الأحد، 23 نوفمبر 2014

حد السرقة: بين الفهم التاريخي والفهم المتزن

بسم الله الرحمن الرحيم

حد السرقة
بين الفهم التاريخي والفهم المتزن
نعم إنه أكثر حد مثير للجدل بعد الرجم، ولكن آثرنا الابتداء به كونه موجود بالنص الصريح بالقرآن.

هذا البحث باختصار يبحث في قضية قطع اليد من جميع الجوانب، ومن أجمل جوانبه:
ليس القطع هو البتر، بل هو شيء آخر

قراءة ممتعة




حد السرقة بين الفهم والتطبيق

للشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي

قال الله تعالى:  
)وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( المائدة: 38 – 39     

توطـئـة

إن هاتين الآيتين تعدان في لفظهما لبنتين أساسيتين من سورة المائدة، التي تضمنت أحكام العقود والمواثيق على اختلاف أنواعها وأشكالها، سواء كانت عقودا بين الله وخلقه على الإيمان به، وتحريم ما حرم، وإباحة ما أباح والقيام بما فرض، بوصفها داخلة في العقد الأول بين الله والإنسان كما ذكر ذلك رب العالمين في قوله عز وجل:
) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( الأعراف: 172، أو داخلة في عقد الإسلام بين الله ورسوله والمؤمنين بالله ورسله: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( المائدة : 1 .
كما تعد هاتان الآيتان في مضمونهما التشريعي لبنتين أساسيتين في بناء المجتمع الإسلامي المتكامل عقديا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، بحيث يتعذر على المرء انتزاع هاتين الآيتين من سورة المائدة لفظا، كما يتعذر إقامة نظام مجتمع إسلامي حق بدون تطبيقهما، أو تطبيق مضمونها في مجتمع غير إسلامي اختلت عقيدته وفسدت نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فمن حيث علاقة الآيتين بسورة المائدة وارتباطهما بها نلاحظ أن هذه السورة قد استهلت بقوله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ( ، وختمت بحوار بين الله تعالى وبين عبده عيسى عليه السلام عن مدى توفيته بميثاقه: ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( المائدة 116 / 117.
ويجيبه الله سبحانه وتعالى بعد أن بين وفاءه بالعقد والعهد في نفس المشهد الحواري الرائع الرهيب بين الرب الرحيم العظيم المهيمن والعبد المؤتمن الأمين: ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( المائدة: 119.
وبين دفتي السورة – الأمر القرآني بالوفاء بالعقود والموقف الرباني لمساءلة المسيح في اليوم المشهود – تفصيل لما ينبغي الوفاء به من أحكام ومواثيق وعهود، وأمثال تربوية من مواقف الأمم والشعوب ومدى توفيتها أو خيانتها.
كل ذلك بالأسلوب القرآني الذي تلتقي فيه التربية الوجدانية بالتشريع الاجتماعي، والتوجيه الأخلاقي بتفصيل الحلال والحرام في المطعم والمنكح، وتصحيح العقائد والشعائر بتمتين العلاقات بين الأفراد والأمم، ببيان الحدود والعقوبات المقررة للجرائم والاعتداءات، التي يرتكبها الأفراد في حق الأفراد والجماعات والعلاقات، ومن بينها حد السرقة التي هي إخلال بالأمانة وإضرار بالمجتمع واعتداء على المال ونقض للعقود.
وبالتالي فإن سياق هذه السورة كله يدور حول الوفاء في شتى صوره وأشكاله؛ كل ذلك خطابا للمسلمين وتعليما لهم وتذكيرا وتحذيرا من عاقبة نقض العقود والمواثيق وخيانتها، سواء كانت مع الله أو مع خلقه، صغيرة أو كبيرة؛ لأن الذي يخل بالمواثيق الصغيرة في نظره، لا حرمة في نفسه ولا رعاية للمواثيق الغليظة.
ثم يذكر الله المؤمنين بميثاقهم معه يوم قالوا لنبيه سمعنا وأطعنا في المنشط والمكره ونصرة الإسلام وتبليغه للناس ) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور( المائدة:7.
 ثم يضرب لهم المثل ببني إسرائيل وخيانتهم: ) وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ، فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( المائدة : 13  .
ثم يعقب سبحانه بمثل موقف النصارى من مواثيقهم: ) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( المائدة: 14.
ثم يرد الأمر الإلهي للرسول – صلى الله عليه وسلم – بأن يوفي بعهده، ويبلغ الرسالة التي أؤتمن عليها بموجب العقد الذي التزم به والميثاق الذي واثقه به ربه سبحانه ) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين ( َالمائدة: 67.
 كما يرد التهديد للمسلمين إن هم نقضوا العهود وارتدوا عن دينهم بأن الله سوف يأتي بقوم غيرهم يحبهم ويحبونه: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( المائدة54.
 وهكذا يتضح لنا أن آيتي حد السرقة ( السارق والسارقة..) جزء أساسي وضروري متمم للسورة يتعذر انتزاعه منها؛ لأنه متعلق بعقد للإنسان مع الله ومع خلقه على حفظ الأموال والذمم والدماء وأمن المجتمع. وليس من الطبيعي ولا المعقول ولا المنطقي أن ترد سورة المائدة بدون آيتي حد السرقة ولا أن ترد هاتان الآيتان في غيرها من السور. وهذا من الإعجاز القرآني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

حد السرقة والمجتمع الإنساني

أما من حيث علاقة المضمون التشريعي للآيتين بالمجتمع الإسلامي الرباني الحقيقي فلابد لتوضيح ذلك من التذكير بأن هذا القرآن جاء لينشئ مجتمعا نموذجيا، وليقيم نظاما للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مرتبطا بنسق كوني متكامل خاضع لله الذي خلق الكون ويعلم ما يصلح له وما يصلحه وما يناسبه من نظم وتشريعات، وعلمه سبحانه وتعالى مطلق غير محدود، لذلك يتعذر خلط التشريع الإلهي المبني على حكمة وعلم مطلقين بالتشريع الوضعي المؤسس على حكمة وعلم محدودين. ومن ثم فإن ترقيع المجتمع الرأسمالي بالتشريع الإسلامي متعذر؛ لأن النظام الرأسمالي مبني على الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا عين السرقة. كما أن ترقيع المجتمع الماركسي بالتشريع الإسلامي متعذر؛ لأن ثروة الناس سرقتها في هذا النظام فئة الحزب الحاكم، فكيف يستساغ تطبيق حد السرقة على الذي أخذ حاجته من ثروته المسروقة.
