بسم الله الرحمن الرحيم
لربما، تعرضت في هذه المدونة أكثر من مرة لقضية اجتماع النقيضين من حيث الامكان والامتناع.
لكني لم أقم بتقديم شرح منهجي وافي لهذه القضية بحسب الفلسفة التي أراها وإطاري الفكري الذي اتبعه.
واليوم سأحاول أن أقدم مقاربة توضح لماذا أرى إمكانية اجتماع النقيضين وكيف يتم اجتماعهما.
قراءة ممتعة
إن اجتماع النقيضين من المحرمات الفكرية، إن لم يكن جريمة بحق العقل، بمقياس المنطق الثنائي أو المنطق الأرسطي. فلا يمكن أن تقول أن الجسم الفلاني يجتمع فيه البياض والسواد، أو يجتمع فيه الوجود والعدم. وحسب سلطة المنطق الأرسطي، إن اجتمع النقيضان فإنهما يرتفعان (بمعنى إفناء أحدهما الآخر - أشبه باجتماع المادة بالمادة المضادة والذي يؤدي إلى افناء بعضهما البعض وانتاج الطاقة).
وهكذا نرى أن الكلام أعلاه منطقي جداً، وتلك هي قوة المنطق الأرسطي، فهو يتمسك بما نشعر به ونراه، والكلام أعلاه بديهي لدرجة أن من يقول بعكسه قد يُتهّم بعقله فوراً. ولكن ماذا لو قلنا بأن الكلام أعلاه صحيح بشكل محدود؟ كيف يمكن هذا؟ لنحاول فهم القضية.
أولاً، وقبل طرح المسألة أحب أن اقدّم لكم الأساس الفكري الذي أقوم عليه: إن تعميم أي قاعدة منطقية بشكل مطلق لا يقبل الخطأ مشكلة فكرية، لأن التعميم ناتج من الاستقراء والاستقراء التام محال في حدود الطاقة البشرية، فهو يتطلب الاطلاع على كل شيء في كل مكان وفي كل زمان كان أو كائن أو سيكون. وبالتالي فإن أي تعميم لأي فكرة أو قاعدة منطقية لابد له من شرط يحده ويوضح حدود عمل تلك القاعدة.
ثانياً، يجب التمييز بين عالمي المجرد (الأفكار) والعالم الخارجي. فبالرغم من قول الفلاسفة الواقعيين بإمكانية الاطلاع على العالم الخارجي وامكانية انطباق العلم عليه، إلا إننا نكتشف يوماً بعد يوم ضيق أفق معرفتنا على الرغم من إنها تبدو واسعة ذاتاً، إلا إن السعة هنا "محليّة" لا مطلقة.
اذن، وبعد تلك المقدمة المقتضبة، نبدأ في الإسهاب قليلاً في القضية أعلاه، كيف يمكن أن يجتمع النقيضين؟ لنبدأ أولاً في عالم الأفكار (أو عالم التجريد)، فعندما يقول شخص ما لا وجود للمطلق، فهو حسب المنطق الأرسطي قد أطلق قاعدة فكرية تنفي وجود المطلق، وهذا إطلاق بحد ذاته، وبالتالي فإن النقيضين قد اجتمعا بكل وضوح ولهذا ناقض نفسه بنفسه، ولهذا سقط رأيه.
فهل غياب المطلق هو إطلاق؟ نعم هو إطلاق. وهل هو اجتماع النقيضين؟ نعم هو اجتماع النقيضين؟ هل هذا الأمر صواب؟ نعم هو صواب. وهل هو خطأ؟ نعم بكل تأكيد. إذن أين المشكلة؟ المشكلة في الشروط! فالتعميم لا معنى له بلا شروط. متى يغيب المطلق؟ يغيب المطلق خارج الحدود المعرفية التي يعمل بها. بمعنى عندما نقول أن المطلق غائب، فأين غاب ومتى غاب وكيف غاب؟ كل هذه اسئلة يجب طرحها ويجب إجابتها.
متى يكون الجسم أبيض وأسود في نفس الوقت؟ لربما كان نصفه أسود ونصفه الآخر أبيض، وينظر له شخصان من زاويتين متقابلتين، ولهذا كل شخص يرى النصف الواقع في مدى رؤيته وهذا يفسر التناقض الآني! إن من الاسئلة التي تتحدى القوانين العقلية السؤال التالي: ماذا لو سقطت شجرة في غابة ولم يسمع أو يشهد أو يشعر بسقوطها أحد، فهل سقطت أم لا؟ إن التحدي الذي يطرحه هذا السؤال ببساطة يدخل من باب المعرفة (الخارج)، فنحن لا نملك أي دليل يجعلنا نحدد ماهية حالة الشجرة. بل ببساطة الأفضل أن نقف على حالة اللاأدرية، فنحن لا نستطيع افتراض أنها سقطت أو لم تسقط بسبب غياب أي شاهد.
إذن فقانون عدم التناقض ببساطة لا يمكن أن يعمل دون وجود مراقب خارجي، وهو مبني على الاستقراء وتعميمه ببساطة. بمعنى هل يعمل عدم التناقض لو افترضت وجود كوكب عليه حياة ولا يمكن رصده؟ لو قمنا بتطبيق عدم التناقض فلا يمكن اثبات خطأ تلك القضية أبداً بل هي منسجمة مع ذاتها بالكلية.
ومن هذا فنحن نستنتج الآتي: قانون عدم التناقض مبني على المشاهدة السطحية والاستقراء المباشر للواقع، ولهذا لا يمكن تطبيقه خارج حدوده التي يجب توضيحها. ولنعد لمثال غياب المطلق، فمثلاً إن قلنا إن الفعل الفلاني فعل جميل، ولهذا لا يمكن وصفه بالقبيح. ثم انتقلنا إلى مكان آخر أو زمن آخر فيتحول هذا الفعل إلى أمر قبيح مرفوض. الفعل هو هو، ولكن المراقب الخارجي تغير وبالتالي تغيرت شروط تطبيق عدم التناقض!
أدلة وجود الله لا تسلم هي الأخرى من التعرض للمسائلة وفق هذه النظرة، فلا يمكن اعتبار تلك الأدلة صحيحة إلا بعد افتراض أن هناك واقع خارج الذات وأن السببية فاعلة. وتلك الأفكار لا تقبل وجود ضدها وإلا كان اجتماع النقيضين هو الحال. وبالتالي فإن أدلة وجود الله محدودة بذاتها بحدود الإطار الفكري الذي تعمل فيه أسس تلك الأدلة.
أفكاري أنا، فأنا عندما قمت بتعميم أساس وجود "شرط" لأي قاعدة، فهذا الأساس محدود بحدودي المعرفية والتي أرى أنها نفسها حدود المنطق والعقل البشري، وإلا فلا مانع من وجود القواعد المطلقة بلا شروط عندما يكون هناك وجود مطلق لا يحده أي حد.
أعلم أن الأمر ليس بالسهل وأنه يبدو كلاماً متناقضاً، ولكنها دعوة للتأمل لا أكثر.
دمتم بود.