بسم الله الرحمن الرحيم
يتأثر شبابنا بالمناهج الطبيعية حالياً دون أدنى اطلاع على أسسها الفلسفية والفكرية.
فشبابنا ضحية استغلال الجهل لديهم.
ربما مقالة اليوم تلقي الضوء على تلك المشاكل بشيء من التبسيط
عسى أن يتضح الغامض
قراءة ممتعة
إن قضية المناهج الطبيعية والنظرة للوجود، بالنسبة لي، مساوية للإيمان بوجود الخالق من ناحية القدرة على التفسير. نعم قد يبدوا هذا الكلام فيه قِصر نظر، أو لنقل تقليلاً من شأن الفكرة الدينية، ولكن في الحقيقة فنحن هنا نتكلم عن قضية الإيجاد، أو الخلق، ولا نتكلم عن أمور أخرى، تستلزم وجود الخالق بالضرورة.
أستطيع القول أن المناهج الطبيعية تنطلق من مبدأ أن الكون (الكون ليس فقط كوننا، بل حتى الأكوان خارج الرصد أو قبل الانفجار الكبير) ضروري الوجود عموماً، أما حول ضرورة وجوده، فهي قضية بديهية عندهم عن طريق إطلاق مفهوم ميتافيزيقي متعالي. بمعنى أن وجود الكون مادياً يستلزم وجود بعد ميتافيزيقي لا مادي متعالي. وهذا الوجود المتعالي هو وجود ابستمولوجي اكتسب تفاعلاً مع الواقع الأنطولوجي. قد تبدو كلماتي غريبة لكني سأوضح هذا أكثر في الفقرات التالية.
الآن، لو سألت فيزيائياً ماذا هناك في الكون، سيكون الجواب ببساطة: مادة وطاقة. ولو تعمقت مع النظريات الفيزيائية أكثر، ستصل إلى مفهوم أن كل ما يوجد هو طاقة، وبالتالي فإن المادة ليست سوى تكثيف للطاقة (إن صح التعبير). اذن كيف تكون تلك الطاقة هي سبب الوجود؟ سيكون الجواب أن الطاقة متفاعلة تضج بالحركة والنشاط الذاتيين. وهذا يطرح إشكال أعمق، فهل حركة الطاقة كافية لإنتاج الوجود؟ الجواب طبعاً لا. إذن من أين أتى الوجود؟
تبدأ المعضلة الآن بالتشكّل بصورة أوضح، لديك طاقة، ثم لديك وجود، فأين وجه الربط؟ يكون وجه الربط هو في المستوى المعرفي وليس في المستوى المادي. بمعنى أن العقل يحتاج لإفتراض وجود قوانين، هذه القوانين متعالية عن الزمان والمكان، بمعنى أن وجودها مجرد، وهي مطلقة، وبالتالي هي تحكم الوجود. فقوانين الفيزياء والرياضيات، إن صح التعبير، هي كيانات عقلية متعالية يٌفترض فيها الإطلاق والصحة. وهكذا يكون الوجود المادي محكوم بالقوانين اللامادية. وطبعاً هذا الفرض يقع فيه كثير ممن يتعمقون في العلم والفيزياء، فهو يضطر إحالة الوجود إلى إطلاق القانون فوق الزمان والمكان. مع العلم، أننا لم نقف على قانون مطلق بذاته إلى الآن، بل على النقيض، وقفنا على جوانب من الوجود جعلتنا نحتار فيه. فسرعة الضوء لها ثوابت وكتلة الالكترون ايضاً وهكذا دواليك. حتى أن البعض يقول أن قوانين الفيزياء ستتغير لو تغيرت تلك الثوابت. وطبعاً هذا معزز بهذا البحث:
Laws of physics may change across the universe
اذن هذا يطيح بإطلاق صفة الثبوتية، وفي أسوأ الظروف يلقي بالشك حول مسألة ثبات القوانين، فيتحول القانون من قضية متعالية فوق الزمان والمكان إلى شيء آخر، وصف نمطي لحركة الوجود وتغيره. يقول برتراند راسل في وصفه لثبوت القوانين:
يكفي القول أن القوانين الطبيعية التي كانت حسب نظام نيوتن و لأسباب لا يفهمها أحد واحدة في كل مكان هي الآن بالنسبة لنا مجرد قناعات بشرية. أنتم تعرفون أن 1 متر يساوي 100 سم في أظلم بقعة في الكون. بدون شك هذه نتيجة تستحق الملاحظة و لكن هذا الشيء ليس قانونا طبيعيا. الكثير مما كان يُعتقد انه قانون طبيعي هو على هذه الشاكلة. من جهة أخرى عندما يتطرق المرء إلى الذرة و تصرفاتها يستطيع أن يربح وجهة النظر بأن الذرة تتصرف وفق قوانين أقل مما يعتقده. أي أن القيم المتوسطة التي نأخذها منها تتشابه مع القيم التي تأتي عن طريق الصدفة. معروف وجود القانون بأن رمي نردين (حجري زهر) يعطي الرقم 6 معا بمعدل مرة كل 36 رمية و لكن ذلك لا يمكن اعتباره قانونا (أي التحكم بالنتيجة من قبل من يقوم بذلك). على العكس من ذلك لو حصلنا في كل رمية على الرقمين 6 لاستطعنا القول بأن هناك تحكم و رغبة من قبل الفاعل في الحصول على النتيجة. أغلبية قوانين الطبيعة هي على هذه الشاكلة. حسب وجهة النظر الإحصائية هي قيم إحصائية متوسطة تنبثق عن قانون الاحتمالات و بهذا يظهر لنا أن مسألة القانون الطبيعي أقل إدهاشا لنا منها في الماضي.
وهذا عموماً يتفق مع فكرة ميكانيكا الكم، التي تفترض وجود عالم احتمالي، وللعلم، قد قال هذا قبلهم علماء الكلام المسلمين المعتزلة. ومن يحب الاستزادة ليعد إلى كتاب دقيق علم الكلام للدكتور محمد باسل الطائي للوقوف على هذه القضية. وخلاصة الأمر يجب علينا أن نطرح تساؤلاً: لماذا تتسم قوانين الكون بالثبات والديمومة بالرغم من أن القانون قابل للانكسار؟ هذا السؤال جوابه عندنا نحن المؤمنين: قيومية الله على الخلق. وعند الملحد: العلم لم يكشف بعد.
تنويه: طبعاً، من يريد البحث في ذات الله عقلياً ضل، ليس من باب التحريم، بل من باب ظلم النفس. نحن يا أحبتي لا نستطيع تخيّل مكعب خماسي الأبعاد، ولكننا نستطيع رسم مسقطه وفق فرضيات، فكيف بنا أن نحيط بالمطلق؟ إن صفات الله وقدرته ما وراء العقل والفهم، والمنطق لا يمكن أن يثبت شيئاً له سوى الوجود وكمال الصفات بالضرورة، فإن ظهر تناقض فهذا التناقض نابع من محدوديتنا ومحاولتنا مد أسسنا الفكرية إلى ما وراء أبعادها، كما حصل مع ميكانيكا نيوتن التي فشلت في السرعات العالية، وكما يحصل لبعض النظريات العلمية الشهيرة عندما يتحول مقياس الأمور للنانومتر فتنهار القوانين ويدخل غيرها.
قبول المحدودية والتواضع أول سبل الإيمان.
والحمد لله على نعمه.
والسلام ختام.