أما المجتمعات الإسلامية التي اختلت فيها الأوضاع الإيمانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولم يطبق فيها حكم الإسلام فهي أيضا غير صالحة لإقامة حد السرقة ما لم تستقم فيها هذه الأوضاع على نهج الإسلام وشريعته. والمثال صارخ بين أيدينا في دول تقيم الحدود على غير مستحقيها وتستغل إقامتها لحماية اللصوص من المرابين والمضاربين والمقاولين والمرتشين.
لذلك فإقامة حد السرقة بالشكل الصحيح – كغيره من الحدود – مرتبطة ارتباطا وثيقا بإقامة الإسلام كله كاملا متكاملا في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فليس من المجدي إقامة حد السرقة في مجتمع نظامه السياسي غير إسلامي، إذ لا بد أن يكون النظام فيه إسلاميا شورويا (وأمرهم شورى بينهم )، والتشريع فيه لله، وراية التوحيد فيه خفاقة عالية تتحدى الظلمة، وتستهزئ بالطواغيت والجبابرة. ولعل في منطوق آيتي حد السرقة ما يؤدي هذا المعنى في قوله تعالى)وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة: 38، إذ الخطاب القرآني والأمر بالقطع موجه إلى الأمة بصيغة الجمع، مما يفيد أن مسؤولية إقامة الحدود ملقاة على عاتق الجميع وأن سلطة تنفيذها سلطة جماعية.
وليس من المجدي إقامة حد السرقة في مجتمع نظامه الاقتصادي غير إسلامي، ثروة الشعب فيه دولة بين الأغنياء أو محتكرة بيد السماسرة، وحاجات الأفراد فيه سجينة لدى المستغلين. إذ لابد لإقامة حد السرقة من تحرير حاجات الناس وضمان ضروريات العيش الكريم لهم،  فإذا وجدت هذه الحاجات أو حررت كان الذي يتجرأ على السرقة إما ظالما معتديا يقام عليه الحد، أو منحرفا نفسيا وعصبيا يلحق بالمستشفى.
وكذلك لا يجدي إقامة حد السرقة في مجتمع نظام الاجتماع فيه غير إسلامي علاقات الأفراد فيه فوضوية، وملابسهم ومآكلهم ومشاربهم بهيمية، وعواطفهم نحو بعضهم حيوانية.
إذ لو كان المجتمع يعصر الخمر أو يشيعه بين أعضائه لما جاز إقامة حد السرقة على من يتناول خمرا أو مخدرا ثم يتجرأ على السرقة تحت تأثيرهما.
إن حماية الموطنين من مختلف الضغوط والانحرافات وإشاعة جو من النظافة الروحية والخلقية والاجتماعية وتنمية روح الجدية والشعور بالمسؤولية شروط ضرورية لإقامة حد السرقة.

السرقة لغة وشرعا:
وردت آيتا حد السرقة في سورة المائدة بعد آية حد الحرابة والفساد في الأرض (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ..الآية)المائدة 33، نظرا لما للحكمين من علاقة وترابط واتصال....
فالحرابة والإفساد يتضمنان أكل أموال الناس ظلما بواسطة الخروج على الجماعة وقطع الطريق، والسرقة أيضا ضرب من ضروب الفساد بأكل أموال الناس بالباطل خفية..
ولما بين الله تعالى عقاب أولئك المفسدين المحاربين وأمر بالتقوى وابتغاء الوسيلة بين عقاب هؤلاء اللصوص أيضا ليجمع في تربية الخلق بين الحافز الذاتي إلى الخير والصلاح، وبين الوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب فقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ومعناها قطع يد كل منهما ذكرا أو أنثى. فظاهر اللفظ من جمعه ( الأيدي ) من الاثنين يدل على أن المراد يد واحدة من كل منهما، وقد جمع " اليد " ولم يقـل ( يديهما ) ، لأن الفصاحة العربية تستثقل إضافة المثنى إلى ضمير التثنية، أي الجمع بين تثنيتين مثل قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) التحريم 4.
 وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ( والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم )، كما روى عنه أيضا: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما )، وهي قراءة شاذة وإن كان الحكم بقطع اليمنى عند جميع الفقهاء موافقا لها.
وتعرب ( السارق والسارقة ) مرفوعين على الابتداء، والخبر: (فاقطعوا أيديهما )، كما يمكن أن يكون الخبر محذوفا أي: حكم السارق والسارقة ثابت فيما يتلى عليكم. وقوله تعالى ( فاقطعوا أيديهما ) بيان لذلك الحكم المقدر.
والاختيار عند الكوفيين أيضا الرفع، لأنه لم يرد به سارق بعينه ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما لكان وجه الكلام النصب. وقد قرأ عيسى ابن عمر ( والسارق والسارقة ) بالنصب، وفضلها سيبويه على القراءة المشهورة ـ الرفع ـ، ولكن ذلك طعن في قراءة واظب عليها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وترجيح للقراءة الشاذة.
أما من حيث البحث اللغوي فيقال: السرقة - بفتح السين وكسر الراء-. كما يقال السرقة –بفتح السين وسكون الراء أو بكسر السين وسكون الراء- ومعناها أخذ مال الغير خفية وسرا.ولم تختلف الأمة في أن الآية خاصة بسرقة المال أو ما يقوم بالمال.
 كما ميز الله عز وجل في الحكم، بين السارق وبين غيره من آكلي أموال الناس بالباطل. فجعل القطع للسارق، وترك قطع المنتهب والمختلس والغاصب والمرتشي دون أن يعفيهم من التعزير والتأديب. ذلك أن السارق لا يمكن الاحتراز منه لوقوع الجريمة منه خفية، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا، بخلاف المنتهب والمختلس والغاصب والمرتشي فإنهم يمكن الاحتراز منهم ومقاومتهم وكف أذاهم لوقوع الفعل منهم جهارا.
اشتراط الحرز إضافة لا أصل لها:
أضاف الفقه الإسلامي منذ بداية نشوئه شرطا لتحقق فعل السرقة استنبطه من معناها اللغوي، وهو ضرورة وقوع السرقة في حرز. والحرز هو ما بني للسكن وحفظ الأموال كبيت أو دكان أو خيمة أو نحو ذلك، ولو لم يكن له حارس أو حافظ، وسواء سرق منه وهو مفتوح الباب أو لا باب له.
