بسم الله الرحمن الرحيم
إن توجيه الوعي وطريقة التفكير، من الأمور الشائعة في الجدالات المنتشرة بين الناس. ولا يغيب عن الذهن أن من أوسع الجدالات هو الجدال حول التطوّر.
يسارع أنصار التطور إلى وصم رافضيه باللاعلمية وأن رفضهم مبني على أسباب دينية اعتقادية.
وتشكيل الوعي هنا جاء في صورة أن الرفض غير المبني على العلم عيب يصيب الإنسان.
ولكن هل هذه هي الحقيقة بعينها؟
قراءة ممتعة
تقديم
هل يُغتال الوعي؟ بالطبع. وهل يُعاد تشكيله؟ بالتأكيد. هذا ما أشاهده بالطبع. لقد أعيتني المناظرات بين من يقبل التطوّر وبين من يرفضه. ولقد أعيتني أساليب النقاش. ومن بين كل هذا الفيض من الكلام والتراشق والسباب، وجدت أن الصراع تحول إلى مبدأ إيديولجي. بمعنى أن القضية تجاوزت المشكلة العلمية لتتحول إلى صراع حول النظرة للحياة. ومن الضحية؟ العلم.
دعوني أشارككم رأيي بالعلم. فأنا وبالرغم من كوني مسلم مؤمن بالله وبنبيه محمد (ص) إلا إني أعتبر نفسي لا أدري فكرياً، فلم يكن العلم بالنسبة لي يوماً ما سوى أداة للتعامل مع العالم وفهمه، لأن العلم هو إسقاط العقل للواقع على النفس. وبالتالي فإن ما نظنه حقيقة علمية، ما هو إلا تصوّر محدود مبني على المشاهدة المحدودة والأدوات العلمية البسيطة التي نملكها. وقد بيّنت سابقاً في مقالاتي أن الجاذبية والزمن قد يكونان وهماً، بالرغم من أن بعضها يعتبرهما حقيقة. وأيضاً، تقول ميكانيكا الكم أن الوجود يشكله المشاهد، وإلا فأن هناك احتمال قائم أن الشمس لن توجد كما اعتدنا عليها. ولهذا فإن الإطار الفكري العلمي عندي هو إطار ابستمولوجي لا أنطولوجي. أي لا يتدخل بالوجود، ولا يكشف عن حقيقة الوجود، ولكنه يساعدنا بالتعرف على الوجود وفهم حيثيات عمله أكثر. إلا إن هناك من يرى أن الابستمولوجي يؤثر في الأنطولوجي، فأقول أن هذا ممكن نعم، لكن من حيثية فهمنا للأنطولوجي لا من حيثية استقلاله. فالوجود برأيي مستقل ونحن نتعرف عليه. واستقلاله لا يعني انعزاله وانفصاله، ولكن يعني أننا محتوون فيه ببساطة. فنحن نتعرف عليه عندما نتفاعل معه، وإلا فالتعرف عليه ممتنع بدوننا. وكما قيل: لا يمكن معرفة الوجود دون وعي يدرك هذا الوجود. وهذا موضوع متشعب آخر.
تطور أم علم؟
إن التطوّر كفكرة يُسَخِّر ثغرة فكرية مهمة ألا وهي: الزمن الطويل، وقد وقفت على مقال لشخص لا أذكره، مفاده أن الاحتجاج بالزمن الطويل جداً يقود إلى التصديق بالتطوّر. وبالتالي فإن العقل يحيل تغير الكائنات إلى قفزة في الزمن السحيق لم نشهدها. وتلك هي المصادرة المخفية الأولى للتطور. والمصادرة الثانية والأهم أن تراكم الطفرات المفيدة (نسبياً) يقود إلى تكوين الأنواع الجديدة. والمصادرة الثالثة والتي تُعتبر الآلة المحركة للتطور، أن هناك آلية عمياء تقوم بإفناء الأضعف والإبقاء على الأفضل، وهي آلية الاصطفاء أو الانتقاء الطبيعي.
وكما هو معلوم فإنه لا يمكن اثبات التطوّر على المستوى الكبير مخبرياً، على عكس التطور على المستوى الصغير. ولكن التطور على المستوى الصغير محض تكيّفات فالتغييرات في الكائنات موجودة ضمن الشفرة الجينية لا أكثر. فلا كائن جديد ولا هم يحزنون. والكلام الذي أقوله لا ينكره تطوري إلا بالاحتيال وتحريف النتائج التجريبية بالتلاعب اللغوي.
