الجمعة، 10 أكتوبر 2014

حول العقل والتجربة، وجهة نظر شخصية

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شك أن فضاء الحرية التي نعيشها حالياً في الانترنت لم يسبقه مثيل على مدى العصور، فقد كانت الأفكار ربما يموت أصحابها قبل أن تلاقي انتشاراً أو حتى نقاشاً. 

نعم إننا في عصر المعلومة والتواصل، حيث يعبّر كل شخص عمّا يجول بخاطره. 

وهنا يحضرني قوله تعالى:

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ

سورة ق - الآية 18

قراءة ممتعة



طبعاً هذا المقال لا يختص بإثبات مادية العقل أو ميتافيزيقيته أو أسبقيته بالوجود أو أنه نتيجة كما سترون من المقال، بل هو يعرض نظرة تضامرية بحتة لوصف الوجود دون الخوض في أصل الوجود وطبيعته.

حقيقة من يريد منكم البحث في موضوع العقل والتجربة والمعرفة العقلية والمعرفة التجريبية سيجد من الكتب والمصنفات والشروح الشيء الكثير، فسيرى مدرسة جون ستوارت مِل ومدرسة ديفيد هيوم، ومدرسة المتكلمين الإسلاميين المتمثلة بملا صدرا مثلاً والطباطبائي. وعموماً ستجد الفرق المختلفة تنتصر إلى مفهومين في الغالب حسب اطلاعي، إما إلى أسبقية العقل على التجربة، أو أسبقية التجربة على العقل. 


وتبدأ المسألة عندي بالتوضح إن اعتبرنا وجود الله بديهية وبالتالي فإن مصدر المعرفة الإنسانية يعود إلى الله فتكون معرفة لا تجريبية في الأساس، وطبعاً هذا الجواب لا يرضي الماديين ولا الطبيعيين. أو تكون كل المسألة عبارة عن تفاعل مع الوجود المادي فتنتج المعرفة ابتداءً بالصدفة وبالخبرة التراكمية ثم يستقبلها العقل فيحولها إلى أنماط وتجارب، وبالتأكيد هذا الجواب لا يعجب المؤمنين. 

وأنا، وحسب رأيي، أرى الفريقان مصيبان، ولا تناقض ظاهري بينهما، بل تكامل داخلي، مثلما يكمّل وجه العملة وجهها الآخر، فلا تكون العملة بوجه واحد! وهكذا ندخل في مفهوم تضامري بحت يحاول الوصول إلى جواب جديد يجمع الأجوبة التي تبدو ظاهرياً متناقضة ومتباينة. 


في البداية سأضع نقاطاً أعتبرها أسساً بديهية لا يختلف حولها الكثير (لابد وجود من يخالف حسب التضامر)، هذه الأسس هي التي اعتبرها أساساً لنظرية المعرفة عندي وبالتالي هي الحاكم على الرؤية المنطقية حالياً عندي. الأسس كالتالي:

  1. الوجود بديهية، فلا يمكن تعريف الوجود بأي تعريف شامل، لأن المعرِّف أقل سعة من المعرَّف به فلا يمكن أن يحيط به. سواءَ أكان الوجود وهمياً أو عقلياً أو حقيقة مادية، يبقى الوجود موجود في درجة من الدرجات المرتبية للمفاهيم المعروفة لنا. 
  2. الإنسان يملك عقلاً، هذا العقل سواءَ أكان ممنوحاً من جهة عليا أو نشأ بطرق مادية بحتة (تطورية)، يملك قدرةً على التعامل مع الوجود، فهو يملك حسب المؤمنين القدرة على الاطلاع على عالم المجرد وادراكه، وحسب الماديين، هو يستطيع انتاج التجريد، وبالتالي وكتحصيل حاصل يستطيع العقل التعامل مع الوجود المجرد وتطوير المفاهيم، دون الخوض في كيفية انتاجها مادياً أم مثالياً. 
هذه هي الأسس التي اعتبرها مصادرات لا احتاج البرهنة عليها بل هي كافية بنفسها وهي تحاول أن تحتوي جميع التناقضات الموجودة دون أن تؤثر تلك التناقضات على محتواها فهي تنظر للنتيجة العملية وتهمل التحليل التَلَوي لتلك النتيجة. بمعنى أننا نتفق على وجود نتيجة ما بغض النظر عن فهمنا اللاحق لها. 

يتعرّض الإنسان منذ ولادته حتى وفاته إلى العالم الخارجي بشتى أشكاله ومشاكله وأفكاره، وبالتالي يقوم الإنسان بالتفاعل مع تلك الأمور مما يؤدي إلى ردة فعل معرفية. ردة الفعل المعرفية هذه تكون إما بأنتاج المفاهيم (حسب المفهوم المادي) أو باكتشاف المفاهيم (حسب المفهوم المثالي)، اذن النتيجة المشتركة هي: ظهور المفاهيم بعد أن كانت مجهولة. هذه المفاهيم تقود إلى غيرها من المفاهيم وهكذا دواليك، وبالتالي يرى البعض أن أصل انتاج المفهوم هي التجربة لا غير.