واعتمد في إضافة هذا الشرط على تأويل بعض الآثار النبوية مثل:
-                     (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ مَا أَصَابَ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ )النسائي
-                     ( قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَمْ تُقْطَعُ الْيَدُ قَالَ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ فَإِذَا ضَمَّهُ الْجَرِينُ قُطِعَتْ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ وَلَا تُقْطَعُ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ فَإِذَا آوَى الْمُرَاحَ قُطِعَتْ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ) النسائي
قال - صلى الله عليه وسلم –: (عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ )الترمذي
وهي كلها روايات تحدث في سندها وردها بعض رجال الحديث كما شرح ذلك ابن حزم بتفصيل في المحلى: (8/319)، ثم عقب بقوله:( ومن طريق البخاري... قال رسول – الله صلى الله عليه وسلم -: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ )
(قال أبو محمد – رحمه الله -: فقضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقطع السارق جملة ولم يخص عليه السلام حرزا من غير حرز  (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم 3،4(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) مريم 64، وقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) المائدة 3، وقال تعالى: ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل 44، ونحن نشهد بشهادة الله تعالى، أن الله عز وجل لو أراد أن يقطع السارق حتى يسرق من حرز، ويخرجه من الدار، لما أغفل ذلك و لا أهمله، و لا أعنتنا بأن يكلفنا علم شريعة لم يطلعنا عليه، ولبينه على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم، إما في الوحي وإما في النقل المنقول. فإذ لم يفعل الله تعالى ذلك ولا رسوله – صلى الله عليه وسلم، فنحن نشهد ونبت ونقطع بيقين لا يمازجه شك أن الله تعالى لم يرد قط ولا رسوله – صلى الله عليه وسلم - اشتراط الحرز في السرقة. وإذ لا شك في ذلك فاشتراط الحرز فيها باطل بيقين لا شك فيه ) _ المحلى 8– 328 -.
وهذا هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق والخوارج كلهم لا يشترطون الحرز لعدم ورود الدليل باشتراطه في السنة، ولإطلاق الآية.
لذلك فإننا لا نأخذ باشتراط الحرز، لأنه ليس لنا به نص من قرآن أو سنة؛ والآية عامة ومطلقة، والنبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بقطع السارق جملة دون أن يشترط في ذلك حرزا. والسرقة لغة وعرفا وشرعا وواقعا، هي أن يأخذ الشخص سرا واستخفاء، شيئا ليس له أخذه سواء من حرز أو من غير حرز. وهي جريمة في كل الأحوال، والعقوبة الرادعة لها هي عقوبة مقررة لجوهر فعل سرقة الأموال أو ما يقوم بمال، وليست لنوع معين منها فقط، أو شكل خاص بها فقط أو ظروف تصاحبها فقط.
النصاب بين الشرع وواقع الأمة المرير:
كما أضاف أكثر فقهاء السلف والخلف شرطا آخر لتحقق السرقة، وهو النصاب الذي يقام له الحد. وثار بينهم خلاف لم يحسم لحد الآن. ذلك أن الآية الكريمة وردت مطلقة غير محددة لمقدار معين يقطع فيه السارق. فذهب أكثر المحدثين إلى أن أحاديث – رسول الله صلى الله عليه وسلم – حددته. ثم اختلفوا في تأويل هذه الأحاديث واستخراج الأحكام منها. لكن كل ما ورد في هذا الموضوع مضطرب ومختلف. فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة - رضي الله عنها وعنهم- أحاديث يدفع بعضها بعضا. ورد عنهم  مرسلا ومرفوعا أن نصاب السرقة دينار، وأنه ربع دينار، وأنه ثلث دينار أو نصف دينار، وأنه ثمن المجن – الترس – فما فوقه. وقدر الصحابة والتابعون ثمن المجن تقديرات مختلفة: ثلاثة دراهم ، وخمسة دراهم ، وعشرة دراهم ، وربع دينار ، ونصف دينار . وقدره ابن قيم الجوزية بكفاية الرجل وأهله من الطعام ليوم واحد.
وكان هذا التضارب في الروايات والآثار سببا رئيسيا في اختلاف الأحكام لدى المذاهب الإسلامية:
فالنصاب عند المالكية ثلاثة دراهم، وحجتهم ما ورد في الصحيحين من أنه – صلى الله عليه وسلم – قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم.( قَالَ مَالِك أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَإِنِ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ أَوِ اتَّضَعَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ ( موطأ الإمام مال )  
والنصاب عند الشافعية ربع دينار، وحجتهم ما رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ ( قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا )
والحنابلة يجمعون بين الحديثين  فعندهم يقطع كل من سرق ما قيمته ثلاثة دراهم، أو ربع دينار.
أما الحنفية، فالنصاب عندهم عشرة دراهم، وحجتهم ما ذهب إليه ابن عباس وأصحابه، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، وسفيان الثوري من أن ثمن المجن كان على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشرة دراهم.
والنصاب عند الإمامية ربع دينار، بلغ الدينار ما بلغ. ولكنهم يعتبرون هذا تخفيفا فقط على السارق، وإلا فسارق أقل من ذلك عندهم يعد سارقا، واعتمادا منهم على رواية لأبي عبد الله – رضي الله عنه – قال: (كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق، وهو عند الله سارق ولكن لا تقطع اليد إلا في ربع دينار أو أكثر، ولو قطعت يد السارق فيما هو أقل من ربع دينار لألفيت عامة الناس مقطوعين ).
ونحن إذا ما حاولنا استقراء الأحاديث الواردة في الموضوع وجدنا أن الاضطراب ليس واردا فقط بين حديث صحابي وحديث صحابي آخر، وإنما هو أيضا فيما روي عن الصحابي الواحد، كما يتضح لنا من الأمثلة التالية:
فعن عائشة رضي الله عنها مثلا، روي عدد من الأحاديث يدفع بعضها بعضا مثل:
1-           عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ثُلُثِ دِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ( النسائي)
2-           قيل لعائشة: ما ثمن المجن ؟ قالت: ربع دينار (رواه سليمان بن يسار عن عمرة ).
3-           وعَنْ عَمْرَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ يُقْطَعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ( النسائي)
4-           إن يد السارق لم تكن تقطع في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أدنى من ثمن المجن. وكان المجن يومئذ له ثمن، وأنه لم يكن عندها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – غير ذلك (رواه هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة ).
5-           روى مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا طَالَ عَلَيَّ وَمَا نَسِيتُ الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ( الموطأ).
6-            كما رويت أيضا أحاديث متدافعة في الموضوع عن عبد الله ابن عمر منها:
1-               قطع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مجن قيمته خمسة دراهم، وهو ما رواه حنظلة قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ (النسائي).
