوجود الأديان التي هي نتيجة لتأسيس يقوم على وجود الله! فإن أسقطت وجود الله سقط الجميع بعده. ووجود الله ساقط لمن فقد أساسه الفكري أو لمن جعل الكون والمادة مكتفيان بذاتهما. لا معنى للدين بلا وجود الله أبداً. 

- اذن ما هي طريقة البحث؟ 

- طريقة البحث هي اتباع القلب والعقل، فأنت إن كنت تؤمن بحرية اختيارك فستجد لقلبك سلطاناً عليك، ولكن كما قيل فهناك أدلة، فنحن سنتبع المنتشر والمشهور لنصل به إلى ما هو ابعد، وكتلميح، فأنا مؤمن بالإسلام قلباً وقالباً ولكني لا أرفض أن أتأثر روحياً ببعض الأديان الأخرى بما يتوافق ومعتقداتي الدينية طبعاً، وأعلم اني سأكون بنظرك انتقائياً ولكن كما قلت لك: كل شيء هو ضحية للتأسيس. 

- حسناً يا صديق، اعدك بأني سأبحث ولكني لن اعدك بالاقتناع. 

- وأنا أعدك بأني سأبقى صاحبك الذي تثق به. اعذرني الآن، لأني يجب أن أخرج. سنراك لاحقاً على خير.

- على خير.


==============

لم أضع نهاية صارمة والسبب: ايماني الشخصي بأن لكل منا قفزة ايمان يجب أن يقوم بها. فقم بايجاد قفزتك ونفذها.