لكن أصحاب المنهج المادي، لن يستطيعوا الإجابة على سبب نشوء مفاهيم مجردة عالية جداً وهي ثقافة الرموز المتمثلة بالمعادلات الرمزية المشهورة وليس فقط الأعداد والعمليات الجبرية والهندسة. وعلى الطرف الآخر، لن يستطيع اثبات أصحاب المنهج العقلي واقعية تصوراتهم العقلية لمسائل الله واليوم الآخر لأصحاب المنهج المادي خصوصاً كونهم يأخذونها مأخذ الغيب والتسليم فتكون معرفتهم العقلية أقرب للوهم منها لموافقة الواقع المنظور. وبالتالي يكون مفهوم الله نفسه بنظر الماديين هو خدعة نفسية وبنظر المثاليين خبر غيبي أتى به شخص يقول أن يتواصل مع السماء! 


تلك هي باختصار مشكلة المعرفة العقلية والتجريب! فكيف السبيل؟ كما قلت فأنا آخذ بالنتائج ولكن لابد من العودة إلى الأساس قليلاً. ولنأخذ المفهوم المادي بكليّته ونأخذ قضية نشوء المعارف التجريدية عن طريق التجربة. فالمفهوم المادي يقودك بالضرورة إلى وجود المجرد وإن كان عقلياً، وبالتالي وجود الله وجوداً عقلياً بحتاً مثلاً. وهذا يتم عن طريق استقراء الواقع المتمثل بوجود سلسلة من الآباء التي يجب أن تنتهي إلى أب أول، وهذا الأب الأول قائم بذاته، ولأننا لم نجد إنسان مكتفي بذاته فلابد أن يكون لهذا الإنسان مصدراً آخراً مكتفياً بذاته، ومن هنا ينشأ مفهوم واجب الوجود من ناحية تجريبية بحتة عن طريق بعض المصادرات العقلية من مثل: جميع البشر فانين، وكل موجود يحتاج إلى موجِد يختار له الوجود. فحتى تلك المصادرات حسب الماديين هي مفاهيم مادية بحتة! بل هم يعتبرون قانون عدم التناقض مثلاً هو قانون مشتق من الواقع المنظور وبالتالي هو مادي أيضاً. اذن حسب الماديين يجب أن نجرّب قبل أن نفهم.  وطبعاً على النقيض المثاليين الذين يقولون أن العقل يتعرف على الواقع المجرّد لا أكثر ولا أقل.


فماذا أقول؟ أنا أقول أن قضية المفاهيم هي قضية شبه اعتبارية، بمعنى أنها قابلة للنمو والتوسعة، فالعقل بقدرته الذاتية يعمل كبوابات تستقبل الواقع، بمعنى أن الواقع هو الواقع، والعقل يملك "مداخل" هذه المداخل فيها بوابات معيّنة وكثيرة تتعامل مع الواقع، وهذه البوابات قسم منها منطقي وقسم منها اعتباري، والمنطقي ما انطبق مع الواقع والاعتباري ما كان خيالياً، وبالتالي فنشوء المفاهيم العقلية عائد أساساً إلى قدرة العقل المسبقة على اكتشاف أنماط الوجود، فالعقل لا يمكنه إنتاج أي مفهوم بلا قدرة سابقة واضحة وإلا فلا يمكن تفسير سبب غياب علم المنطق مثلاً عن الشعوب البدائية وظهوره مع الشعوب المتقدمة. وبالتالي فالعقل هو آلة، وآلة معقدة جداً في الواقع، وهذه المفاهيم ليست هي الوجود، وليست هي تجريبية، بل هي ما يستقيه العقل من التجربة، وإلا لكانت كل تجربة تعطينا مفاهيم وحيدة ثابتة وليست مفاهيم متعددة تنمو. خذ على سبيل المثال كيف أن فهم العقل للوجود أنتج مفاهيم عالية مثل النسبية والكم دون أن يختبر كثيراً من الامور، فكانت النماذج الرياضية هي الدليل على وجود ظاهرة ما! وبالتالي وإن كانت التجربة هي الدافع لنشوء معرفة، فقبل التجربة ما حدث هو الفضول، والفضول صفة إنسانية ذاتية للعقل، فإنتاج المفاهيم جاء بسبب الفضول.


وهكذا نرى أن هناك تفاعلاً بين العقل والتجربة، فلا يمكن للعقل أن ينتج مفهوماً بلا تجربة، ولا يمكن أن تنتج التجربة مفهوماً بلا وجود عقل فضولي يستطيع ادراكها. ولهذا قالوا قديماً: لو سقطت شجرة في غابة كبيرة، فلم يسمع أحد هذه الشجرة وهي تسقط، فهل سقطت الشجرة؟ والقضية اللطيفة أن العقل لم يكتفي بالتجربة التي يتعرض لها بالصدفة، بل صار ينتج تجارب مقصودة لدراسة الظواهر الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية لتوسيع معرفته، فكان العقل ينتج التجربة لأجل إنتاج المفهوم.

وهكذا فأنا أرى أن لا أسبقية لا للعقل ولا للتجربة، بل العقل والتجربة يجب أن يتواجدا مع بعضهما البعض لإنتاج المفهوم وتطوّره. والعقل بلا تجربة، كمن يحاول أن يعد أسنان الحصان بالتأمل، والتجربة بلا عقل ككاميرا مراقبة تشاهد مجرماً يرتكب جريمة، وسبب كل المشكلة برأيي هي ثقافة الانتصار لفريق دون الآخر. 

وهذا ما أراه حالياً وربما يتغير مستقبلاً. 
ونعتذر على الإطالة.