2-              قطع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قِيمَتُهُ  (البخاري)
3-              وكذلك إذا ما استعرضنا الآثار المروية الأخرى وجدناها أشد اضطرابا وتدافعا، كما يبدو في الأمثلة التالية:
1 – قطع ابن الزبير في درهم (ابن جرير الطبري )
2 – احذر من أن تقطع يدك في درهم (الحسن )، النصاب عند الحسن والزمخشري درهم واحد.
3 – تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار وهو ما رواه أبو داود عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ رَجُلٍ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ.
4 – وَرُوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُمَا قَالَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ ابْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ رَأَوُا الْقَطْعَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا( الترمذي)
5 – لم يقطع النبي – صلى الله عليه وسلم – السارق إلا في ثمن مجن وثمن المجن يومئذ دينار – النسائي -.
6 – قال عمرو بن شعيب، قلت لسعيد بن المسيب: إن عروة والزهري وسليمان بن يسار يقولون لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم، فقال: أما هذا فقد مضت السنة فيه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشرة دراهم، قاله ابن عباس، وأيمن الحبشي، وعبد الله بن عمر. وقالوا: كان ثمن المجن عشرة دراهم.
7 – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ( ابن عمر وأنس). 
8 – قال – صلى الله عليه وسلم -: لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم (سنن ابن قانع عن ابن مسعود ).
9 – قال – صلى الله عليه وسلم: لا قطع فيما دون عشرة دراهم. ( عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن جده ).
10 - صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القطع في ربع دينار ( ابن جرير الطبري ).
11 – قال ابن عباس: الآية على العموم أي: أنها لم تحدد نصابا معينا للقطع.
12 – أتي عثمان – رضي الله عنه - بسارق سرق أترجه قومت بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر، فقطع ( أخرجه ابن المنذر ).
13 – إن عليا – رضي الله عنه – قطع في ربع دينار كانت قيمته درهمين ونصف (أخرجه ابن المنذر).
14 – إبراهيم النخعي وغيره من التابعين، قالوا: كانوا يقطعون في الشيء التافه، واحتجوا في ذلك، بأن الآية وردت مطلقة، وأن (الرسول صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ قَالَ الْأَعْمَشُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا)  البخاري.
15 – قال القرطبي: " وقال آخرون بل عني بالآية سارق القليل والكثير واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأن ليس لأحد أن يخص منها شيئا إلا بحجة يجب التسليم لها.
16- وعَنْ عِرَاكٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ بِالْمَوْسِمِ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ وَالْبَعِيرُ أَفْضَلُ مِنَ الْمِجَنِّ ( أحمد)
17 - لا تقطع الخمس إلا في خمس أي خمسة دنانير أو خمسين درهما (مذهب سعيد بن جبير وبعض السلف )
18 - وقالوا، لم يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خبر بأن ذلك في خاص من السراق. قالوا: والأخبار فيما قطع فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مضطربة مختلفة، ولم يرو عنه أحد أنه أتي بسارق درهم فخلى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، قالوا: وممكن أن يكون لو أتي بسارق ما قيمته دانق أن يقطع “.
ونحن إذا تتبعنا مسيرة الفقه الإسلامي منذ نشأته بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الآن، نلاحظ أنه يتأرجح في موضوع نصاب السرقة بين التشديد والتخفيف، تبعا لموقف الفقهاء من المشكلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاصرونها، ومدى تأثرهم سلبا أو إيجابا بها. لاسيما وكان قد اختل نظام الحكم الإسلامي بتحول أمر المسلمين إلى ملوكية عاضة وجبرية، احتكرت فيها السلطة والثروة بيد حفنة من السلاطين والأعوان، فعطلت الحدود لدى البعض بدعوى عدم ملاءمتها للعصر، واتخذت لدى غيرهم - على غير وجه شرع - درعا للاحتماء من غضب الشعوب، ولحماية كبار اللصوص من النخب الفاسدة.
ونحن نرى أن فقهاء الأمة، قد ألزموا أنفسهم في قضية تحديد النصاب ما لم يلزمهم. وما هو متعذر تحديده، وأن اختلافهم في تحديد قيمة المجن طبيعي جدا من وجهة النظر الاقتصادية. فالمجن قد يكون ثمنه في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – مقدارا معينا في المدينة، ومقدارا غيره في مكة، وآخر مخالفا لهما في فارس، وغير هذه المقادير كلها لدى الروم. وقد يكون ثمنه في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي المدينة وحدها مقدارا معينا عند مجيء قوافل التجار، ومقدارا آخر عند غيابها، نظرا لعاملي الندرة والوفرة، وظروف العرض والطلب، وحالات الجودة والرداءة، والحرب والسلم.
كما أن تحديد قيمة النقد تحديدا جامدا متعذر أيضا؛ لأن قيمة العملة تتغير من زمان لزمان، ومكان لمكان، سواء كانت ذهبا، أو فضة أو أوراقا نقدية، تبعا للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ثم إن العقوبة المقررة في القرآن هي عقوبة رادعة لمطلق فعل السرقة، لأنه فعل في نفسه ذميم، ومرض خطير يخل بالأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأمة، فإذا حددنا للسرقة نصابا معينا كنا كمن يقول: " لا بأس بالخيانة، ما دامت صغيرة، ولا تساهل معها إذا ما تضخمت“.
مع العلم بأن جميع أنواع الانحرافات تبدأ صغيرة، ثم تكبر وهذا معروف في الشرع الإسلامي الذي ينص على أن يقام الحد على شارب قليل الخمر، كما يقام على شارب كثيره، عملا بالقاعدة الفقهية: (ما أسكر كثيره فقليله حرام )، فلماذا نشذ عن هذه القاعدة في قضية السرقة فنميز بين سرقة القليل وسرقة الكثير بدون نص .
لكل هذا نرى أن الله عز وجل قد انزل هذه الآية( والسارق والسارقة...) مطلقة غير محددة لنصاب السرقة قدرا معينا ،وأن كل من سرق من مسلم شيئا مهما كان تافها يعتبر سارقا ، وهو عند الله سارق ، وداخل ضمن أحكام الآية، وأن خيرا من الجدل في هذا الموضوع  أن تحل المشكلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى السرقة  بقيام حكم الإسلام الكامل المتكامل الذي ليس فيه جائع ولا محروم ولا خائف و لا مضطر، ولا فاقد للعقل بخمر أو مخدر .