لكن ما علاقة التطور بالعلم؟ وكيف تم الحاق التطوّر بالعلم؟ إن جواب هذه المسألة برأيي لا يأتي من الجانب العلمي بل يأتي من الجانب الاجتماعي والصراع الفكري على انتاج نظرية مادية تحكم الطبيعة وفق الأطر الفكرية المادية آنذاك. وبالتالي نجد أن التطور يوفر الأداة الفكرية المادية المبنية على افتراضات ميتافيزيقة (عقلية) مؤسَسَة مادياً لتشكّل النظرة للعالم. ولأن النظرية تقيس الشاهد على الغائب، ولأن الناس متآلفة مع قضايا التدجين وتغيير الأشكال، فالقاعدة النفسية لقبول نظرية التطور موجودة. ويصبح سؤال لماذا الحصان شكله هكذا سؤالاً بديهياً بسبب وجود الآلة الفكرية التطورية. وقد قال إيرنست ماير في كتابه "هذا هو علم الأحياء" إن التطوّر أعطى علم الأحياء القدرة التفسيرية (بما معناه)، وسؤالي هو هل يقبل علم ما أن ننزع منه أداته التي يفسر بها؟ بالمقابل هل يقبل رجل دين أن يتحطم إلهه الذي يعبده؟
ومن هنا فبنظري أن التطور ليس علماً، بل هو (كما قلت سابقاً) نظرة للوجود سخرّت الأدوات الموجودة لتشكيل الواقع بطريقة معينة. فالمشكلة بين التطوريين والخلقيين تبدأ من زاوية النظرة للوجود. صحيح أن النظرة للوجود هي زاوية مشتركة بين التطور والدين، ولكن ينظر التطور بطريقة مختلفة عن الدين للوجود. فالأول يسخّر الآليات العشوائية والأخير يسخر حكمة الإله. نعم إنه افتراق الأطر الفكرية.
رفض التطور بسبب الدين
لا يرفض التطوّر عموماً إلا المؤمن بحرفية النصوص. أما من يقول بتأويل النصوص واحتمال الرمزية، فلا مشكلة له مع التطوّر. وبالتالي نجد أن من يقول بالخلق والتطور يعتبر آدم إما رمزاً أو طفرة قام بها الخالق، وربما هناك آراء أخرى لم يقف عليها كاتب هذه السطور. والخلاف ليس هنا، بل الخلاف هو ببساطة هل من العيب رفض التطور بسبب الدين؟
جواب هذا السؤال حسب المقدمة أعلاه: لا. فإن كان التطور هو نظرة للواقع، فبالمقابل الدين أيضاً هو نظرة أخرى للواقع. سيعترض أحدهم ويقول أن التطور عليه أدلة، وبالمقابل فالمؤمن بالخلق الخاص المباشر سيقول راداً أن الأدلة هذه ليست قطعية. بمعنى أن قراءة الدليل تختلف. ويبدأ الحشد الفكري والاستعانة باجتماع العلماء والتقدم الطبي ووو حتى نصل إلى افتراق شنيع.
إن رأي كاتب هذه السطور ببساطة: التطور لا يمتلك الدليل العلمي الكافي لإثبات نفسه. كل ما يمتلكه اثبات أمور بسيطة اعتمد عليها في بناء النظرية الكبيرة. فالتطور بنظري أشبه بالفيزياء النظرية، واحتمال خطأ التطور كبير جداً. لكن لايزال العلم يبحث عن بديل فهو لا يتوقف أبداً. باختصار: النظرية لازالت عرضة للنقاش والتعديل (المصدر).
التطور حقيقة ولكن النشوء والارتقاء هو النظرية
إن هذه العبارة منتشرة بين أنصار التطور حيث يعتبرون أن التطور حقيقة عن طريق استقراء تغيّر الأحافير. فنظرية التطور تقف على جبل من الاحافير التي تظهر بشكل يظهر تغييرا في الكائنات حتى نصل إلى الكائنات الحية الموجودة اليوم. الفرضية المتيافيزيقية في التطور: تلك الكائنات اقل تعقيداً ونحن أكثر تعقيداً. وبهذا لا معنى لافتراض من هو أكثر أو أقل تعقيداً. ...انه مجرد خيال يفترضه الإنسان واختراع لمفهوم التطور. أنا لا أنكر وجود كائنات فيها تفاصيل اقل منا، ولكني لا افترض انها اقل تعقيداً منا، فالتعقيد خادع. وبالمناسبة، الشهادات من المختصين أن سجل الأحافير غير كافي. وحتى دراسة الحمض النووي تثبت مشاكل أخرى وتعقيدات تصميمية كبيرة.
لماذا أرفض التطوّر؟
الجواب بسيط: ليس لأنه فقط لا يملك القدرة على تفسير نفسه علمياً، بل نظرته للوجود سطحية وغير قادرة على تفسير ما يوجد حالياً سوى بالمصادرات العقلية. وبالتالي فإن الرفض على أساس الخلاف الديني لا مشكلة فيه إطلاقاً. بل هو دعوة لقراءة الواقع بنظرة محايدة أكثر.
ودمتم سالمين