إقامة الحد بين القطع والبتر:
أما قوله تعالى:  ) فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة: 38 فقد وقع الاتفاق بين الفقهاء على أن المراد بذلك اليد اليمنى، وإن لم ينص على ذلك ظاهر القرآن، وإنما قرروه اجتهادا منهم واعتمادا على قراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيمانهما)، وهي قراءة غير صحيحة كما ذكر ابن حزم.
أما الكتاب والسنة، فلم ينصا إلا على وجوب قطع اليد دون تمييز لليمنى عن اليسرى، لذلك وجدنا عليا كرم الله وجهه قطع الشمال واكتفى بها معتبرا أن قطع اليسرى مجزئ عن قطع اليمنى.
ثم اختلفوا في مقدار ما يقطع، فذهبوا مذاهب شتى، نظرا لورود أمر القطع في القرآن بدون تحديد. مما فتح للاجتهاد مجالا للاختلاف: رأى البعض أن يكون القطع من المرفق وحجتهم ما أولوه من آية الوضوء) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ( المائدة 6، ولكن هذا التأويل مدفوع برأي من يقول: إن اليد هي العضو إلى مفصل الكف محتجين بآية التيمم وسنته )وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ (النساء43.
ورأى البعض أن يكون القطع من الإبط أو المنكب، وهو قول الزهري وسعيد بن المسيب والخوارج، وحجتهم أن اسم اليد يطلق على العضو إلى المنكب.
واختلفت الروايات عن علي كرم الله وجهه، فذكر الشافعي في كتاب "اختلاف علي وابن مسعود" أن عليا كان يقطع من يد السارق الخنصر والبنصر والوسطى، ويقول "أستحيـي من الله أن أتركه بلا عمل"، كما روي عنه أيضا أنه كان يقطع أصول الأصابع كلها دون الكف.
أما أغلب السلف والخلف، فيرون أن يكون القطع من مفصل الكف (الرسغ)، محتجين بعدة أدلة هي:
1 – أنه أقل ما يسمى يدا، ولكن هذا غير صحيح لأن الكف دون أصابع والأصابع دون كف، من أقل ما يسمى يدا.
2 – أنه هو اليد حقيقة، محتجين بما ورد في الكتاب والسنة في التيمم. ولكن الكتاب والسنة أيضا يطلقان اسم اليد على العضو إلى المرفق في الوضوء.
3 – ما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب: (أتي النبي – صلى الله عليه وسلم – بسارق فقطع يده من مفصل الكف)، ولكن هذا الحديث في إسناده مجهول.
4 – ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث رجاء بن حيوة أن النبي – صلى الله عليه وسلم - . قطع من المفصل، ولكن هذا الحديث مرسل.
وقد انقسم الفقهاء في هذا الموضوع فرقاء، وجرت بينهم مناظرات في مختلف الحقب الإسلامية، دون أن يحسم في الأمر بقول فصل. من ذلك، ما روي عن زرقان صاحب أحمد بن أبي دؤاد قاضي المعتصم قال: "رجع ابن أبي دؤاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتم، فسألته، فقال: وددت اليوم أني قد مت منذ عشرين سنة، فقلت لم ذاك ؟ فقال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمد بن علي بن موسى، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن سارقا أقر على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه، فجمع لذلك الفقهاء وأحضر محمد بن علي، فسألنا عن القطع، في أي موضع يجب أن يقطع؟ فقلت من الكرسوع (وهو طرف الزند الناتئ مما يلي الخنصر) فقال: وما الحجة في ذلك؟ فقلت: لأن اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع، يقول الله تعالى في التيمم: )فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (النساء:43، واتفق معي على ذلك قوم، وقال آخرون : بل يجب القطع من المرفق لأن الله تعالى لما قال: )وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىالْمَرَافِقِ (دل على أن حد اليد هو المرفق. فالتفت إلي محمد بن علي بن موسى فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال : تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين، قال المعتصم: دعنـي مما تكلموا به، أي شيء عندك؟ قال أبو جعفر: اعفني من هذا. قال : أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه، قال أبو جعفر: أما إذ أقسمت علي بالله، فإني أقول: إنهم أخطأوا فيها السنة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكف. قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين" فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق، لم يبق له يد يسجد عليها. وقال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) الجن:18  يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، وما كان لله لم يقطع، فأعجب المعتصم ذلك، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف".
وإذ تبين لنا أن جميع الفرقاء لم يقم لهم دليل قطعي على مكان القطع ومقداره، تأكد لنا حاجة الموضوع إلى زيادة بحث وتأمل وتدقيق، كي نهتدي إلى القول الفصل والحل الأمثل، لا سيما إذا ما اعتبرنا أن أقوى دليل على عدم وجود نص صريح صحيح هو اختلاف كرام الصحابة وعليتهم (الخلفاء الراشدين) في الموضوع، مثل أبي بكر الذي قطع من المفصل، وعلي الذي قطع الخنصر والبنصر والوسطى.
ولعل من أسباب الاختلاف في موضوع القطع هو أن الفقهاء بحثوا مفهوم كلمة "يد" لغويا، ولم يبحثوا معنى مادة "قطع" لغويا. ولو فعلوا لتكامل لديهم معنى الكلمتين: "يد" و "قطع". فهم بعضهم أن لفظة "يد" تطلق على العضو من رؤوس الأصابع إلى المنكب، وفهم آخرون أنها إلى المرفق، وفهمها غيرهم أنها إلى الرسغ، وفهم علي بن أبي طالب أن قطع جزء من اليد -الأصابع – يجزئ.
ولكن مادة "قطع" في اللغة العربية لا تعطينا هذا المعني فقط، ففي تفسير قوله تعالى: )أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ (يقول القرطبي: قال مجاهد: " قطعنها حتى ألقينها" وقيل خدشنها. قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز.
ومن هذا الشرح اللغوي يبدو لنا واضحا أن القطع يفيد الجرح، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه: قطع يده.
وقال الزمخشري في الكشاف : "قطعن أيديهن" جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم، فقطعت يدي، تريد: جرحتها".
فالقطع يفيد الجرح والخدش، ويفيد قطع جزء من شيء، ولكنه لا يفيد الاستئصال. أما الكلمة التي تفيد الاستئصال، فهي البتر، وقد جاء في كتاب"ميزان اللغة": (قال: الليث: البتر: قطع الذنب ونحوه إذا استأصله. وقوله تعالى:" إن شانئك هو الأبتر" نزلت في العاص بن وائل الذي قال عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -: هذا الأبتر أي الذي لا عقب له. قال: البتر هو استئصال القطع).
ومن المعلوم أن التعبير القرآني المحكم لم يورد في بيان حد السرقة كلمة تفيد البتر والاستئصال. وإنما لحكمة الله ورحمته بعباده عبر بكلمة "القطع" : " فاقطعوا أيديهما"، وهي تفيد قطع جزء من اليد، كما تفيد الخدش والجرح.
وقد يرد أحدهم بأن القطع يفيد البتر وقطع اليد من مفصل الكف أو المرفق أو المنكب بدليل ما أخرجه البيهقي بسنده من حديث فضالة بن عبيد: (أنه سئل: أرأيت تعليق يد السارق في عنقه من السنة؟ قال: نعم رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم -، قطع سارقا ثم أمر بيده، فعلقت في عنقه). ولكن هذا الحديث ليس حجة في الموضوع، لأنه لا دلالة فيه على المعنى الذي ذهبوا إليه. ولا يفيد أن الجزء المقطوع هو الذي علق بالعنق. ولكن علق الجزء الذي لم يقطع؛ أي ما بقي من اليد لاصقا بالجسد ولم يبتر. لأن هذا هو الوضع الصحي الأسلم لليد المجروحة، والأكثر رفقا بالسارق. وما زلنا لحد الآن، نرى الأطباء يعلقون الأيدي المجروحة أو المكسورة أو المريضة بعنق المريض وعليها الضماد أو الجبيرة.
ولا نعتقد أن المقصود بالتعليق في العنق هو الجزء المبتور، لأن لفظ الحديث لا يؤدي هذا المعنى، كما لا تقره مبادئ النظافة التي هي من الإيمان والإسلام، ولأن اليد المبتورة قد تتعفن ويتأذى حاملها برائحتها، ويؤذي غيره بها أثناء التعامل اليومي، وأثناء تواجده بالمسجد لصلاة الجماعة التي ينص الشرع على ألا يحضرها المرء برائحة كريهة كرائحة الثوم والبصل أو غيرهما، مما قد يمنعه من القيام بشعيرتي صلاة الجماعة والجمعة، وهذا المنع عقوبة أخرى لم ينص عليها القرآن و لا السنة. كما أنه يتنافى مع ضرورة القدوم إلى المساجد بسمت حسن) يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (.
لذلك لا نرى حجة للقائلين بالبتر، من هذا الحديث و لا من سواه، وتبعا لهذه الشروح والاستطرادات والتوضيحات تتوفر لدينا ثلاثة مفاهيم للقطع:
·       إيقاع الألم بالسارق بجرح يده وخدشها اعتمادا على معنى قوله تعالى : (وقطعن أيديهن).
·       قطع جزء من اليد كما فعل علي كرم الله وجهه.
·       قطع اليد من الرسغ كما فعل أبو بكر وعمر، مع تقييد هذا المفهوم للقطع بضرورة اعتبار اليد هي العضو إلى المرفق أو المنكب. وأن ما قطع هو جزء من اليد، وليس اليد كلها، وبغير ذلك يستبعد هذا الوجه من القطع. لأنه يكون بترا واستئصالا، والنصوص لا تؤدي هذا المعنى.
     وهذه المفاهيم الثلاثة يرجح أحدهما على الآخر، أو يرتب إيقاعها باللصوص حسب خطورة السرقة وما يصاحبها من ظروف التشديد أو التخفيف.
التعدد والتناسب بين السرقة والعقوبة
وهناك حالة خاصة للسرقة أثارت جدلا وخلافا شديدين بين الفقهاء، هي حالة من قطع في سرقة ثم عاد لها مرة ثانية أو ثالثة أو أكثر ..
فرأى البعض أن تقطع إحدى رجليه في الثانية، ثم يده اليسرى في الثالثة، ثم رجله الأخرى في الرابعة فإن عاد قتل.
واحتجوا بالحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن جابر قال: (جيء بسارق إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال اقتلوه. فقالوا إنما سرق يا رسول الله، قال: اقطعوه، فقطعوه. ثم جيء به الثانية، فقال: اقتلوه، فذكر مثله، ثم جيء به الثالثة، فذكر مثله، ثم جيء به الرابعة كذلك، ثم جيء به الخامسة، فقال: اقتلوه، فقال: جابر: فانطلقنا به فقتلناه). ولكن هذا الحديث استنكره النسائي، وقال: (الحديث منكر). وقال: ابن عبد البر: (حديث القتل منكر). بل إن النسائي قال: (لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا).
ورأى البعض أن يكتفى بقطع الأطراف الأربعة، دون قتل في الخامسة مستدلين بالحديث الذي أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة (إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله. ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله)، ولكن هذا الحديث في إسناده الواقدي، وقد أخرج الطبراني والدارقطني نحوه عن عصمة بن مالك، ولكن إسناده ضعيف.
وما أغرب ما رآه ابن قيم الجوزية في الموضوع حيث قال: (ثم تقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفا في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع اليد الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحما على وضم فيريح ويستريح) – أعلام الموقعين 2/126 –. ولا ندري كيف تصور أصحاب هذه الآراء أن الذي تقطع يداه ورجلاه مستريح في نفسه، ومريح لمجتمعه، ولا كيف تصوروا أنه يستطيع أن يسرق للمرة الرابعة أوالخامسة...
وقد خالفهم في ذلك الحنفية فرأوا أن تقطع رجله في الثانية ويكتفي بالسجن فيما بعدها، وهو فعل علي رضي الله عنه فيما رواه عنه البيهقي أنه أتي إليه بسارق للمرة الثالثة بعد أن قطعت يده ورجله، فقال: ( إني أستحيي من الله أن أقطع يده فبأي شيء يأكل؟، أو أقطع رجله، فعلى أي شيء يعتمد؟) وقد خالف علي في  ذلك أبا بكر، مع أنهما معا صاحبا النبي – صلى الله عليه وسلم- وأخذا عنه.
أما نحن، فإننا نجزم ونبت ونثبت أنه لم يصلنا في قطع رجل السارق عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شيء، والآية القرآنية لم تبين إلا قطع اليد، ولا حجة لنا إلا من كتاب الله، وما ثبت من سنة صحيحة عن نبيه عليه السلام. وليس فيهما أمر أو إباحة لقطع أي عضو من السارق غير يده، وبالطريقة التي تقدم شرحها، أما ما سوى ذلك فلا نرى جوازه إلا بنص صحيح وليس بين أيدينا هذا النص، ودم السارق حرام إلا بحقه، كدماء جميع المسلمين الثابتة بالنصوص الصحيحة، وما ثبت بنص صحيح لا ينسخ إلا بآخر صحيح.
ولعل أحدا يعترض علينا بأن فعل الخلفاء الراشدين ملزم لنا، لما قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم _ : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)، ولكن يرد عليه بأن الخلفاء الراشدين ليسوا أنبياء ولا معصومين، وأن سنتهم التي ينبغي العض عليها بالنواجذ، هي اتباعهم لسنة النبي – صلى الله عليه وسلم-.
وهذه المعاني كانت واضحة للسلف الصالح، وضوحا لا لبس فيه ولا غبش، كما يتضح لنا من الحديث المشهور الذي رواه مسلم والبخاري وأصحاب السنن، بألفاظ متقاربة: (إن رجلا أتى عمر، فقال إني أجنبت فلم أجد ماء فقال: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية، فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- :" إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، " فقال عمر:" اتق الله يا عمار، قال: " إن شئت لم أحدث به ".
وقد علق ابن تيمية على نفس الحديث بقوله: "فهذه سنة شهدها عمر–رضي الله عنه- ثم نسيها حتى أفتى بخلافها، وذكره عمار – رضي الله عنه- فلم يذكر" - رفع الملام 32-.
ونحن نزيد على قول ابن تيمية: إن عمر لم يشهد ذلك سنة فقط، ولكن تلاه قرآنا عربيا غير ذي عوج، قال تعالى: ) فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً(النساء: 43)، فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج (المائدة: 6.
على أننا إذا تقبلنا مفهوم القطع كما شرحناه آنفا، وهو أنه لا يفيد البتر والاستئصال، وإنما يفيد الجرح والخدش، أو قطع جزء من اليد، كما فعل الإمام علي كرم الله وجهه، أو أدنى من ذلك أو أكثر قليلا، زال الإشكال عن موضوعين أساسيين من قضايا السرقة:
أولهما: تعدد السرقة، وتعدد العقوبة تبعا لذلك، لأن إيقاع الألم بيد السارق بجرحها وخدشها، يمكن أن يتكرر في اليد الواحدة، إذا ما تكرر صدور السرقة من الشخص الواحد، كما أن قطع جزء من اليد (أصبع أو سلامية أو نحو ذلك) يتيح فرصة إقامة الحد على السارق عدة مرات في اليد الواحدة ، إذا ما تكرر منه فعل السرقة.
ثانيهما: مشكلة تناسب العقوبة مع مقدار السرقة وخطورتها، وهو إشكال احتار فيه الفقهاء كثيرا، إذ لم يستطيعوا أن يقنعوا كثيرا من العامة، بتناسب عقوبة استئصال اليد مع سرقة شيء تافه، كأترجة أو مجن قيمة كل منهما ثلاثة دراهم، أو حتى خمسة دنانير. مما أدى ببعضهم إلى الاستهزاء بالفقهاء قائلا:
يد بخمس مئين عسجد وديت    مابالها قطعت في ربع دينار
فطلبه الفقهاء لمعاقبته فهرب، فأجابه القاضي عبدالوهاب المالكي:
صيانة العضو أغلاها وأرخصها   صيانة المال فافهم حكمة الباري
وهذا غير صحيح، لأن صيانة عرض المسلم ودمه وحرمته، أعظم عند الله من صيانة المال، وحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة.
ونحن نرى- وبالله التوفيق - أن هذا الإشكال قد أزيل بسبب وضوح معنى "القطع"، بحيث يقدر الجرح أو القطع الموقع باليد طولا وعرضا وغورا ومساحة، بما يتناسب ومقدار السرقة وخطورتها وما يصاحبها من ظروف التشديد أو التخفيف. فعن سرقة الشيء التافه يجرح السارق جرحا صغيرا في يده، ثم يكبر الجرح تبعا لمقدار السرقة، ثم يتحول إلى قطع، ثم يتسع مدى القطع تبعا لمقدار السرقة وظروفها.
هكذا يزول الإشكال الفقهي في التعدد والتناسب بين مقدار العقوبة ومدى خطورة السرقة أو تعددها ببساطة ويسر، ودون أن نعطل حدود الله، أو نقطع من السارق ما حرم من دمه ولحمه.
هل يسقط الحد بالتوبة:
يقول تعالى: ) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة39.
أي من تاب من بعد السرقة ورد المسروق نادما عازما على عدم العودة للظلم – أصلح- فإن توبته مقبولة. وهذا يقودنا إلى قضية أخرى كثر الاختلاف فيها، وهي: هل يسقط الحد بالتوبة أم لا؟
لقد قيل بعدم سقوط الحد ولو تاب السارق وأصلح، وقيل يسقط الحد بالتوبة، ولكل فريق حجته من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم- بتأويل خاص:
فالذين قالوا بعدم سقوط الحد بالتوبة اعتبروا أن الأصل هو إقامة الحد، وأن سقوط الحد بالتوبة استثناء لا غير، وأن الله تعالى لم يستثن من هذا الحكم إلا حد الحرابة بنص القرآن: )إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة:34 .
كما استشهدوا بما ورد في سورة النور عن حدي فاحشتي الزنا، وقذف المحصنات، عندما قال سبحانه وتعالى بعد أن أثبت إقامة الحد: )إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(آل عمران:89. كما قال ابن حزم: (لأن الله تعالى لم يسقط الحد بالتوبة مطلقة، ولو أراد ذلك لقال:" إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا " ولم يقل:" مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ "، فلما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ " بين لنا أن هذه التوبة لا تكون إلا من بعد الجلد ثمانين، واستحقاق اسم الفسوق ورد الشهادة، لا قبل الحد بنص القرآن ...) إلى أن قال: (وصح أنه لا يسقط بالتوبة شيء من الحدود حاشا حد الحرابة الذي ورد النص بسقوطه بالتوبة قبل القدرة عليهم فقط)-المحلى 8/130-.
أما من قال بسقوط الحد بالتوبة فقد قال عنهم ابن حزم في كتابه المحلى (8-126): (وقال قوم: إن الحدود كلها تسقط بالتوبة وهذه رواية رواها أبو عبد الرحمن الأشعري عن الشافعي، قالها بالعراق ورجع عنها بمصر، واحتج أصحاب هذه المقالة بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عن ماعز عندما مسته حجارة الرجم فخرج يشتد:" ألا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه؟ يا هذا لو سترته بثوبك كان خيرا لك ".
ونحن تبعا لما فهمنا من كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم - نذهب هذا المذهب، ونعتقد أن الحد يسقط بالتوبة، وأن عدم سقوطه في فاحشتي الزنا والقذف هو الاستثناء، وأن التوبة تسقط الحدود وتجب ما قبلها. وهذا كتاب الله ينطق بالحق بين أيدينا:
·       (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ( (لأعراف:153) .
·       )إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً( النساء17.
·       )ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ( النحل119.
ثم إن السنة النبوية بينت لنا أن رحمة الله سبقت غضبه، كما ورد في البخاري ومسلم ومسند أحمد عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال الله تعالى فيما رواه عنه صلى الله عليه وسلم: "سبقت رحمتي غضبي".
وإقامة الحدود تعتبر انتصارا لغضب الله، وسقوطها بالتوبة من رحمة الله، ورحمة الله سبقت غضبه، قال تعالى: ) كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ( الأنعام12 ، وقال تعالى: ) وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء( الأعراف 156 .
ثم إن آية حد السرقة فصلت في الأمر، وليست محتاجة إلى كل هذه الشروح، فقد نصت على أن التوبة مسقطة للحد بعد السرقة لا بعد إقامة الحد، فقال تعالى: ( مِنْ بَعْدِ ظُلْمِه) أي من بعد قيامه بالسرقة، ولم يقل : ( مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) كما ورد في آية الزنا والقذف التي استشهد بها ابن حزم في الموضوع، مما يدفع استنباط ابن حزم ومن على مذهبه دفعا كاملا.
على أن القول بسقوط الحد بالتوبة مطلقا يفتح بابا خطيرا أمام دعاة تعطيل الحدود، سواء من جهلة المسلمين، أو من المدسوسين في صفوفهم ، أو من أعداء الإسلام الظاهرين المتجاهرين، لذلك وجب – سدا للذرائع وقياما بأمر الله- أن يفهم حكم سقوط الحد بالتوبة جنبا إلى جنب مع ضرورة إقامة حدود الله فهما متكاملا لا يدفع أحدهما الآخر، ولا يسقط أحدهما الآخر.
ولو تأملنا النصوص التي يعتمد عليها الفريقان (من يرى سقوط الحد بالتوبة، ومن يرى عدم سقوطه) وجمعنا بينهما لتبين المخرج من هذا الاشكال:
ذلك أنه ثبت بالقرآن والسنة وجوب إقامة الحدود:
·       )وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( البقرة230.
·       )وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ( التوبة112).
·       )تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ( البقرة 29.
·       )وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ( النساء:14.
·       وقال – صلى الله عليه وسلم- لأسامة: (أتشفع في حد من حدود الله؟ ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
·       وقال: (أما بعد، فإنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد).
·       وقال للمرأة التي قطعت يدها: (أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك).
·       وقال: (كل حد رفع إلي فقد وجب).
كما ثبت بالكتاب والسنة أيضا أن التوبة تسقط الحدود إلا ما استثنـي بنص كما هو الحال في حدي الزنا والقذف. فقال تعالى:
      - )فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( المائدة39 .
      - )وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( الأنعام54) .
      - وقال – صلى الله عليه وسلم- : (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب).
- وقال لصفوان الذي سرق رداؤه، وأراد ألا يقطع السارق: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به).
     - وقال لمجموعة من الصحابة بايعوه: (أبايعكم على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا...ومن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له).
     - وقال – صلى الله عليه وسلم- عن ماعز عندما مسته حجارة الرجم، فخرج يشتد: (ألا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه).
     - وقال لهزال الذي أشار على ماعز بالاعتراف: (لو سترته بثوبك كان خيرا لك).
    - وقال – صلى الله عليه وسلم-: ( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة).
    - وقال: (لا تقطع الأيدي في الغزو).
هذه النصوص لا تتعارض مطلقا مع النصوص الموجبة لإقامة الحد، لأنها متكاملة معها. لذلك إذا نظرنا في مجموعتي النصوص (مجموعة إيجاب الحد، ومجموعة التعافي عنه) وفهمناهما فهما متكاملا تبينت لنا الأحكام التالية:
1-                        الأصل هو أن التوبة تسقط الحدود، إلا ما استثنـي بنص، ولكنها التوبة المقرونة بالإصلاح الذي هو رد المظالم والعزم على الاستمرار في الاستقامة.
2-                        يجب – حفظا لحدود الله- التثبت من صدق التائبين، أو تلاعب المتظاهرين بالتوبة خوفا من العقاب.
3-                        للمتضرر – المسروق منه- أن يعفو عن السارق قبل رفعه إلى السلطة القضائية.
4-                        المجتمع الإسلامي طرف في القضية، يتضرر بشيوع السرقة والخيانة، كما يستفيد من شيوع خلق الأمانة، وينتفع بإقامة الحدود انتفاعه بشيوع التراحم والتعافي بين أعضائه. والسارق من جملة هؤلاء الأعضاء، لذلك يستحب للمجتمع الإسلامي أن يتعافى الحدود بما لا يؤدي إلى تعطيلها، وهذا مفهوم من خطاب الرسول – صلى الله عليه وسلم- لأمته: (تعافوا الحدود فيما بينكم)
لكن ذلك يجب أن يكون قبل رفع قضايا السرقة إلى المؤسسة القضائية التي لا يجوز في حقها التعافي، وما رفع إليها من حد فقد وجب، وهذا يقتضي من المجتمع الإسلامي أن يضع تقنينات تبين ما يمكن التعافي عنه من الحالات، كما في المرض المزمن الذي معه موت السارق إن قطع، وكحالة الحرب التي ينبغي ألا تعطل فيها الأيدي عن تناول السلاح، وحالات المجاعة التي يختل فيها الاقتصاد، ويندر فيها تواجد الحاجات. وكحالة بعض ذوي المروءة والصدق الذين يغرر بهم أو يورطون غفلة منهم...وفي بعض الحالات الأخرى التي تقدر بقدرها.
5-                      الشفاعة في الحدود لا تجوز مطلقا، وذلك لأن الشفيع لا علاقة له بالموضوع، وليس طرفا فيه. وإنما أطرافه هم السارق والمسروق منه، والمجتمع الإسلامي، وقبلهم كلهم الله تعالى. والشفيع طرف غير هؤلاء جميعا، وليس له حق التدخل إلا أن يكون نصيحة أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر. ولذلك منع الرسول – صلى الله عليه وسلم- أسامة من الشفاعة في المخزومية التي سرقت، لكيلا يجترئ الناس عليها فتتعطل الحدود.
6-                      إن من الناس من ستره الله تعالى ولم يقم عليه الحد، فذلك إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فإن هدي للامتثال لقوله تعالى ) وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( النورلآية31، دخل بإذنه عز وجل في جملة المخاطبين بالآية الكريمة: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( الزمر53.